أعادوا ترميم الذاكرة ورسم الهوية، واستكشفوا خلال جولاتهم الميدانية ملامح خفية تُجسد تاريخاً وحضارة وثقافة عريقة، حتى إنهم تسلقوا شبابيك البلدة القديمة في الخليل خلسةً ليستمعوا إلى قصص أهالي البلدة ومعاناتهم كي يصبحوا جزءاً من حراك مجتمعي قائم على التغيير وإنارة الطريق أمام الوافدين إلى الأماكن التاريخية المظلمة.
هم الفنانون والمثقفون والمشتبكون فنياً مع أزقة مدينة الخليل القديمة، وفي الجزء المجهول منها، والباحثون عن أدوات فنية تُظهر تفاصيلها وملامحها الخفية، ومن بين هؤلاء الفنان التشكيلي راني الشرباتي (23 عاماً)، الذي أعلن عن رغبته في البحث عن المعلوم من خلال لوحاته الفنية التي عرضها يوم الثلاثاء 13/7/2021، ضمن فعالية افتتاح معرضه الفني "المبني على المجهول"، والمُقام في حمام إبراهيم الخليل، الواقع في حارة الدارية (بني دار) في البلدة القديمة في مدينة الخليل، وهو من أهم وأقدم الحمامات التاريخية في فلسطين، وهو يدلل على معمارية مدينة الخليل وإرثها الحضاري، ويعود تاريخه إلى العهد المملوكي العام 1266م.
ويُعد المعرض حالة ثقافية لإعادة ترميم العلاقة مع الأماكن التاريخية الخفية، وبه مشهد يدلل على تناغم الحركة الفنية والتشاركية بين المؤسسات الشريكة، حيث نفُذ المعرض بتعاون ما بين الفنان الناشط عز الجعبري مدير مشروع مساحات؛ الحاصل على منحة "مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية"، ونادي الندوة الثقافي بالشراكة مع لجنة إعمار الخليل.
"المجهول هو الذي نعيشه بعد مضي 48 عاماً، حيث ابتعدنا عن الاهتمام بالبناء القديم، وتوجهنا إلى اعتماد البناء الحديث غير المنظم، والعشوائي، وهذا جعلنا نقوم بالبناء على شيء مجهول لا نعلم مستقبله كيف سيكون". هذا ما قاله الفنان التشكيلي راني الشرباتي عند سؤاله عن سبب تسمية المعرض بـ"مبني على المجهول".
وقال الشرباتي وهو يلتفت إلى الحضور وهم يطالعون رسوماته: "أنا كفنان بصري أرى المدن بشكل مختلف عن الناظر لها، حيث أرسم تفاصيلها الخفية، وأوجد الفروقات بين المشاهد البصرية بين كل مدينة وأخرى من حيث التكوين والبيئة، كما استخدم الفراغ في رسوماتي بشكل كبير للتعبير عن الفجوة التي أشعر بها عند انعزال المدينة عن محيطها، وعن علاقة السماء بالمدينة، والتدخلات التي تطال المدينة من خارجها".
وأوضح الشرباتي أن مدينة الخليل شاهدة على أعماله الفنية العديدة، ومنذ قرابة العام حصل على منحة استوديو الفنون البصرية من مؤسسة عبد المحسن القطان، التي استطاع من خلالها التفرغ لمدة ثلاثة أشهر لإنتاج أعمال فنية تحاكي الهوية، وترصد الأماكن التاريخية المخفية، وليجسد فكرته الخلاقة، ويُطلق معرضه الفني "المبني على المجهول".
وعن معرض "مبني على المجهول"، قال الجعبري: "الفن الذي عُرض داخل الحمام يتناسب مع الحالة الثقافية والاجتماعية وجوهر المشروع، حيث ساهمت اللوحات الفنية في إحياء المكان ثقافياً ومكانياً بعدما أصبح بفعل الاحتلال مبنى مبنياً على المجهول، حيث تم تغيير وجهة الدخول إليه، وإغلاق بوابة الجهة الجنوبية الغربية له".
ويُعتبر معرض "مبني على المجهول" أحد أنشطة مشروع "مساحات" الحائز على منحة الدورة الخامسة من مشروع "الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية"، بدعم من مؤسسة عبد المحسن القطان، وبتمويل مشترك مع الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون (SDC)، والمنفذ من قبل الجعبري، وحكمت القواسمي، ومجموعة فنانين من البلدة القديمة بالخليل، علماً أن "القطان" قد تلقت 83 طلباً للمشاركة، تقدم بها فنانون أفراد، وفاعلون ثقافيون ومجتمعيون، ومجموعات، وفرق، أو مؤسسات فنية أو ثقافية عاملة في الضفة بما فيها القدس، وقطاع غزة.
