كانت أواخر ستينيات القرن العشرين فترة تسييس عالمي. راح إدراك البشر لضروب عدم المساواة في هذا العالم ينمو ويكبر في كلّ مكان، لا سيما الشباب. وانتشرت الاحتجاجات والحركات الاجتماعية المناهضة للحروب الإمبريالية في فلسطين، وفيتنام، وأيرلندا، وسواها في ذلك الوقت، كما انتشرت مناهضة الظلم الاجتماعي المتعاظم، وذلك بدفعٍ من حركات الحقوق المدنية وحقوق العمال وحقوق النساء. وتسربت أفكار التحرر والحرية بقوة إلى الفنون، حيث وجدت الطليعة فضاءً تتفتح فيه وتزدهر.
عبّر اليابانيون عن اهتمامهم بعدد لا يحصى من السياسات الوطنية والخارجية ذات الأهمية، شملت رسوم الطلاب، وإعادة توزيع الأراضي الزراعية، والوجود العسكري الأميركي المتواصل. وفي ذلك الوقت، أطلقت مجموعة واسعة من المشتغلين في الفنون البصرية والكتّاب والموسيقيين والنقّاد الذين يستلهمون النظرية النقدية الماركسية، نقاشاً نظرياً حول الفنون. وعمدت مجموعة مكوّنة من ممارسين ومفكّرين إلى مقاربة الفنون مع تركيز على أهميتها الاجتماعية والسياسية، لا من حيث الرسالة فحسب، بل من حيث الوسيط أيضاً. وطرح هؤلاء أفكاراً تعيد النظر في قيمهم الليبرالية، وكان من بين هذه الأفكار، نظرية المشهد (Fukēi-ron). إذ راحوا يلحظون أنَّ مشهد ما بعد الحرب في أرجاء البلاد كان يُبنى على نحوٍ يخدم غايات التوسع التجاري، والعمران المديني، لا من أجل أن يكون وطناً قومياً لمواطنيه. وكان من الواضح أنَّ مردّ ذلك هو تسارع الرسملة، واختلال توازن السلطة السياسية. وقدّم أولئك الممارسون والمفكّرون، من خلال صورهم وكتاباتهم، نظرةً إلى تلك المشاهد، توضح كيف أثّر المشروع المشترك بين الدولة والقطاع الخاص في حياة الناس. وأوضح نقدهم الجذري للفشل الاجتماعي الاقتصادي أنَّ هذا المشهد هو مشهد ظالم اقتصادياً ويسبب العزلة والكبت.
تتكوّن سينما هذه النظرية، عموماً، من لقطات ثابتة وطويلة للمشاهد -سواء أكانت حضرية أم ريفية أم سواهما- عادة ما ترافقها موسيقى ذات طبيعة بطيئة وواسعة بالمثل، تتخللها فترات من الصمت. ونحن "نصغي" إلى السرديات من خلال هذه الصور العميقة، ما يتيح للسينماتوغرافيا أن تسحب المشاهِد وتشدّه إليها. وبذلك تضاهي البنية وحالات الصمت الطاغية التي يقدمها لنا الفيلم، العمارة الطاغية التي تقدمها الرأسمالية المسيطرة الجامحة التي تلوح في الصور. ومن خلال حكاية الحكايات على نحو سلبي، بخلاف السِّيَر أو قصص الجريمة التقليدية، يُدعى الجمهور ليلحظ السياقات المحيطة. صور النظام مقابل الفوضى، من يملكون مقابل من لا يملكون، العاملين والأصحاء والمطمئنين مقابل من ليسوا كذلك. لكنَّ هذه الصور تطرح التساؤل، أيضاً، حول ما يصاحب ملاحظة المرء هذه العناصر في محيطه، وما الشعور الذي يولّده لديه مثل هذا السياق، وفي وقت يتصاعد فيه الإحباط السياسي وما يولّده من عزلة، ما الذي يمكن أن يُدفع المرء إلى فعله كي يُعترَف به أو كي يخلق معنى لحياته؟ وكذلك أيضاً ما مدى جلاء الرؤية في عالم معقد ومغيظ مثل هذا العالم؟
ما يقدّمه هذا القسم من أفلام هي من إخراج ماساو أداتشي وإريك بودلير على التوالي. صُنعت هذه الأفلامُ، كلٌّ على حدة، خلال خمسين عاماً، في سياقات مختلفة تماماً، لكنها استخدمت العناصر ذاتها، وتناولت القضايا بالعقلية ذاتها. نعاين هنا جرائم قتل مدنيين، كما نعاين الظروف السياسية المعتادة التي أحاطت بالقتلة. ومع أنَّ هنالك أمثلة أخرى لنظرية المشهد، لا سيما من الحقبة التي تشكلت فيها هذه النظرية، فقد اختيرت هذه الأفلام لمكانتها المميزة في هذه المدرسة. ويُعدُّ فيلم أداتشي الشهير بالقاتل المتسلسل (AKA, Serial Killer)، العمل الأساس الذي أدخل النظرية إلى السينما؛ إذ كان استخدامه الصوت والبصريات، على وجه الخصوص، نقطة تحول في السينما. كما دفع هذا الفيلم أداتشي وإضرابه صوب انخراط سياسي أشدّ فاعلية في هذا النوع من السينما، الأمر الذي يمكن أن نراه في فيلم الأسبوع التالي إعلان حرب عالمية (Declaration of World War).
