ملك عفونة
في مقال بعنوان "المكان المنقرض"، يستعرض حسين البرغوثي نهجين لمقاربة المكان، يعيد أحدهما إنتاج المكان في الوعي بطريقة "متوالية" من الأقدم إلى الأحدث، ضمن عمق كرونولوجى متواصل، منتقلًا من ذاكرة إلى أخرى، ليتقدّم التاريخ عبر جغرافيا ثابتة. أمّا الآخر، فيجاور النسخ الزمنيّة المختلفة من المكان على شكل كولاج، معيداً إنتاج المكان في الوعي بطريقة "متوازية"، على شكل مسطّح زمني، يتحوّل فيه التاريخ بحدّ ذاته إلى جغرافيا جديدة.
السرديّة الأحاديّة والذات المُثبتة
يتّسق السرد الزمني الذي ينظُم معرض "بلد وحّدّه البحر" -إلى حدّ كبير- مع النهج "المتوالي"، باستعراضه محطّات من تاريخ الساحل الفلسطيني، تنطلق منذ منتصف القرن الثامن عشر وصولاً إلى العام 1948. يتتبّع كلّ قسم من أقسام المعرض مقطعاً من مقاطع التاريخ المذكور، مكوّناً سرديّة أحاديّة، يتشارك في دفعها إلى الأمام مجموعة من المواد الأرشيفيّة، وبعض الأعمال الفنيّة التي تتخلّلها. يتطوّر فهم الزائر لسياق هذه المواد عبر معونة ضروريّة من التعقيبات التوضيحية. تشتقّ "المعونة" أحد تعريفاتها من تصنيفات العقيدة الإسلاميّة لأنواع الأمور الخارقة للعادة، وتُطلق على ذلك الأمر الخارق الذي يُحدثه الله على يدّ شخصٍ من العامّة، ليخلّص نفسه من خطر ما. مثل انبثاق عين ماء مفاجئ أمام تائه في الصحراء لتنجيه من الموت عطشاً. تؤدّي التوضيحات بالنسبة لزائر المعرض دوراً شبيهاً بعين الماء هذه، دونها يخاطر المعرض بتحقيق هدفه المتمثّل في "تأمّل تجارب الماضي" الممتدّة عبر مئتي عام، ومراجعتها خلال ساعة أو ساعتين من زمن التجوّل الفردي عبر صالة العرض. في ظلّ التحدّي الذي تخلقه محدوديّات الوقت والمساحة والسياق أمام هدف طموح كهذا، ينتقي المعرض من الماضي المديد عيّنات حَدَثيّة تشترك في إظهار الذات الفلسطينيّة الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعية الفاعلة، وتَصلُح كمواد مُلهِمة ونموذجيّة.
يوضّح البرغوثي أنّ النهج المتوالي يختزل الوعي بالتاريخ إلى مجرّد وعي ذاكراتيّ، يستجدي "في السياق الاستعماري للحالة الفلسطينيّة" شرعيّة امتلاك الوطن وأحقيّته من مرجعيّات تاريخيّة متجمّدة. وكأنّ جسد الحاضر لن ينبض إلّا بروح الماضي. نوع من أنواع الفاشية الممزوجة بعقيدة تناسخ الأرواح، تُعزى فيها إلى جثّة الحاضر العاديّة قوى خارقة تنبعث من الماضي العظيم عبر نشوة التذكّر، فيسبق موتُ الحاضر ولادَتَه. يتعامل هذا النهج مع الصيرورة باعتبارها تكراراً للحظة انتصار، أو نسخة عن الأصل.
السرديّة الثنائيّة والذات المنفيّة
في المقابل، تتجاور الجغرافيات في معرض "فلسطين من الأعلى" عبر أزمنتها المختلفة دون الارتهان إلى ترتيب كرونولوجي، لتبدي بذلك اتّفاقاً أكبر مع النهج "المتوازي"، الذي يتجاوز العلاقة التقليدية بين العمق والسطح متيحاً بذلك القدرة على إعادة إنتاج إبداعيّة للمكان في الوعي، وخلق سياق جديد وقصديّ لاحتواء التاريخ المتجمّد. يختار المعرض، من ضمن هذه الإمكانيات، أن يقتبس من الرواية التاريخيّة اللحظات التي تُغيّب فيها الذات الفلسطينيّة عن الأرشيف المادّي والثقافي الاستعماري الذي يتناول أرض فلسطين. تتطوّر سرديّة الذات المنفيّة هذه عبر مجموعة من المواد الأرشيفية، وتوازيها سرديّة مُضادّة تتكشّف عبر أعمال فنّيّة بصريّة وصوتيّة تملأ المشهد بالوجود الفلسطيني المسلوب. بإمكاننا التعبير عن تجاور هاتين السرديّتين بطريقتين مختلفتين، فنقول: يوظّف المعرض الرواية الكولونياليّة المهيمنة بطريقة مقارنة بهدف نقدها. أو نقول: في محاولاته لنقد الرواية الاستعماريّة المهيمنة من خلال استعراضها الكثيف، يعيد المعرض إنتاجها والارتهان باستطابة إلى سلطتها، أي إنّ المعرض، على الأقل، يخاطر بالوقوف عند ما هو مضلِّل تاريخيّاً.
