ماذا لو غيّرنا منهجيات التعليم في مدارسنا؟
في يوم من الأيام اشترى رجل منزلاً، ولدى دخوله إياه اكتشف أن جرذاً يقيم فيه. حاول السيد التخلص من الجرذ بكل الوسائل، لكن الجرذ، أو ما تبين أنه أنثى جرذ، أساءت فهم سلوك الرجل، فاعتقدت أنه يتقرب منها فوقعت في حبه.
من خلال هذه القصة التي يجسدها فيلم الأنيميشن النرويجي "في يوم من الأيام اشترى رجل منزلاً"، تدرّب المعلمون المشاركون في المساقات الشتوية، ضمن مساق الدراما "منهجيات التخطيط والتطبيق الصفّي"، على توظيف الأفلام القصيرة في العملية التعليمية جنباً إلى جنب مع الدراما، بهدف نقاش قيم وأفكار مهمّة مع تلاميذهم بأسلوب غير تقليدي.
والمساقات الشتوية، التي اختتمها برنامج البحث والتطوير التربوي في مؤسسة عبد المحسن القطّان مؤخراً، فعاليات سنوية تنفذ كجزء من برامج التكوّن المهنيّ للمعلمين، التي تسعى إلى تمكين المعلّم من منهجيّات تعليميّة متنوعة. وشارك في المساقات 120 معلماً ومعلمةً، توزعوا على ثلاثة مساقات متزامنة؛ في الدراما والعلوم، والقصة.
وناقش المعلمون الفيلم ورسائله وعملوا على بناء أدوار يستطيعون من خلالها استخدام القيم التي يطرحها الفيلم في غرفة الصف، لاسيما ثيمة تقبل الآخر، كون الفيلم ينتهي بتخطي كلٍّ من الرجل وأنثى الجرذ الاختلاف ليتقبل كل منهما الآخر، ثم يتزوجان ويعيشان في سلام.
ويرى وسيم الكردي، مدير برنامج البحث والتطوير التربوي، إن الفيلم يمس قضايا إنسانية عديدة، تبدأ من مفهوم الوحدة والعزلة، وتنتهي بفكرة البيوت المهجورة، وما بينهما من قضايا، حيث يعيد الفيلم نقاش مفهوم الحب والكراهية، الجمال والقبح، والتباس المعاني في التواصل.
وتابع: غايتي من كل المساق تتمحور حول كيف نبني التخطيط الدراسي بتوظيف الدراما، آخذين بعين الاعتبار الإطار التاريخي لموضوع الاستكشاف، والسياق الاجتماعي له، والسياق الدرامي، والفعل الدرامي في إطار كل ذلك، وتجريب لحظة في الفعل ومعايشتها، بحيث يكون المشارك واقفاً في منطقة تجمع بين الواقعي والمتخيل، والشخصي والأدائي.
ومن المواضيع التي ناقشها مساق الدراما، الذي أشرف عليه، إلى جانب الكردي، كل من معتصم الأطرش وسوسن مرعي، مواقف التعليم في صف الدراما، فالمعلم قد يكون متحكماً في العملية التعليمية، وهو الدور التقليدي، أو ميسراً لها أو ممكّناً لطلابه، بحيث يكون متعلماً وسطهم وبمعيتهم.
واستنتج المعلمون أن المعلم يجب أن ينوّع في أدواره وفقاً للموقف والموضوع واستجابة الطالب، مع التأكيد على أنه كلما قلّ دور المعلم، زادت مكانة الطالب ودوره، وبالتالي قدرته على التعلم.
تقول المعلمة ولاء قراقع إن المساق كان ممتعاً، وأيقظ فيها إمكانات لم تكن تعلم بوجودها، وعلى الرغم من أنها طبقت الدراما مع طلابها مرتين، قإن مفهومها لها أصبح الآن أكثر عمقاً، وأصبحت تركز على دورها كمعلمة في الصف أكثر مما سبق.
ومساق الدراما هو مساق بنائي استكمالي لمعلمين شاركوا في المدرسة الصيفية في جرش مستوى السنتين الأولى والثانية، ضمن شعبتين من المعلمين كل شعبة مرت بثلاثة أيام مختلفة من العمل مع مدرس مختلف.
