فاطمة حمد*
ورشة الطفولة المبكرة مع مربيات رياض الأطفال، القطان، أيلول 2020. |
بعد غدٍ هو يوم الأربعاء، وقد أعلنت البلاد أن هذا اليوم ويوم الخميس هما عطلة رسمية بمناسبة عيد الاستقلال. رقصت فرحاً، وتلاشت تلك الأفكار التّعِبة. حينها، أحسست بقلبي وعقلي يراقصان أطرافي، ولسان حالي يقول: وأخيراً سأجد وقتاً للنوم والهدوء. سأخرج لأستنشق الهواء النقي وأحمل هاتفي لأسترجع عشرات المكالمات الفائتة. يا لها من فرحة! سأنفّس فيها عن روحي كل هذا العمل الشاق أمام الحواسيب، وفي التدريس، وبين أكوام الكتب المدرسية. ثم قفزت فجأة لا تسعني الفرحة حينما همس ولدي الصغير في أذني وقال: لا تنسي يا أمي أن الجمعة والسبت هما أيضاً عطلة كالمعتاد. "ماما خلينا نروح مشوار. ماما ليش بطلنا نطلع نلعب؟" هذا ما طلبه طفلي الصغير. "بالطبع يا ولدي فقد حضرت لكم مفاجأة".
تابعت عملي بجد واجتهاد كما هو الحال دائماً ولكن بنفسية متجددةٍ ندية. وفجأة أحسست بإرهاق شديد، ثم بدأ رأسي يؤلمني. تناولت مسكناً، ولم أكترث؛ فستأتي العطلة ويختفي التعب. في اليوم التالي وبعد الانتهاء من العمل وإعداد وتحضير الطعام، بعد ترتيب المنزل وتنظيفه، وبعد تدريس الأولاد والتحضير للدروس رغم الإرهاق والتعب الشديدين، ذهبت إلى المستشفى كالعادة لمرافقة أمي ورعايتها، متخذةً كل إجراءات الوقاية. عدت إلى المنزل في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. حينها، أحسست بقشعريرة في جسدي وألم شديد في كل مفصل من مفاصلي. لم أصب بنزلة برد، ولكني لم أستطع التنفس جيداً. ولازمني السعال الجاف إلى أن جاء يوم الأربعاء المرتقب. فتحت عيني على ذاك الصوت الحنون، وتلك اليدين اللطيفتين تسوقان لي فنجان قهوة الصباح الباكر والشوكولاتة الداكنة. فلطالما عشقت تناولهما على شرفة المنزل ومع زقزقة العصافير. ويا لها من فرحة لم تكد تبدأ لتنتهي حينما ارتشفت الرشفة الأولى من فنجان القهوة، وحين تناولت قطعة من الشوكولاتة. عفواً: أقصد فنجان الماء الساخن وقشور البيض المسلوق. هكذا هو طعم القهوة والشوكولاتة الداكنة، أما الرائحة فقد اختفت أيضاً. "ڤايروس كورونا" نعم أنا متأكدة، قلت بصوت عالٍ. لم أستطع الانتظار لحظة واحدة، فذهبت إلى إجراء الفحص ثم ظهرت النتيجة مع مساء يوم الأربعاء. النتيجة إيجابية/مصاب: يرجى الاتصال برقم الطب الوقائي حسب منطقتك، مع أننا سنقوم بالاتصال بك في أسرع وقت ممكن. أخذت أقرأ النتيجة مرة تلو الأخرى. أحدق فيها بعينيّ التي بقيت وحدها تتحرك وراء جسد مشلول. طرق طفلي الصغير الباب وأخذ يناديني من ورائه: "ماما ايمتى المفاجأة؟" فافتكرت هذا اليوم الذي طالما انتظرته ولم أفتكر غيره. ذكرني صوت طفلي حينها بكل تلك النفوس التي سأنقل العدوى لها لو كنت أنانية جاهلة. لو تجردت من أخلاقي وتصرفت كالنعامة كما يقولون. ثم تساءلت كثيراً: هل سأحجر نفسي عشرة أيام فقط لأن البعض يزعم أن الڤايروس يختفي بعد عشرة أيام؟ ماذا عن الدراسات التي تحذر من الخروج قبل واحد وعشرين يوماً أو حتى ثمانية وعشرين؟ وبما أننا ما زلنا نخوض حقل التجارب هذا، قررت إغلاق الباب على نفسي والتزام الحجر المنزلي مدة شهر كامل.