تتّخذ الأعمال الفنّيّة والأفلام التي تكوّن السرديّة المضادّة حضوراً هامشيّاً مكتفياً بدور الرّدّ، منقاداً بذلك إلى اختيارات الرواية التي يردّ عليها. أيّ إنّه بدلاً من محاولة تفتيت المركزيّة أو خلق مركز خاصّ وموضعة الذات فيه، فإنّه يكتفي بخلق مسافة تُبعِدُه عن مركز الهيمنة، وينأى بنفسه داخل الهوامش التي يحدّدها المركز الاستعماري.
يوضّح لنا دولوز أنّ نموذج الاحتواء يحلّ محلّ نموذج الإقصاء في تمثيل آليات عمل العنصرية الأوروبية مثلاً، التي تعمل من خلال تحديد درجات اقتراب الآخر من صفات الذات العنصريّة المعياريّة. وهذا يُفقد الآخر آخريّته، وينفي وجود ما هو خارجيّ عن الذات العنصريّة الكلّية طاغية الحضور. لا يتحقّق الفصل في هذا النظام بخطّ قاطع بين داخل وخارج، ولكن بخطّ داخليّ يرتسم بين سلاسل لا متناهيّة من الدوال التي تولّد إحداها الأخرى، وبين ما تخلقه من اختيارات ذاتيّة. يخبرنا دولوز، أيضاً، في كتاب "ألف هضبة: الرأسماليّة والانفصام" كيف يتشارك نظامان من أنظمة الدلالة في صياغة فهمنا لذواتنا وللعالم، يعملان معاً مثل جدار أبيض تتخلّله ثقوب سوداء تُنتجهما آلة مُجرّدة. بشكل مبسّط ومُختَزل، تبثّ هذه الآلة على بياض الجدار دوالّ ينتجها (النظام) المستبدّ لضمان هيمنته واستمراره، فنتعرّض أثناء وجودنا على هذا السطح الأبيض إلى عملية ترميز مستمرّة تتيح للمستبدّ استمرار قراءتنا والتعرّف علينا وتوقّعنا، وفي الوقت ذاته، توجّه دفّة فهمنا للعالم الذي يسوده هذا النظام، عبر سلسلة المدلولات المُرجأة أبداً في الدوالّ التي يبثّها مركز هذا المستبدّ. ولكنّنا لا نفتأ نحاول الانفلات من عمليّة الترميز هذه، ومغادرة الجدار الأبيض كليّ الانكشاف والاختراق، وهنا تبدأ عمليّة صناعة الذاتيّة، التي لا يمكن إلّا أن تحدث عبر السطح الأبيض نفسه، وقد هيمن على كل مساحات العالم الرمزيّة، ونفى وجود "الخارج". وبهذا نغادر نحو ذواتنا التي نظنّها منفردة ومميّزة من خلال السقوط في ثقوب سوداء، تخترق هذا الجدار الأبيض، لكنّها تمتصّ داخلها مكوّنات الجدار الأبيض نفسه. في هذه الثقوب، يتحوّل الحضور الاستبدادي إلى حضور سلطوي، يمارس النظام سلطة الترميز ذاتها، ولكن بطريقة اختياريّة لا إكراهيّة. هكذا يبدو ترتيب السرديتين في معرض "فلسطين من الأعلى": مسطّح أبيض (تؤلّفه جدران المعرض) يهيمن عليه حضور طغياني لدوالّ استبداديّة (تمثّلها مواد الأرشيف الكولونيالي) وتتخلّله هنا وهناك ثقوب سوداء تقفز داخلها ذوات فنيّة لصنّاع أفلام وباحثين وفنّانين تشكّل أعمالهم نثار سرديّة بديلة خاضعة لطيف الاختيارات الذي يتيحه تحوّل الأرشيف الاستبدادي إلى أرشيف سلطوي.