وتمهد المساقات الشتوية للعمل مع المعلمين خلال الفصل الدراسي الثاني، حيث سيبني المعلمون مخططات وتجارب بمساعدة الباحثين في البرنامج، ويتم تطبيق هذه التجارب والكتابة عنها كجزء من تكونهم المهني في برنامج الدراما الممتد على مدار 3 سنوات.
والدراما في التعليم وسيلة فعّالة من وسائل التربية والتعليم تستخدم بشكل رئيسي النشاط التمثيلي ليتوحد الطالب مع دور معين في موقف معين؛ وذلك بالاعتماد على تجربة وقدرة الطالب الشخصية من أجل هدف تعليمي محدد.
القصّة واستكشاف العالم في غرفة الصف
في قاعة مجاورة، في منتجع القرية السياحية في أريحا، حيث جرت المساقات، عمل باحثو البرنامج على تعريف وتمكين مربيّات الطفولة المبكّرة، المنخرطات في برنامج التكون المهني لمربيات الطفولة، من منهجيات تعليمية قائمة على القصة والدراما وعباءة الخبير.
وعملت المربيات بإشراف الباحثين على إعادة إنتاج قصة شعبية وإعادة تركيبها واكتشافها، هي قصة أميرة صغيرة تعيش مع والدها الملك بعد وفاة والدتها، وتكبر الأميرة في القصر محاطة بسور عالٍ وحب أبيها، والعديد من الخدم والحرّاس.
ويقول مالك الريماوي، مدير مسار اللغات والعلوم الاجتماعية في البرنامج: إن الانطلاق من قصة شعبية تروى للأطفال هو التطبيق العملي للتعليم الذي يبدأ من الثقافة، ولكن وفق نهج تحليلي نقدي يهدف إلى بناء تعليم يقدم العالم للأطفال عبر الانخراط فيه من خلال الفعل.
وإلى جانب الريماوي، عمل الباحثان فيفيان طنوس ومحمد الخواجا، على تدريب المربيات على توظيف القصة في التأسيس لتعليم مبني على مواقف وسياقات تضع طلاب الصف في حاجة لاتخاذ قرارات وبناء مشروعات واختبار للقيم.
وحسب القصة، تخرج الأميرة من القصر وتتجاوز السور والعناية الأبوية، لترى عالماً ممتداً تخيلته لسنوات طويلة، وهنا تكتشف الحياة، لكنها تقع في ورطة وهي إضاعة قلادة والدتها في النهر، وحينها يظهر تمساح يساعدها، ويعرّض نفسه للخطر من أجلها، فتنشأ علاقة صداقة مع المخلوق الغريب.
ويشير الريماوي إلى أن القصة في بعدها الرمزي تمس الطالب والمعلم، فالسور هو الحد بين البيت والعالم، والقلادة هي حدود العلاقة بين الطفل والأم، والقصة تمثل رحلة الطفل من البيت إلى الروضة، وهي بداية المعايير الاجتماعية وقواعد العيش مع الجماعة.
ويتابع: هو تعليم له وجهان، وجه ظاهر معرفي وسلوكي وقيمي، ووجه منهجي عميق يطور القدرات الداخلية والنفسية والعاطفية، ويغني العملية التعليمية بالبعد الإنساني.
وعاشت المعلمات تفاصيل القصة من خلال تصميم غرفة الأميرة، ورسم أغراضها، وقراءة مشاعرها، وتخيّل ملامح الغابة والحيوانات وتصميمها باستخدام مواد أولية. وكذلك قدمن تصوراتهن لأدوار الطلاب في القصّة.
تقول المربية رولا العارضة إن القصة كانت ممتعة، وتحمل مضامين مهمّة، وإنها تتشوق لتطبيقها مع أطفالها، كون الأطفال يجذبهم هذا النوع من القصص.
في حين ترى المربية لبنى حجازي أنها تعلّمت أن المعلمة بإمكانها استخدام وسائل بسيطة من ورقة وقلم وحجر ورمل، لبناء تعليم ممتع لأطفالها، بغض النظر عن إمكانيات المدرسة المادية.
وتضمن المساق، أيضاً، توظيف مقاطع من أفلام سنيمائية أبطالها أطفال، حللتها المربيات واستخرجن موضوعات تعلم وأسئلة تصلح لمشاريع درامية.
