"لِكيْ يعيش الإنسان ينبغي له أن يستشعر وجوده، وليحدث هذا، فإنه بحاجة للتعليم الذي يكشف له عن ملكاته الإبداعية في فهم العالم ونقده وتطويره، وهو ما لا يحدث إلا من خلال عملية تعليمية تأخذ الطالب إلى العلم دون أن تقهره عليه، بل تكتفي فقط بسدّ الثغرة بين فهمه الخاص وبين المادة العلمية"، بالانطلاق من فهم باولو فريري هذا، في نظريته عن تعليم المقهورين، ننطلق للحديث عن مشروع "الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية"، وبخاصة مسار المعلمين الذي ينفذ ضمنه، والذي ينخرط فيه اليوم 71 معلماً ومعلمةً، من الضفة الغربية وقطاع غزة، موزعين على 19 مدرسة (حكومية، وكالة، خاصة) لتنفيذ أنشطة وفعاليات مجتمعية، ناتجة من مبادرات مجتمعية تربط المجتمع بالمدرسة وتُسائل المجالس المحلية عن دورها في تلك القضايا.
يتتبع هذا المسار منهجية التعلم عبر المبادرة المجتمعية، من خلال تشجيع الطلبة والمدرسة على الانخراط في رحلة من الاستكشاف والبحث والسعي من أجل الوصول إلى تحسين وضع/شيء ما في مجتمعهم، حيث تساهم هذه المنهجية في تقوية القدرة على الملاحظة الواعية للمحيط، إلى جانب تعزيز الحوار، وتحفيز أدوات التفكيك لدى الطلاب، والأهم هو إدراك الدور المجتمعي، والقدرة على المساهمة والتغيير. وتعتمد هذه الطريقة على فلسفة إنتاج معانٍ جديدة، من خلال البحث عن مبادرات غير تقليدية، عبر توظيف البحث الثقافي والحوار الاجتماعي والأدوات الفنية، حتى يبدع الطلاب في خلق المعنى الجديد الخلاق بالحركة والفعل النوعي، بما ينقل العملية التعليمية إلى مرحلة الممارسة.
تقول المعلمة فداء ربايعة ضمن مبادرة مدرسة بنات ميثلون الأساسية، إنه وعلى الرغم من أن مبادرتهم تسعى إلى إحياء غرفة مهملة في المدرسة، وتحويلها إلى غرفة متعددة الاستخدامات، يمكن أن تصبح مسرحاً، أو مرسماً، أو غرفة رياضة، أو قاعة اجتماعات، فإنها ليست محصورة داخل أربعة جدران، حيث إن حماس الطالبات الملفت دفعهن إلى إشراك أكبر مجموعة ممكنة من أفراد المجتمع المحلي، بما في ذلك البلديات، وبالتركيز على أولياء الأمور، إلى جانب التفكير بهذه المساحة كفضاء يخدم المدرسة والطالبات كما يلبي احتياجات المجتمع.
وتضيف: "ركزت الطالبات على أن تكون المبادرة نفسها هي التي تنتج الأفكار، وأن يتم تطبيق هذه الأفكار بأيديهن، وهو ما جعلها مبادرة مميزة، غير منحصرة بمعلم ومدير وورقة". وهو ما يخدم أهداف مسار المعلمين لبناء تدخلات تعزز مفاهيم الحوار والمشاركة في المدرسة والمجتمع، ويقود المبادرات المدرسية المعلمون والمعلمات والطلاب والطالبات، حيث تبدأ من "مشروع في مدرسة" إلى "مدرسة في مشروع"، ومن "حوار مدرسي" إلى "مدرسة تقود الحوار الاجتماعي في محيطها"، إيماناً بدور المدرسة والعملية التعليمية في الحراك المجتمعي، ودور المعلم في العملية التعليمية.
وبالحديث عن المعلم ضمن هذا المشروع، يمكننا النظر إليه بجدليات علاقته بالمجتمع وعلاقة كليهما بالسلطة، ودوره بالتحرر والتغيير، فيما لا يقصد بالسلطة السلطة السياسية على وجه الخصوص، إنما السلطة بمعناها الأعم والأشمل، وهو مجال بحث وتفكير شغل التربويين على مدار سنوات طويلة، وهو ما نراه في انشغال باولو فريري، بكيفية تغيير دور التعليم، بأن يعيد للمقهورين صوتهم وكرامتهم، من خلال الوعي بالتعليم كشرط أساسي لتحررهم، وفي ضوء ذلك يرى فريري أنه لا يوجد تعليم محايد؛ فهو إما أداة للقهر أو مُحفّز للتحرير، وفي ذلك يقول "التعليم عملية سياسية كما أن السياسة عملية تربوية!".
وعن تجربتها ضمن هذا المسار، تقول معلمة أساليب تدريس اللغة العربية في مدرسة الدكتور عقاب مفضي الثانوية للبنات في مديرية التربية، آسيا خليلية: "هذه التجربة تبني نمط تفكير مختلفاً يثبت جدارته بشكل تدريجي؛ فحواه أن الطالب شريك أساسي في هذا المجتمع، وهو محرك محوري فيه، وهو القادر، وبشكل كبير، على التأثير إذا ما وجه توجيها صحيحاً".