تتسم الأفكار التي تُشكِّل نظرية المشهد بأنّها عميقة عمق الصور التي تتعرّف بها هذه النظرية. ونحن نرى، اليوم، هذه الأفكار وهي تتغلغل في فروع أخرى، وفي أفلام من سياقات أخرى، حول العالم. وسوف نقدّم خلال هذا البرنامج جوانب نظرية المشهد: ما لا يُرى، ما لا يُقال، طبقات السيطرة داخل مشهد معين.
11/01/2023
الشهير بالقاتل المتسلسل (1969)
86 دقيقة| اليابان| اليابانية مع ترجمة انجليزية | المخرج: ماساو أداتشي
عن الفيلم:
يتناول الفيلم الوثائقي الجذري الموسوم بـ "الشهير بالقاتل المتسلسل"، حياة نور ناغاياما، البالغ من العمر تسعة عشر عاماً، الذي قتل أربعة أشخاص في أربع مناطق مختلفة من اليابان. لا يعمد أداتشي، في صناعته هذا الفيلم، إلى حكاية قصة حياة ناغاياما وجرائمه على نحو خطيّ متسلسل، بل يجد أنَّ المَشاهد التي وقع عليها ناغاياما وجهاً لوجه تكفي لتبيان الاضطهاد الذي سبق سلسلة الجرائم هذه. وبدلاً من النظر إلى الشخص في قلب القصة، ينظر أداتشي إلى الفضاءات والأمكنة التي تحيط به؛ ذلك أنّها تعكس، بالنسبة إلى أداتشي، اختلالاً في الوضوح والرؤية، حيث البشر لا يُرَون، وتكون السيطرة لبنى الدولة.
18/01/2023
الجيش الأحمر/الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: إعلان حرب عالمية (1971)
71 دقيقة| اليابان| اليابانية مع ترجمة إنجليزية | المخرج: ماساو أداتشي
عن الفيلم:
في العام 1971، وفي طريق عودته من مهرجان كان السينمائي، سافر ماساو أداتشي مع زميله المخرج السينمائي، كوجي واكاماتسو، وهو أيضاً عضو في المجموعة المؤسِّسة، إلى لبنان للعمل مع الجيش الأحمر الياباني الذي تمركز هناك، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وكان يدور في خلدهما أن يواصلا إنتاج أفلام تتبع هذه النظرية، إنّما على خلفية أممية ومناضلة هذه المرة. وكان هذا الفيلم منعطفاً بالنسبة إلى أداتشي؛ ذلك أنّه هجر السينما، بعد هذا الفيلم في العام 1974، ونذر نفسه للقتال من أجل فلسطين. وسُجن في بيروت في العام 1997، وسُلِّم إلى اليابان في العام 2001، حيث يواصل صناعة الأفلام.