أعلنت عما أصابني بكل صراحة وبمنتهى الشفافية، لم يذهب أولادي إلى المدرسة، ولم يذهب زوجي إلى العمل. صرخات طفلي الصغير تلازمني في كل حين. كم ذرفت الدموع وكم نفد صبري؛ فهممت أن أفتح الباب لكي أحضن طفلي الصغير، أو لكي ألملم الأغراض المبعثرة. بكيت وبكيت شوقاً للخروج ورؤية الأصدقاء. اشتقت لكل شيء حتى للعمل الشاق والساعات المتواصلة. أحسست بأن الحياة قد توقفت. حرمت الدفء والحنان، السمر والسهر، التشمس والتنزه. حرمت وحرمت. بقيت الجدران وبقي السقف والسرير. رنين الهاتف يلازمني لكثرة من يسأل عني. لم يعد النوم يسعفني. زاد الألم وتطورت الأعراض ثم لم أستطع الاعتناء بنفسي، فأدخلت إلى العناية المكثفة لمدة أسبوع آخر حتى أوشكت على مفارقة الحياة، وبقي الشعور بالخوف والجزع هما المسيطران. ظلت تلك المشاعر والأفكار تلازمني وتلاحق عقلي وقلبي إلى أن تحسنت حالتي، ورجعت إلى البيت لألازم الحجر المنزلي أسبوعين آخرين.
أثناء الحجر جاءني خبر إصابة والدتي بالكورونا. نعم أصيبت بها فضلاً عن كل ما تعانيه من مرضها العضال، وتدهور حالتها الصحية. أخذت أصرخ بأعلى صوتي وأجهش بالبكاء مغلقة الباب على نفسي وأطفالي يصرخون خلف الباب وينادون "ماما من شان الله افتحي الباب ليش بتعيطي يا ماما ... افتحي اشتقنالك". لم أكترث بمن كان يناديني، بل شغلت بالي تلك الأسئلة المتزاحمة حول كيفية إصابة أمي بالعدوى. لم أجد إلا جواباً واحداً فقط: نعم، إنه أنا. أنا من أصبتها بالعدوى وسأكون السبب في وفاتها. ثم قلت في نفسي: ولكن لم أكن أقترب منها كثيراً، وكنت متخذةً كل الإجراءات. لا لا ... ولكن كنت أمسك بيدها لأساعدها. نعم أنا السبب. انقطع حبل أفكاري حين رن هاتفي المحمول. إنها مديرة المدرسة. استجبت للمكالمة الهاتفية، وفي اعتقادي أنها تريد الاطمئنان على صحتي، وهنا كانت المفاجأة. استهلت المديرة المكالمة بالاطمئنان على صحتي ثم صدمتني بخبرها الصاعق حينما قالت: "مس رحمة كاينة مكورنة وبتعرف من زمان وما خبرت حدا وضلت تيجي ع المدرسة وهيها معدية كمان أربع معلمات وطلاب كثير واضربي العدد في عشرة". تساءلت حينها ما الذي أصابها؟ ولماذا قامت بهذا الفعل؟ لم أصدق إجابة المديرة عن سؤالي حينما قالت: "هذا لأنها أصيبت بالعدوى من طبيب كان على علم بأنه مصاب، ولكنه مارس مهنة الطب دون علم أحد، فأرادت الانتقام بالمثل؟".
عادت حالتي الصحية إلى التدهور مرة أخرى. تدهورت حالة أمي الصحية وقد حرمت من رؤيتها. ثم يا ليتني فقدت الحياة قبل أن أسمع خبر وفاتها. يا ليتني مت قبل أن أصاب بالكورونا وقبل أن أكون السبب في وفاتها. تمنيت لو انشقت الأرض وابتلعتني حينما لم يغسلوها ولم يكفنوها ولم أستطع تقبيلها ووداعها. كيف لهم أن يلقوا أمي في القبر وكأنها كيس قمامة قد لوث الدنيا ومن عليها؟ كأنها شيء لم يكن. كأنها نكرة.