من معرض فلسطين من الأعلى.
معاملة الأرشيف بمنطق الاستدلال الدائريّ
يغلب على توظّيف الأرشيف في كلا المعرضين منطق الاستدلال الدائري، الذي تتشابه فيه النتائج مع المقدّمات، أو تكون المعطيات بحدّ ذاتها هي الحجّة التي تدعم النتائج المشتقّة من هذه المعطيات.
في حين يتعامل معرض "بلد وحده البحر" مع الأرشيف باعتباره موطناً للحقيقة، يتعامل معه معرض "فلسطين من الأعلى" باعتباره موطناً للزيف. وبهذا، يحاول المعرض الأوّل توليد ذات فلسطينيّة فاعلة من تاريخها، ويحاول الثاني توليد تاريخ فاعل للذات الفلسطينيّة. يشير والتر بنيامين في مقاله "عن مفهوم التاريخ"، إلى أنّ الصّورة الحقيقية للماضي تفرّ مسرعة، ولا يمكن الإمساك بها إلّا كذكرى تومض في لحظة خطر، وأنّ هذه الومضة "يتهدّدها الزوال مع كلّ حاضر لا يرى لنفسه مقصداً فيها". يشترك المعرضان في الإشارة إلى الخطر الذي يتهدّد التراث وورثته جرّاء امتثاله لحوزة المُستبدّ، ويحاولان انتزاعه من هذه الحوزة، وربّما يكون هذا هو المقصد الذي يدركه حاضرهما من هذا التاريخ، بفارق أن سهم هذا المقصد ينطلق في معرض "بلد وحّده البحر" من نقطة الحنين، التي يوضّح فرِد ديفيس في كتاب "التوق إلى الأمس: علم اجتماع النوستالجيا" إلى انتمائها لحاضر يعاني من الفقد، فينتقي من الماضي المقاطع الصالحة فقط لملء فجواته.
ولكنّ جوهر التعامل التحرّري مع الماضي لا يكمن في طريقة انتقاء الموادّ من أرشيفات التاريخ المتقدّم (هل هي الموادّ التي تشير إلى وجود فلسطيني موجب أم سالب)، ولكن في تفجير الماضي من اللحظات والحيوات التي يتوقّف عندها التاريخ الذي تنسجه الطبقات الحاكمة، أو النُخب في موادّ أرشيفيّة. يقصد بنيامين أنّ هذه الأرشيفات تستطيع فقط حفظ نتائج الفعل (حفظاً يهتمّ بتقدّم البشرية بمفهومها المجرّد)، ولا تقدر على توثيق الفعل ذاته (توثيقاً يهتمّ بتقدّم القدرات البشريّة الفرديّة والمتمايزة)، أي إن زمن التاريخ الأرشيفي هو الزمن الخاوي المتجانس لا الزمن الممتلئ براهنيّة اللحظة. ينسبُ هذا النوعُ من الزمن الماضيَ دوماً إلى المنتصر، الآمِر، القائد، المُكلّف بأداء الفعل، المموّل للحدث، من فُعِلَ الحدث باسم سلطته، ولا ينسبه إلى الذوات الفاعلة المقهورة التي فعلت، على الرغم من أنّ أوصاف حياتها ومشاعرها وثقافتها تساهم في صياغة الحقبة التي عاشت بها، دون أن تجد طريقها إلى ما سيصبح تُراثاً تاريخيّاً. بالنظر مثلاً إلى صور جمع البرتقال وتصديره في مدن الساحل الفلسطيني داخل مساحات معرض "بلد وحّده البحر"، يحتفي الزائر بتطوّر الاقتصاد الفلسطيني واستقلاليّته، ويفكّر بازدهار الحياة المدينيّة في تلك الفترة، هذا الازدهار الذي تمتّع به أصحاب الأراضي، والإقطاعيين، والأثرياء، ولا يتبادر إلى ذهنه شيئاً عن ضنك العيش الذي كابده العمّال والفلّاحون الذين زرعوا هذه الأشجار وحصدوها ونقلوا ثمارها في صناديق ثقيلة، وما واجهوه أثناء ذلك ربّما من إهانات أو توبيخ من أرباب عملهم. لا تحثّه هذه المواد على تخيّل شعورهم أو حياتهم الاجتماعية أو المنزلية ما بعد يوم العمل الطويل المرهق، لا تحثّه على التفكير في الحوارات التي اعتادوا خوضها مع أصدقائهم في المقاهي، أو الطريقة التي ربّوا أبناءهم بها ... هذا ما يشير إليه كارلو غينزبورغ في كتاباته عن التاريخ الجزئي، حين يشير إلى "نُدرة الأدلّة المتعلّقة بسلوك الطبقات الخاضعة في الماضي في طيّات الأرشيف المادّي والثقافي، وهذا عائد لأسباب بنيويّة تتعلّق بسهولة أرشفة عناصر ثقافة الطبقات السائدة وتمثيلاتها، مقارنةً بالمحتوى الثقافي للطبقات الخاضعة، والمبعثر بين طويّات الحياة اليوميّة المخبّأة أو المتفلّتة، أو المستهجنة. نجد مثل هذا المحتوى في الروايات الشفويّة والفولكلور والأغاني والقصص الشعبية والأمثال وأفعال الحياة العاديّة، ربّما في المنشورات السرّية والممنوعة، أو في الملصقات، في قصاصات اليوميّات المُهملة، في اللباس التقليدي.