25/01/2023
حملة مي وفوساكو شيغينوبو، ماساو أداتشي و27 عاماً من دون صور (2011)
66 دقيقة| فرنسا| اليابانية والإنجليزية مع ترجمة إنجليزية | المخرج: إريك بودلير
عن الفيلم:
يقصّ إريك بودلير ملحمة الجيش الأحمر الياباني السياسية والعسكرية بوصفها حملة، رحلة عسكرية هي في الوقت ذاته ترحال صوب المجهول وعودة إلى الوطن. من طوكيو إلى بيروت في خضم ما بعد فورة 1968 الأيديولوجية، ومن بيروت إلى طوكيو في نهاية السنوات الحمراء، يقصّ اثنان من أبطال جماعة جذرية من اليسار الثوري، حكاية مسار هذه الجماعة خلال ثلاثين عاماً. لقد شهدت مي شيغينوبو، ابنة مؤسسة الجماعة الصغيرة، هذا المسار عن كثب. فقد وُلدت في السرّ في لبنان، ولم تعرف سوى حياة التخفّي إلى أن بلغت السابعة والعشرين من عمرها. غير أنَّ حياةً أخرى بدأت مع اعتقال والدتها وتكيّفها مع حضور بالغ العلنية فجأةً. أمّا ماساو أداتشي، المخرج الياباني الخبير الأسطوري، فتخلّى عن السينما ليحمل السلاح مع الجيش الأحمر الياباني والقضية الفلسطينية في العام 1974. لقد عاش هذا المنظّر الذي يقف وراء نظرية المشهد، والمخرج الذي صوّر المشاهِد كي يكشف بنى السلطة كلّية الحضور، سبعة وعشرين عاماً من المنفى الطوعي من دون صور؛ ذلك أنّ تلك الصور التي صوّرها في لبنان تخرّبت في ثلاث مناسبات منفصلة خلال الحرب. ولذلك، فإنَّ الكلام والشهادة والذاكرة (والذاكرة الزائفة) هي التي تبني فيلم حملة مي وفوساكو شيغينوبو، ماساو أداتشي و27 عاماً من دون صور.
النصّ من:
Eric Baudelaire’s website, online at https://baudelaire.net/The-Anabasis-of
لمزيد من القراءة، يُنظَر:
Erika Balsom’s text on truth and post-truth in relation to this film, online at https://www.e-flux.com/journal/83/142332/the-reality-based-community/
01/02/2023
الشهير أيضاً بالجهاديّ (2017)
100 دقيقة| فرنسا| مترجم للإنجليزية | المخرج: إريك بودلير
عن الفيلم:
تُحكى هذه القصة المحتملة عن رجل، اسمه عزيز، من خلال المشاهد التي يعبرها: العيادة حيث وُلد في ضاحية فيتري، الحواري التي ترعرع فيها، مدارسه، جامعته وأماكن عمله. وبعد ذلك سفره إلى مصر وتركيا، والطريق إلى حلب، حيث ينضوي في صفوف جبهة النصرة في العام 2012. يتبع هذه الرحلة خط آخر للقصة، مؤلَّف من مقتطفات من السجلات القضائية: استجوابات، تنصّتات هاتفية، تقارير مراقبة. وتُشبَك الوثائق، مثل صفحات من مخطوط، مع صور وأصوات لتكوّن فيلماً لا يخصّ شخصية مفردة، هي عزيز، بقدر ما يخصّ مشاهد معمارية وسياسية واجتماعية وقضائية تكشفها قصته.
كان هذا الفيلم جزءاً من معرض عنوانه (Aprés)، أقيم في مركز بومبيدو في باريس في أيلول 2017. من أجل المزيد عن المشروع والأفكار التي يواجهها، تُنظَر صفحة المشروع على النت:
مراجع لمزيد من القراءة: نظرية المشهد
Mengna Da, ‘Surveying Landscape for Clues to Political Violence’, Hyperallergic, 14 April 2017, https://hyperallergic.com/372568/surveying-landscapes-for-clues-to-political-violence/
Becca Voelcker, ‘Landscape Theory in Postwar Japanese Cinema: Fukeiron in Masao Adachi’s A.K.A. Serial Killer’ in Penser l’espace avec le cinéma et la literature, ed. Ludovic Cortade and Guilliaume Soulez[1] (New York: Peter Lang, 2021).
"كنا نصنع فيلماً عن كيف اضطهدت اليابان ومشاهِدها الشعب. وأدركنا كيف يعكس المشهد صورة قوة المجتمع. كانت المشاهد كافية". (أداتشي)
"يقع الفيلم في الفترة الفاصلة بين احتجاجات الطلاب والشارع المتصاعدة التي أُخمدَت بالقوة في منتصف العام 1969، والكفاح المسلح، حيث شارك أداتشي كعضو في الجيش الأحمر الياباني الثوري".
(نيهون سيكيغون)