بقيت على هذا الحال طوال الأسبوع الثالث. لم يتغير شيء. ولم أكلم أحداً وبقيت طريحة الفراش. أخذت تلك الأفكار السلبية تراودني لتقتلني رويداً رويدا. بقي الباب مغلقاً بالرغم من أنه بإمكاني الخروج والتنزه وحدي. أغلقت هاتفي رغم كل تلك المكالمات الفائتة. بقيت طريحة الفراش وكأنني أرقد في غرفة العناية المكثفة. وفجأة وقفت وانتفضت وكلمتني نفسي: ولكن إلى متى؟؟!! إلى متى ستظلين هكذا؟ استغفرت كثيراً ووكلت أمري إلى الله. بدأت أفكاري وصحتي تتعافى في منتصف الأسبوع الثالث من الحجر. أخذت أتأمل كم هي النعم التي أملكها دون أن أشعر:
- فأنا ما زلت أفكر وأستطيع قراءة الكتب متى أشاء. كم تمنيت السفر وحيدة إلى جزيرة بعيدة لأقرأ كل الكتب والروايات، لأقرأ التاريخ وأسافر عبر الماضي والحاضر والمستقبل. كم تمنيت أن أشاهد كل حلقات "أسألوا لبيبة" و"كان يا مكان". كم كنت أتمنى أن أنهي قراءة "ايكادولي"، "في قلبي أنثى عبرية"، "أعجب الرحلات في التاريخ"، "الفوائد لابن قيم الجوزية"، ... وغيرها الكثير دون انقطاع وبعيداً عن مشاغل الحياة ومشاكلها.
- أنا متعبة، ولكن ما زلت أتنفس.
- فقدت حاسة الشم والذوق ولم أكن أتخيل أبداً ماذا يعني أن تفقد حاسة الشم والذوق؟! وسأظل أشكر ربي صباح مساء على هذه النعمة.
- اقتربت جداً من الموت، وأحسست بأن العالم قد توقف. لم تعد النفوس تقترب مني، ولم أعد أريد الاقتراب منها، ولكن القرب المعنوي ومساندة العائلة والأصدقاء أقوى من كل قرب جسدي مدمِّر.
- أنا مشتاقة وعائلتي مشتاقة. الكل يود الوصال، ولكني ابتعدت عنهم لأني أحبهم وهم ما زالوا بخير، أنظر إليهم يلعبون ويسمرون في تمام صحتهم وعافيتهم. أغمض عينيّ أحياناً فأرى نفسي بينهم وأراهم ينتكسون فأنتفض وأفتح عيني بسرعة فأراهم بكامل صحتهم وعافيتهم. يا له من شعور، ويا لها من فرحة ظلت تراودني إلى أن جاء ذلك اليوم الذي طالما انتظرته.
- نعم لقد شفيت تماماً والحمد لله. عدت إلى عائلتي ورجعت إلى عملي، رأيت الأصدقاء، تذوقت القهوة والشوكولاتة، خرجت للسوق، رجع زوجي إلى عمله وعاد الأطفال إلى المدرسة ومن المدرسة لأستقبلهم بقبلة وأقدم لهم طعام الغداء. استقبلهم الأصدقاء وعادوا إلى اللعب. لم يعد الروتين اليومي مملاً، وبدأت أراه من أفضل النعم. ما أجمل الحياة حين تكون أنت بخير وعائلتك بخير. ما أجمل الحياة مع الأحباب بكامل صحتهم وعافيتهم. ولكن أنى لتلك الفرحة أن تتم بعد أن استنفد المسؤولون كل المحاولات وكافة الجهود بدءاً من الإعلان عن الحظر الجزئي، ومن ثم الكلي، ليذهب ذلك كله سدى، لأن الشعب لم يلتزم. لم يبقَ أمام ذلك المسؤول سوى أن يعوّل على وعي الشعب ويحمّله تلك الأمانة، فقام بظلم نفسه وضيع تلك الأمانة. وكيف له أن يلجأ لذلك القرار وما زال الكثير والكثير لا يأبه لخطورة هذا المرض ولضرورة الالتزام بإجراءات الوقاية وتحمل المسؤولية. فكم زهقت أرواح لم تقترف أي ذنب سوى أنها خالطت أناسا اعتقدت أنهم أصحاء. وكم فقدنا من آباء وأمهات وكنا السبب في موتهم لأننا خفنا من لومهم لنا إذا ما صافحناهم وقبلناهم. ليتني لم أستيقظ لأرى ما رأيت وما سمعت وما اضطررت أن أفعل. وددت أن أعبر عن هذا الشعور. وودت أن أقص عليكم بعضاً مما رأيت وما حصل معي لنقف معاً ونقول: كفى!