وتضيف: "اعتمدت الورشات التدريبية على التوجه نحو بناء علاقة قوية بين الطالب والمجتمع تعطي الطالب حيز العمل والإنجاز، وبالتالي يشعر بقيمته ووجوده ويترك التغيير الذي طرأ بسببه أثراً إيجابياً بعيد المدى".
هذا، وتتمحور المبادرة التي تنفذ في مدرسة الدكتور عقاب مفضي، التي تقودها المعلمة آسيا حول توفير مكان للتفاعل بين الطالبات داخل المدرسة والمجتمع المحلي، لتنفيذ عروض مسرحية وفعاليات وأنشطة فنية وثقافية تعبر عن اهتماماتهن وأولوياتهن داخل المدرسة والقرية، وتستند فكرة المكان إلى تطوير وعي الطالبات والأهالي بأهمية تنفيذ الفعاليات الثقافية والفنية في قرية حوّارة، وتهدف إلى زيادة الروابط المجتمعية بين المدرسة والمجتمع، وإشراك الطالبات بشكل واضح في التغيير، حيث قامت الطالبات ضمن المبادرة بإجراء مقابلات مع نساء في القرية كنماذج لتجارب نوعية أو مبادرات ناجحة، إلى جانب استضافة مجموعة من أهالي المنطقة لتعليم الطالبات في موضوعات معينة لها علاقة بالأشغال اليدوية، والمسرح، والفنون، وصناعة الصابون، والتطريز. وأخيراً الاجتماع مع رئيس البلدية والأعضاء لمناقشة دور البلدية في المبادرة، وفي توفير الدعم والمكان، مع التأكيد على أن المكان ليس محور المبادرة، إنما بناء حراك مجتمعي داخل القرية حول قضايا لها علاقة بالثقافة والفنون.
وفي رأي فريري، فإن الحل لقضية القهر في نظام التعليم التلقيني، هو الانتقال إلى تعليم يهدف، في جوهره وفي أسلوبه، إلى خلق وعي ناقد، مبني على أساس من التعليم التحرري، الذي يبنى بالإيمان بالإنسان، وخلق الوعي الثقافي، والسعي نحو الحرية، بحيث ينظر فريري إلى الإنسان والإنسان المقهور على أنه كائن عقلاني، واعٍ، مبدع، قادر على صناعة أقداره، له الحرية في اتّخاذ خياراته ومساراته، وهذه النظرة الإيجابية للإنسان شرط أساسي لنهوض التعليم التحرري وفق فلسفته.
تشير رجاء فرح معلمة في مدرسة بنات بيتونيا الثانوية إلى أن خطتهم كانت بشكل دائم هي صنع تجربة كلها شغف وتعلم غير مألوف للطالبات، وتقول: "أكثر ما يشغلني هو كيف نجعل كل تجربة رحلة تعلم طويلة الأمد، ولذلك قمت بالتركيز على معنى الدور الذي ستقوم به الطالبات في هذه التجربة"، وحول المبادرة، فهي تطمح للتغيير بشكل إيجابي في شكل ومعنى بلدة بيتونيا بشكل عام، وبشكل خاص لتغيير نظرة الطالبات نحو دورهن وأهميته لإحداث تغيير مجتمعي عن طريق الفن بأشكاله المختلفة.
وفي مدرسة أبو نجيم الثانوية المختلطة، تم تأسيس مكتبة مجتمعية في أحد المزارات الأثرية المهملة التي قاموا بترميمها وتجهيزيها بدعم من المجتمع المحلي في منطقتهم الواقعة في بيت لحم، ضمن مبادرة بعنوان "تراثنا في سطور"، وبإشراف من المعلمة فاتن دبس. واعتمدت هذه المبادرة على استكشاف المحيط واحتياجاته من خلال جولة ميدانية لمناطق عدة في القرية، للبحث عن تاريخ تلك الأمكنة وقصصها وما هي علاقة ذلك بالأهالي، ومن ثم الاجتماع مع أعضاء بلدية للحصول على غرفة داخل موقع أثري، بجانب المدرسة، والاجتماع مع وزارة الأوقاف ومديرية التربية والتعليم من أجل الحصول على إذن للعمل فيه، ليتم بعد ذلك تنظيم يوم تطوعي لتجهيز المكان وتنظيفه، حيث تم دهان المكان وزراعة النباتات فيه من قبل أشخاص من المجتمع المحلي، فيما تم أيضاً تجميع كتب من الأهالي لفتح مكتبة في المكان، وقد كانت هناك مساهمة كبيرة من الأهالي في تجهيز المكان وتأثيثه.
يذكر أن هذه المبادرات المدرسية المجتمعية، تأتي ضمن مسار مبادرات المعلمين، الذي تنفذه مؤسسة عبد المحسن القطان، بتمويل مشارك من الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون (SDC)، الذي من خلاله ينخرط المعلمون بتنفيذ مبادرة مدرسية، تنطلق من المدرسة نحو المجتمع بعملية تشاركية مع الطلبة والمجتمع المحلي.