من معرض "بلد وحّده البحر".
تعيد السياقات التي توظّف فيها المواد الأرشيفية في هذه المعارض إنتاج سلطويّة السياقات التي أُنتجت فيها هذه الأرشيفات من الأساس، فالإمكانيات الماديّة والعلاقات الطبقيّة والنخبويّة الثقافية التي أتاحت توثيق هذه المواد وإعطاءها صيغة أرشيفية، هي نفسها الإمكانيات التي تتيح عرضها بصرف النظر عن السرديّة المختلفة التي تَنظُمها بها. وهذا ما يشير إليه دولوز عندما يصف الطريقة التي تُبثّ فيها الدوالَّ على الجدار الأبيض، عبر دوائر ذات مراكز متّحدة بالضرورة مع مركز دائرة المستبدّ، لا تقتصر هذه الدوائر على البنى الإمبريالية وتوابعها، ولكنّها قد تشمل، أيضاً، الحركات السياسية والأدبيّة والفنّية وروابط التحليل النفسي، والعلاقات العائلية أو الزوجيّة.
اشتقاق فاعليّة الذات من الذات الفاعلة
لا تقول المواد الأرشيفيّة الكثير عن فعل التغيّر بديناميكيّته بمقدار ما تقول عن شكل التغيّر بصورته الجامدة، أي إنها سجّلات كينونة لا سجلّات صيرورة. إنّها تقول القليل عن "ماذا" ولا تقول شيئاً عن "كيف" و"لماذا" و"من"؛ ولذا فإنها قليلة الأهمّيّة في إثارة الوعي بالذات، لا سيّما في سياقاتها التحرّريّة. يُظهر معرض "لكنّ هذه الأشكال يجب أن تُختَرع" محاولة إنتاج وعي تحرّري يبدأ من الذات الحاضرة، متخفّفاً من ارتهانه للأرشيف، وبعيداً عمّا تدين به هذه الذات للماضي، أو ما يدين به الماضي لها. يبني هذا المعرض تصوّرات ويشارك نماذج لطرق العمل التعاوني المستقلّة عن بُنى التنظيم السلطويّة والمؤسساتية التي تتبع النموذج البيروقراطيّ الصوري الجامد، الذي يشرح لنا ماكس فيبر عن نشأته في أحضان الدول الصناعيّة لخدمة نمط الإنتاج الرأسمالي، وتسهيل اندماج أبعاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعيّة، من خلال إقصاء أعمق للبعد الإنساني عن هذا المزيج، من أجل تحقيق أعلى درجات التوقّع وضبط المستقبل في وضع استمرار مستقرّ ومتناسخ للحاضر. يشكّل القالب البيروقراطي الهرمي مثالاً آخر على كيفيّة فهم الدوائر مشتركة المركز، التي توصل عبرها الآلة المجرّدة دوالّ المستبدّ إلى الأطراف الآخذة في التباعد عن مركز هذا المستبدّ، لضمان اتّساقها وخضوعها للرمزيّات نفسها.