ورشة الطفولة المبكرة مع مربيات رياض الأطفال، القطان، أيلول 2020. |
أثناء الأسبوع الأول بعد رجوعنا إلى حياتنا الطبيعية في ظل كورونا، أقول لكم إن الحياة ستبقى ملوثة هكذا، ولن تعود إلى طبيعتها طالما استمرت اللامبالاة، وأصبح التجرد من المسؤولية وعدم الاكتراث هما العنوان. على سبيل المثال: أحد أولادي يذهب إلى المدرسة يومياً. ما أجمله من منظر حين ترى موظف الاستقبال يستقبل طفلك في أقصى درجات الاحتياط والنظافة: الكمامة والقفازات، ميزان الحرارة وماكينة التعقيم الكلي، التأكد من أن الطفل سليم وملتزم بالإجراءات وما إلى ذلك. ولكن على أرض الواقع حدث ولا حرج. أثناء الدوام وبينما كنا نتواصل كأمهات بخصوص أولادنا على مجموعة الواتساب الخاصة بنا، مرضت إحدى الأمهات هي وعائلتها من ضمنهم طفلها الصغير في المدرسة نفسها. بدت على آمنة أعراض ربما تكون أنفلونزا عادية وربما كورونا وأياً تكن فالكل سواء في درجة الخطورة. فما كان من الأم إلا أن أخبرت إدارة المدرسة، وطلبت منهم إجراء فحوصات لولدها وللمخالطين، ولكن لا حياة لمن تنادي. حينها أخذت الأم الموضوع على محمل الجد وقامت بإجراء الفحص الطبي الخاص وتبين إصابتهم بالكورونا، فالتزمت العائلة بقرار منها حجر نفسها لمدة ثلاثة أسابيع. أخبرت الأم المدرسة بالنتيجة واستمرت المدرسة بالتظاهر أن الأمور ما زالت تحت السيطرة، وفوق كل ذلك لم تجرِ فحصاً للمخالطين، بل وأعلنت عن خلو المدرسة من المرض وأن الأمور ما زالت تحت السيطرة بسبب جهودهم الجبارة في التعامل مع الوضع رغم استمرار الأمهات في الإخبار عن وجود حالات جديدة. حينها لم أعرف ما أفعل وكيف أتصرف: هل أبقي ولدي الصغير وفلذة كبدي وحده داخل البيت ليسلم من تلك الأمراض حتى لا يصيبه مكروه نظراً لوجود تحسس لديه؟ ولكن إلى متى سيبقى؟ وكيف يمكنه تعويض الدروس؟ لماذا لا تكون المدرسة على قدر من المسؤولية لتوفر التعليم الإلكتروني بالتزامن مع الوجاهي للطلبة المصابين كأبسط إجراء يمكن القيام به؟ لماذا لم تتصرف بقية الأمهات مثل آمنة؟ لماذا لا ينتابنا الشعور نفسه إذا سمعنا عن أحد أصيب بالأنفلونزا؟! هل لأنها لا تقتل أحداً أم لأنها لا تسبب العدوى؟ أسئلة كثيرة لم أستطع أن أجد لأي منها إجابة.
وبينما كنت منهمكة في أعباء الحياة أعد الطعام لأولادي، دخلت ابنتي الكبرى تبدو عليها علامات الحزن والاستياء. قلت لها ما القصة؟ قالت: "أتذكرين يا أمي عندما التحقت بالنادي الرياضي أنا وصديقتي قبل أن أعلم عن إصابتك بالكورونا؟" قلت لها: بلى، أذكر وأذكر أنك دفعت خمسين ديناراً ولم تذهبي حينها بعد أن تبينت إصابتي بالكورونا. ولكن ما المشكلة وماذا حدث؟ "لقد قاموا بخصم عشرين ديناراً رغم أنى لم أذهب أي يوم ورغم إخباري لهم بأني مخالطة مباشره، وقد علمت أنهم أبقوا صديقتي في النادي الرياضي رغم مخالطتي لها".
لم أستطع التكلم والتزمت الصمت. أكملت أعباء المنزل من تنظيف وترتيب، غسل للملابس وكيها، غسل الأواني، جمع النفايات والتخلص منها، تدريس الأولاد، التحضير للدروس رغم أن غداً عطلة نهاية الأسبوع، ولكن كان لا بد من إنهاء تلك الأعمال لأن غداً سيكون احتفالاً بعرس ابنة صديقتي الوحيدة.