يذكر أن هذا المساق ستبنى عليه، أيضاً، تجارب تطبيقية من قبل المربيات، حيث يقمن بالتخطيط والتطبيق والعمل على مشروع خاص خلال فصل دراسي كامل، ثم تقوم كل مربية بكتابة تجربتها على شكل مادة تأملية لتعميم التجربة.
التفكير في العلوم بمنظور مغاير
المساق الثالث الذي قدمته المساقات الشتوية كان بعنوان "التفكير في العلوم بمنظور مغاير: العلوم عبر المعروضات العلمية والفنون والاستقصاء"، واستهدف المعلمين والمعلمات الذين لديهم اهتمام بالعلوم والثقافة العلمية، بإشراف فريق استوديو العلوم، التابع لبرنامج البحث والتطوير التربوي.
واستكشف المعلمون خلال المساق المعروضات العلمية التي بناها فريق الاستوديو، وحللوا الخبرات التعلمية: العلمية والشخصية والاجتماعية والفنية/الجمالية. وكذلك ناقش المشاركون أعمالاً فنية مختلفة، وبيّنوا كيف عبّر الفنان عن قضيته الاجتماعية باستخدام الأدوات والأغراض، مستخدمين العلوم كوسيط.
وعمل الفريق مع المعلمين على إعادة بناء المعروضات والأنشطة والمصادر العلمية التي تعرضوا إليها خلال الأيام الثلاثة، وأضافوا إليها عناصر فنيه لكي تحاكي قضايا علمية اجتماعية في السياق الفلسطيني، مثل قضية زواج الأقارب، والقضايا الطبية، وتحديد الجنس المولود قبل الولادة ... وغيرها.
ويقول د. نادر وهبة، مدير استوديو العلوم، إن هذا المساق يؤسس لبرنامج تراكمي مع المعلمين خلال السنة في موضوع العلوم والفنون وتطوير المعروضات العلمية.
وتابع: نعمل معاً على تغيير دور المعلم من إطار الصف فقط إلى إطار يكون فيه المعلم فاعلاً اجتماعياً عبر عمله مع الجمهور في إثارة التساؤلات الاجتماعية التي تنتج من تطور العلوم، ونعمل معه، أيضاً، على إيجاد الآليات للعمل على مستوى المجتمع المحلي، لكي ينعكس ذلك على طلابه.
السينما والفنون في التعليم
إلى جانب المساقات الثلاثة التي انخرط فيها المعلمون، ضمت الفعاليات الشتوية لقاءات مسائيّة، أولها ورشة بعنوان "ممكنات التعلّم من خلال فيلم روائي قصير"، أدارتها منسقة مسار الفنون في التعليم ديما سقف الحيط، عرضت فيها فيلماً إيرانياً بعنوان "الخبز والزقاق"، نوقشت من خلاله ثيمات الصداقة والعداوة والخوف، وكذلك إمكانية توظيف السينما في غرفة الصف.
وقالت سقف الحيط إن الورشة بمثابة جس نبض لمدى اهتمام المعلمين بالسينما وتوظيفها في التعليم تجهيزاً لإطلاق مسار متكامل في توظيف السينما في سياق تعليمي.
والورشة الثانية كانت حول الفن والمجتمع، أدارها الفنان رأفت أسعد، الذي استعرض أعمالاً فنية أنتجها أشخاص عاديون للتعبير عن قضاياهم المجتمعية، وعُرضت في معارض نظمها مشروع الفنون والمشاركة المجتمعية، الذي ينفذه برنامج البحث والتطوير التربوي في قلقيلية وعنبتا.
وأوضح أسعد أن هذه الفنون التي ينتجها أفراد المجتمع تعد عامل تغيير داخل المجتمع المحلي، في قضايا تخص العادات والحريات والحقوق.
ويعمل برنامج البحث والتطوير التربويّ، منذ 12 عاماً، على تحسين نوعية التعليم في فلسطين والعالم العربيّ عبر برامج ومشاريع مستمرّة؛ منها الدراما في التعليم، والثقافة والفنون والمشاركة المجتمعيّة، والتكوّن المهنيّ لمربيّات الطفولة المبكّرة، وذلك انطلاقاً من إيمانه بأن أيّ تغيير في المجتمع يجب أن ينطلق من مفاصل التعليم الأساسيّة.