يقدّم المعرض عمل مجموعات فاعلة في مجالات الفنّ والإنتاج الزراعي واللعب والطباعة والأدب والتصوير والترجمة والهندسة ... وتتنوّع العمليّات التنظيميّة التي تُفصح عنها هذه المجموعات ما بين التجريب والتخيّل والتخطيط. ليأخذ هذا المعرض بشكل فعلي وحيوي في استكشاف الإمكانيات المستقبليّة التي يدعونا معرض "بلد وحّده البحر" إلى التفكير بها، من خلال تمرين التأمّل في الماضي. فتبدو الأعمال المُستضافة في معرض "لكنّ هذه الأشكال يجب أن تُختَرع" استجابةً عمليّة لسؤال معرض "بلد وحّده البحر"، لينتقل الماضي ما بين المعرضين من "بحر" يغرق فيه الوعي إلى تجربة ناضجة ومختمرة.
يستضيف معرض "لكنّ هذه الأشكال يجب أن تُخترع" مجموعة من الأعمال التي تتيح له طبيعتها التنازل عن مكانته المركزيّة بالنسبة لها، لتواصل فعاليّتها خارج جدران المعرض عند تفكيكه. بعد انتهاء مدّة المعرض، ستتابع مجموعة "صدى" حراكها في معملها الفنّي وفي ميادين مُقاومة المستعمِر، ستواكب تعاونيّة "أم عودة" زراعة الحقل بالنباتات الموسميّة، وستستمرّ مجموعة "ماشي ماشي" في إنتاج التقاربات بين طرق التعبير اللغويّة المختلفة من لهجة إلى أخرى... لا يمارس حيّز العرض في هذه الحالة سلطة استحواذيّة تقبض على الوعي بشكل آني وتستفرد به، فيشكّل بذلك محطّة في حياة هذه المشاريع لا وُجهة نهائيّة لها، مضيفاً بذلك طبقة أخرى لخلخلة التنظيمي الهرمي.
من معرض "لكنّ هذه الأشكال يجب أن تُخترع".
مأزق الثنائيّات المُضادّة
يرى دولوز أن إمكانية النفاذ من نظامنا السيميائي هي إمكانيّة آلية؛ أي إنّها منسجمة مع طبيعة النظام ونابعة من عمل الآلة المجرّدة نفسها التي تبثّ الدوالّ المتناسلة. يمكن أن تتحقّق هذه الإمكانيّة من خلال الاستمرار بالعبث بهذه الدوالّ وترتيبها بطرق تجريبية مختلفة تحفّز انطلاق خطوط زوغان تهاجر تجمّعاتها الأمّ وترتبط بخطوط زوغان أخرى مهاجرة أيضاً، حتّى يصدف أن تتلاقى خطوط زوغان لا يشكّل ترابطها تجمّعات انتحاريّة أو عبثية، بل قادرة على الصمود والفعل. ولن يتحقّق ذلك -برأي دولوز- إلّا من خلال التجريب المتواصل. بإمكاننا أن نتصوّر ذلك على شكل ثقوب سوداء تغزو كلّ مناطق الجدار الأبيض، ويندمج بعضها ببعض إلى درجة يتشوّه فيها الجدار فاقداً بنيَته المسطّحة وبياضه. شيء يشبه مغادرة قدر كبير جدّاً من قوى العمل هيكلها البيروقراطي الهرمي وانضمامها إلى نمط تنظيم تعاوني شبكي يحقق أهدافاً من قبيل الاكتفاء الذاتي، ويستطيع الاستمرار لأطول فترة ممكنة. يشير دولوز إلى أن علينا ممارسة جميع أنواع الفن للمقاومة والفكاك، لا سيما الفنون العليا الممزوجة بالفلسفة، فتلك هي الفنون التي تستطيع تعزيز التجربة بالإبداع الواعي، ويشترط تحقّقها عدم التوجّه إلى الفنّ توجّهاً لائذاً، فتحوّل الفنّ إلى ملاذ يقلّل من زمنيّة التجريب، ويصبغه بثبات يتيح له التعرّض لعمليات الترميز وإعادة الاحتواء. نرى أحد نماذج اللواذ بالفن في معرض "زلمة".