حاولت الاعتذار والتملص من الذهاب مرار وتكراراً وبعد مجادلات ومفاوضات عدة، ورغم كل المحاولات لإقناعها بتأجيل العرس، أو حتى حصر المدعوين، استلمت رسالة من أم العروس هذا نصها: "أقسم بالله العظيم إذا ما اجيتي على عرس بنتي ما عمري بحكي معك في حياتي، لا إنت صديقتي ولا بعرفك. شو الدعوة: كل هذا خوف من الكورونا؟! ليش؟! بتروحيش على السوق ولا ع شغلك يختي؟! تعالي وما تقربي على حدا المهم تيجي".
لم تترك لي صديقتي خياراً آخر إلا الذهاب. لبست أجمل الملابس، ومن ثم وضعت الكمامة ولبست الكفوف ووضعت معقم اليدين في حقيبتي، وذهبت إلى العرس. تسللت إلى القاعة، وبحثت عن مقعد بعيداً قدر الإمكان عن التجمعات ثم جلست أنتظر فرصة أدخل فيها ساحة الرقص مع العروس ووالدتها فقط ولو لمدة خمس دقائق مع الأخذ بالاحتياطات اللازمة. وفي أثناء الانتظار وإذا بإحدى القريبات تقترب مني تريد مصافحتي وتقبيلي. أدرت لها كوع يدي وحاولت أن أبتعد فما كان منها إلا أن هجمت علي وأخذت تحضنني وتقبلني وتقول: "شو يختي خايفة نكورنك؟! بلا كورونا بلا هم. كله تخويث في تخويث. هاي مؤامرة. والله جيراننا انصابوا وهيهم طابوا ما شاء الله عليهم". لم أشأ أن أرد على تلك التناقضات والمعتقدات، فلن يجدي ذلك نفعاً. اعتذرت منها وذهبت إلى دورة المياه بسرعة وأخذت أضع المعقمات وأستخدم الصابون وأبدل الكمامة والكفوف ولكن بعد ماذا؟
رجعت بعدها إلى مقعد آخر لأنتهز الفرصة بأسرع وقت لأشارك صديقتي بفرحة ابنتها. مرت الساعة والساعتان وأنا أنتظر وأراقب أكوام الناس تتدفق داخل ساحة الرقص وكأن زمن الكورونا قد ولى وذهب، بل وكأننا لم نسمع به من قبل. حينها قررت المغادرة دون أن أشارك العروس ووالدتها الفرحة.
في صباح اليوم الثاني، ذهبت إلى السوق في الصباح الباكر، وقبل أن يستيقظ الجميع ويعج السوق بالكل. دخلت عند الجزار ويا لها من فرحة عندما لم أجد سوى زبونٍ واحدٍ بدت عليه الأناقة والنظافة واللباقة. جلست أنتظر دوري أراقب ذاك الزبون حتى يأخذ ما يريد. ولكنه لا يرتدي القفازات والكمامة؟! قلت في نفسي. ثم لم يلبث أن عطس عطسة قوية تطاير منها الرذاذ على هندامه الأنيق والأثاث من حوله. وما كان منه إلا أن مسح أنفه بيديه وملابسه. أحسست بأني سأنفجر، ولكن تمالكت نفسي وحدثتها بأن تهدأ وتتروى قليلاً. ثم سأل الزبون الجزار عن مكان لحم الخروف الطازج فأشار إليه الجزار. فتح الزبون الثلاجة وأخذ يقلب ويلمس اللحمة بيديه المتسخة. حينها لم أتمالك نفسي من شدة الغضب فقلت له: "دخيل الله لحد هون وبس، عكرتلي صباحي. عملت واحد اتنين تلاته". نظر إليَّ نظرة ندم، تأسف جداً، وطلب مني أن أسامحه لأنه لن يكرر ذلك مرة أخرى في حياته.
لم أشترِ اللحمة في ذلك اليوم. خرجت من عند الجزار وقمت بنزع الكمامة والكفوف. وضعتهما في كيس محكم الإغلاق وأخذت أبحث عن سلة مهملات وأجول هنا وهناك ولكني لم أجد أية سلة. عندها وضعت الكيس في حقيبتي كالمعتاد. أخرجت كمامة أخرى وبدأت أقلب في الحقيبة باحثة عن كفوف أخرى حتى تذكرت أني قد نسيتها في البيت. "لا بأس سأشتري علبة كاملة من الصيدلية"، قلت في نفسي. ذهبت إلى الصيدلية الأولى فقالوا لي لا يوجد لدينا كفوف، ثم ذهبت إلى الثانية فالثالثة وعندما دخلت الرابعة لقيت الجواب نفسه. حينها نفد صبري وسألت الصيدلاني: "يعني شو هالتناقض؟! الحكومة بتشدد على لبس الكفوف والمواطن من حقه كمان يخاف على حاله، وإنتو ما عندكم كفوف؟؟؟!!!!". ضحك ضحكة صفراوية وقال: لقد استغل المصنعون هذه الفرصة وأصبح سعرها أضعافاً، وإن اشتريناها لن يستطيع شراءها الزبون. فقلت له: إن كان ذلك فعلاً هو السبب، فلا بد من محاسبتهم في الدنيا قبل الآخرة. لم أحبذ الخروج فارغة اليدين فاشتريت منه علبة مطهر لليدين رغم علمي بأن ثمنها مرتفع أيضاً، ولكن لا يوجد مناص آخر، فهذا حال بقية الأماكن.
