إذاعة استوديو العلوم

الرئيسية إذاعة استوديو العلوم

أسماء المزين*

نستعرض في هذا المقال رحلة تطوير معروضة "إذاعة استوديو العلوم"، مع تسليط الضوء على بعض القضايا التي تظهر جوانب متنوعة من العمل على تطوير المعروضات والمعارض العلمية في استوديو العلوم.  كما نسعى إلى ربط هذه القضايا ببعض الأدبيات حول التعلّم وخبرة الزائر في فضاءات التعلّم غير الرسمي.

معروضة إذاعة استوديو العلوم هي إحدى معروضات معرض "صدى" الذي تم افتتاحه في تشرين الأول 2019، وهو معرض علمي مجتمعي فني تفاعلي حول الصوت وظواهره المختلفة، المتمثلة بفيزياء الصوت والسمع والبيئة الصوتية الطبيعية والعمرانية والصوت في علم الموسيقى.

 

إذاعة الاستوديو:

يعيش الزائر في هذه المعروضة تجربة دور المذيع، من خلال الدخول إلى غرفة ذات تصميم يحاكي استوديوهات البث الإذاعي محكمة العزل، تحتوي على أزرار وسماعات وميكروفونات وشاشات تفاعلية وجهاز مازج للأصوات (Sound Mixer).  يبدأ الزائر بالتفاعل مع المعروضة من خلال التحكم بدرجة الصوت للعناصر الصوتية المختلفة الداخلة على الجهاز المازج، التي بطبيعة الحال سيتم بثها عبر الأثير.  كما يستطيع الزائر التكلّم عبر الميكروفون، أو حتى بث مقطع صوتي يرغب في مشاركته.

أمّا زائرو المعرض، فبإمكانهم الاستماع إلى إذاعة استوديو العلوم، من خلال وضع جهاز الاستقبال المتواجد في أرض المعرض على تردّد (107.9 FM)، ومحاولة لمحاكاة غرفة المذيع لتكون تجربة كاملة، يستطيع المستمع رؤية المذيع الذي يتحكم في محتوى البث، من خلال نافذة زجاجية تطل على أرض المعرض.

تهدف هذه المعروضة إلى تسليط الضوء على دخول الإذاعة إلى المشهد الصوتي الفلسطيني، التي أصبحت جزءاً منه، ومن هنا تتاح الفرصة للزائر لكي يلعب دور المذيع الذي يتحكم في المحتوى المسموع للجمهور، ويدرك أن باستطاعته الحديث عمّا يرغب.  في المقابل، فإن عرض الجانب التقني للمعروضة وشفافية مركّباتها، تهدف إلى لفت نظر الزائر إلى الإمكانات التقنية المتوفرة في يومنا هذا، وتشجّع على استكشاف تكنولوجيا البث الإذاعي.  في المقابل، فإن التفسيرات الفيزيائية لانتقال وتحميل المعلومات الصوتية عبر الهواء على شكل أمواج كهرومغناطيسية ليتم استقبالها في الجهة الأخرى، تستدعي التساؤل حول المواد وإمكاناتها ودور العلوم والتكنولوجيا في استعارة حيّز لم يكن بالحسبان، مثل حيّز الهواء الذي لا يملكه أحد!

تمر المعروضات في العادة بمراحل عدة من التفاكر والنمذجة والتصميم والتجربة، ولا تكن الفكرة واضحة منذ البداية كما هي معروضة أمام الجمهور، بل تكون أفكار متعددة وعامة في البداية، وهذه المرحلة تعرف بالتوسع (Diverge)، وذلك لخلق خيارات مختلفة أمام الفريق، ومن ثم يقوم الفريق بعمل تركيز (Converge) أكثر للأفكار، وذلك للوصول إلى الفكرة المختارة (Thoring & Müller, 2011)، وهكذا فإن معروضة إذاعة الأستوديو لم تكن منذ البداية كفكرة واضحة، وبدأ الفريق بتطبيقها وكانت قد بدأت الفكرة من نقطة مختلفة، سوف نستعرض في الجزء التالي رحلة تطوير المعروضة.

 

رحلة تطوير إذاعة استوديو العلوم: من المفهوم العلمي إلى المعروضة

بدأ فريق تطوير المعروضات في استوديو العلوم بالتفاكر (Ideation) حول الصوت في المعرض، وذلك من خلال طرح ظواهر عدة حول هذه الثيمة.  قام الفريق بتفكيك المفهوم من خلال التفكير بالصوت كمادة مجردة، وما هي الأشكال التي تتخذها، والتحولات التي تقع على هذه المادة، وكيف للإنسان أن يستقبلها أو ينتجها.  من هذه الأفكار الصوت وطرق انتقاله من خلال وسائط مختلفة.  إحدى طرق نقل الصوت هي تحويله إلى إشارة كهربائية من خلال جهاز مرسل، حتى تتم إعادة نقلها لمسافات أو حتى إلى جهاز آخر يعيده لصوت.