وأوضح الجعبري أن المشروع يسلط الضوء على المواقع التاريخية المهمة في مدينة الخليل، التي تشكل حجراً أساسي في التحولات الاجتماعية والسكانية وحتى النفسية التي يمر بها أهلها، مشيراً إلى أن تنفيذ الفعالية الثقافية في حمام إبراهيم الخليل؛ وهو أحد المواقع المستهدفة ضمن المشروع، قد استغرق أشهراً عدة، حيث جرى العمل على تجهيزه بالتشبيك مع مجموعة فنانين.
قال الجعبري: "نرصد الأماكن المخفية والفارغة التي تشكل حالة ثقافية كالحمامات لارتباطها بالأعراس والعادات والحل العشائري، ونسترجع هوية الذاكرة، غير أن لجنة الإعمار تعمل على إعادة ترميم البناء، ونحن بدورنا نعيد ترميم الذاكرة مع الناس".
وأوضح أن المشروع يعبر عن هوية المكان وأصحابه واحتياجاتهم وما يعانون منه، حيث يقوم الفنانون في البحث عن المعرفة الداخلية للأماكن بالابتعاد عن إسقاط المعلومات دون التأكد منها، مبيناً أن فن "الابتهالات" هو أحد الأساليب الفنية التي تعكس ثقافة أهالي الخليل، وتعبر عن مشاعرهم والتصاقهم بالهوية، إذ اختتمت فعاليات المعرض بجلسة فنية في الهواء الطلق بحضور المنشد نور أبو داود، وعزف موسيقي يحاكي الواقع ويعيد إحياء الأغاني التراثية القديمة.
"نستلهم القصص من صُلب الناس ونُعيد روايتها للناس". هذا ما قالته حكمت القواسمي وهي أحد القائمين على مشروع "مساحات"، موضحةً أن أحد أنشطته توثيق السردية والذاكرة (الصوت والصورة) عبر مجالسة ومحاورة أهالي الخليل والاستماع إلى حكاياهم، وإشراكهم في الفعاليات الثقافية وما يحتاجونه من أدوات للتعبير عن ذاتهم، موضحةً أن المشروع كان قد أطلق مسابقة صورية (معالم) لتصوير ورسم البلدة القديمة، بهدف إشراك الأطفال في التعرف على معالم بلادهم.
وأوضحت القواسمي أن المشروع تضمن بجانب جمع القصص والحكايا، عمل جولات ميدانية (التصوف والتراث) للتعرف على الأماكن المهمشة وغير المعروفة في البلدة القديمة، ومن بينها سوق اللبن، وحارة الحوشية الواقعة إلى الغرب من المسجد الإبراهيمي، ومدرسة آل عمرو التي تعود بنا إلى معركة الخليل، إذ تتم إعادة إحياء الأماكن المظلمة بإدخال النور إليها من خلال أنشطة فنية وثقافية ينفذها مجموعة من الفنانين ضمن مشروع "مساحات" الذي يعبر بمضمونه عن وجود مساحات مهمّشة وفارغة لا حركة فيها.
وأضافت: "أهالي البلدة يفتحون أبوابهم لنا، وأصبحوا جزءاً من أنشطتنا، وتعززت بذلك مشاركتهم المجتمعية"، مشيرة إلى أن المشروع قد بدأ بتنفيذ فعاليات بسيطة، ثم انطلق بجهود تشاركية إلى إقامة الفعالية المركزية الأولى برواية حكاية الجان والخليل في حمام النعيم، ثم انطلق الفنانون إلى إقامة أنشطة فنية مختلفة في حمام إبراهيم الخليل وخان شاهين (أنيس الشوارع) بصحبة الفنان عبد السلام عبدو، وفداء عطايا، وفي معصرة شجرة الدر في مدخل البلدة القديمة، وقهوة بدران، وحارة بني دار (عروض أفلام وحكايا)، ومركز الهلال الأحمر الفلسطيني (أنشطة عروض موسيقية)، وسوق اللبن (قصص الأبواب المغلقة)، بجانب تجميع قصص نساء البلدة في فصل الشتاء وتحت عنوان "سلسلة حكايا المطر"، و"مجموعة حكايا الطين".