خرجت من الصيدلية يعتصرني الألم وأخذت أفكر وأفكر عما وصلنا إليه من عدم الاكتراث واستغلال أصحاب النفوذ للوضع الراهن. وفجأة أغمضت امرأة على عيني من خلفي وأخذت تقول: "إحزري مين أنا؟!". لم أعرف من هي ولن أعرف أبداً فقد توقفت عن التفكير في كل شيء باستثناء يديها تخيم على عيني وتلوثهما. أزالت يديها وأخذت تسلم علي وتقبلني. إنها إحدى صديقات الزمن الجميل، صديقه المدرسة. لم أستطع أن أعلق على أي فعل من أفعالها، حيث التزمت الصمت. حدثتني كم اشتاقت إليّ وإلى ضحكاتنا ومغامراتنا البريئة. أعرف أن الشوق قد ينسينا أحياناً كل شيء، ولكن هل ذلك يبرر لنا كل تلك الأفعال؟
ذهب الصباح الباكر وحان وقت الظهيرة. تعكر مزاجي ورجعت إلى البيت دون أن أشتري شيئاً سوى معقم اليدين. استحممت وارتديت ملابس نظيفة أخرى ثم استلقيت على سريري لآخذ قسطاً من الراحة. أخذت أفكر بما حصل معي وما يدور حولنا في هذا الزمن، ثم غلبني النعاس وغفوت. حلمت أحلاماً جميلة وياليتني لم أستيقظ. رأيت أن الكل يتعامل مع الآخر على أنه مصاب بالكورونا، فارتدى الجميع الكمامات والكفوف وحافظوا على مسافة تباعد بينهم. لم يخرج إلى العمل من شعر بالمرض واختار أحد الأمرين: إجراء الفحص أو التزام البيت لمدة ثلاثة أسابيع. توقف الكل عن التسليم والتقبيل دون الشعور بالإحراج، بل أصبح ينظر إلى من يقوم بذاك الفعل بالغرابة والاستياء. ملئت الشوارع والأماكن بسلال المهملات ومواد التعقيم بدلاً من أكوام القفازات والمناديل الملقاة على الأرض في كل الأماكن وفي كل الشوارع. لم يلمس أحد أي شيء داخل السوبرماركت إلا ما أراده وباستخدام القفازات. تمت تغطية الحلوى والمأكولات وكل شيء، وعوقب كل شخص لمس شيئاً بيده. لم يعطس في وجهي أحد ولم يقترب مني دون لبس الكمامة. افتتحت المساجد والكنائس وقاعات الأفراح والأتراح، ولكنها مختلفة هذه المرة؛ فالناس متباعدون ومتخذون كل إجراءات الوقاية. اختفى ضيوف الغفلة والمتسللون إلى أعمالهم رغم الإصابة. أخذ المرض يختفي شيئاً فشيئاً حتى زال نهائياً وعادت الحياة أجمل من ذي قبل، وعادت تلك العادات والممارسات الجميلة بعد أن فقدت. عادت لتميز هذه الأمة مرة أخرى ولتنهض بمجتمعاتها وحضارتها ومستقبلها.
"ماما، ماما استيقظي هناك زائر خلف الباب"، ايقظني طفلي الصغير لأفتح الباب للجيران. أخذت الجارة تقبل وجنتي طفلي الصغير ويديه وكأن لسان حالها يقول لي "أنظري كم أحب طفلك". فما كان مني إلا أن خطفت ابني من بين يديها لأغسل يديه ووجنتيه. لم أقل للجارة أهلاً وسهلاً ولم أرحب بها. نظرت إلي نظرة ازدراء قبل أن تعود أدراجها وقالت: "في حياتي ما باجي على داركم."
*عضو هيئة أكاديمية - دائرة المناهج والتعليم/ جامعة بيرزيت