يتراوح نطاق القضايا التي يتعامل معها معرض "زلمة" ما بين الأدوار المنسوبة للرجل في المجتمع، والتصوّرات السائدة عنه، والتوقّعات المرجوّة منه، والممارسات المقبولة من طرفه. فيكتفي المعرض بإنتاج وعي متعلّق بمفهوم ضيّق عن الذات، داخل مساحات هويّتها الجندريّة. تكمن إشكاليّة التعامل مع الهويّة الجندرية بهذه الطريقة في نزعها عن سياقاتها الرأسمالية والاستعماريّة وتحويلها من عَرَض إلى جوهر، فتهاجم هذه الاعتراضات الفنيّة أشكالَ تمظهر القضيّة من خلال الإشارة إليها، واقتراح أشكال تمظهر مضادّة لها. تقترن هذه المحدودية الموضوعيّة بأخرى أسلوبيّة يجعلهما تُنتجان معاً وعياً بالذات من الصعب أن يتطوّر إلى وعي ثوري. نلاحظ تأسّس المعرض على سرديّتين متضادّتين أيضاً، يُقصَد من تجاورهما تفكيك الخطاب والممارسات الذكوريّة السائدة المتعلّقة بجسد الرجل، عبر حشد رموز بصريّة ترتبط بالجمال والقوّة والحُب والرقّة والوطنية والسلطة ومزجها بطرق تغرّد خارج صفّ التمثيلات التقليديّة السائدة، من خلال تقنيات الكولاج، التي تحشد هذه الرموز في ثنائيات تترتّب حولهما السرديّتان، نلاحظ مثلاً ثنائيات الرجل-الورود، الرجل-الدانتيل، مقابل ثنائيّات الرجل-الديك، والرجل-الكلاشنكوف.
من معرض "زلمة".
في وصفه لخطوط الزوغان التي تنشأ في الأنظمة السيميائية المختلفة، يشير دولوز إلى خلق الثنائيات المُضادّة باعتبارها نوعاً من أنواع خطوط الزوغان الداخليّة التي يتيح النظام المهيمن حاليّاً إطلاقها، ليعيد إنتاج ذاته وينجو عبر الزمن من خلال التغيّر أو التكيّف مع المتغيّرات التي لا مفرّ من حدوثها، وذلك لأنّ هذا النظام يتألّف بالأساس من تجمّعات ثنائيّة (ابتداءً من ثنائية الجدار الأبيض والثقب الأسوب). تمارس الثنائيّة الجديدة فعالية لحظيّة في مناهضة الثنائية التقليدية، ثم سرعان ما يرمّزها النظام ويحتويها، فتصبح بحدّ ذاتها ثنائية تقليديّة تساهم في تمدّد النظام وإطالة عمره (بإمكاننا استحضار طريقة عمل اللقاحات التي تُدخل إلى الجسم عوامل مُمرِضة لحظيّاً، ولكنّها تساهم في تكوين أجسام مُضادّة ستصبح جزءاً من النظام المناعي فيما بعد). لنفهم الموضوع بطريقة أخرى، نفكّر في العلاقة بين الرأسماليّة والمثلية الجنسيّة، التي من المفترض أن تهدّد نموذج العائلة الأحاديّة النوويّة التي ترعرعت في أحضانها الملكيّة الخاصّة ممهّدةً الطريق لنشأة النظام الرأسمالي، كما يشير إنجلز في كتاب "أصل العائلة والملكيّة الخاصّة والدولة"، ولكنها ما تفتأ تتسلّع، مثلما نشهده من توغّل سوق رأس المال في مسيرات الفخر العالميّة السنويّة. لا تتمثّل المواجهة الفعّالة ضد الثنائيات التقليدية في خلق ثنائيّات نقيضة، بل في العمل خارج البنية الثنائية أو استبدالها بنموذج عنقودي متعدّد البُنى أو متغيّرها.
الإحالات المرجعيّة
حسين البرغوثي. 2006. الفراغ الذي رأى التفاصيل"، فلسطين: دار البيرق العربي للنشر والتوزيع، ص81-101.
كارلو غينزبورغ. "التاريخ الجزئي شيئان أو ثلاثة أشياء أعرفها عنه"، ترجمة: ثائر ديب، مجلّة أسطور للدراسات التاريخيّة:
https://ostour.dohainstitute.org/ar/issue007/Pages/art07.aspx
فريدريك إنجلز. 1986. أصل العائلة والملكيّة الخاصّة والدولة، ترجمة: إلياس شاهين، موسكو: دار التقدم.
ماكس فيبر. 2015. الاقتصاد والمجتمع... السيادة، ترجمة: محمد التركي، بيروت: المنظّمة العربية للترجمة.
والتر بنيامين. "عن مفهوم التاريخ"، ترجمة: أميرة المصري، موقع مدى مصر: https://bit.ly/3raO4zN
Gille Deleuze and Felix Guattari. Translated by Brian Massumi. A Thausand Plateaus: Capitalism and Schizophrenia. University of Minnesota Press, Minneapolis, London. 1987.