إذاً، فإن المرحلة الأولى في تطوير المعروضة هي مرحلة اكتشاف وفهم الظاهرة، وهي الخطوة الأولى التي من خلالها يتم تحديد ظاهرة مقنعة للزوار للتفاعل معها، والتي، في العادة، ما يكون مصدرها عمليات البحث عبر الإنترنت والأوراق البحثية (King et al, 2018).  من هنا بدأ الفريق بالبحث عن الموضوع بشكل معمق أكثر حول انتقال الصوت وتحولاته، فتم التركيز على إمكانيات وصول أصواتنا لمسافات بعيدة في هذا العالم باستخدام آليات لاسلكية وأيضاً سلكية في الوقت نفسه لنقل الصوت بأجزاء من الثانية لمسافة بعيدة، وذلك ما يجعلنا نشعر أن الصوت ينتج ويصل في اللحظة نفسها.

لكن بقي السؤال كيف سيتم إظهار هذه الظاهرة على شكل معروضة؟ وهل المعروضة هي النتيجة الأنسب لإظهار هذه الظاهرة ومفاهيمها؟ تشير بعض الأدبيات إلى أنه من الصعب جداً تكييف العديد من المفاهيم مع المعروضة، وإن لم تكن الفكرة أو الظاهرة مناسبة تماماً ليتم محاكاتها (أو تمثيلها) في معروضة، فمن الأفضل الاعتراف بذلك مبكراً واستكشاف خيارات أخرى (King et al., 2018).  من خلال الظاهرة تبين للفريق أن هذه الظاهرة بشكلها العام يصعب تحديدها بمعروضة واحدة فقط، ولكنها بحاجة لمعروضات عدة لإيصال المفاهيم والظاهرة بشكل مبسّط ومشجع للزائر على التفاعل معها.

لذا، بعد بحث حول انتقال الصوت وأشكاله والتقنيات التي من الممكن أن يتم تطبيقها داخل الاستوديو، وبعد مراجعة بعض المفاهيم المتعلقة بالصوت (كالمحيط الصوتي)، تبين أن الإذاعة أو الراديو من أكثر الآليات الصوتية التي كانت جزءاً من الثورة الكهربائية، فلم يعد الصوت مرتبطاً بنقطته الأصلية، ولم يسبق أن اختفى الصوت عبر الفضاء ليعاود الظهور من جديد في مكان آخر (Schafet, 1993)، هذا ما أكدته إحدى مطورات المعروضات عند حديثها عن اختيارهم لوضع المعروضة في مسار المحيط الصوتي عوضاً عن مسار فيزياء الصوت، قائلة: "طرحنا المعروضة كقضية مجتمعية في المعرض، فالراديو هو أحد مكونات المحيط الصوتي الذي نعيشه"، من هنا بدأت الفكرة تتوضح أكثر حول هذه المعروضة وشكلها، وأيضاً ارتباطها في المعرض.

 

استكملت هذه المرحلة بكتابة ورقة مفاهيمية حول هذه المعروضة وهدفها وارتباطها بالمعرض، وتحديداً بمسار المحيط الصوتي.  فمن خلال هذه المعروضة، سيعيش الزائر تجربة مذيع الإذاعة داخل محطة البث، يستكشف مكوناتها الأساسية، يقرر مع نفسه أو مع من يشاركه التجربة نصاً متخيلاً لكي يذاع داخل فضاء الاستوديو، وسيتمكن في محطة أخرى، وأيضاً الزوار جميعاً، من التقاط صوته عبر المذياع أو هواتفهم النقالة، من خلال البحث في مجال الترددات على تردد هذه الإذاعة.  بعد كتابة الورقة المفاهيمية، بدأ العمل على تحديد مكونات هذه المعروضة والتقنية الأنسب للعمل عليها.

 

المعروضة تقنياً

وقال أحد مطوري المعروضة حول التقنية في مقابلة معه: "في البداية، كان يجب الإجابة عن السؤال: كيف نحول صوت الإنسان الى موجات راديو؟ فالصوت الخارج من الإنسان هو نتاج اهتزاز الأوتار الصوتية مع الهواء الخارج من الرئة، فينتج موجات صوتية 20kHz – 20 Hz، أما فيما يخص موجة الراديو، فتكون قيمتها من 300GHz – 30Hz، للقيام بتحويل موجات الصوت الخاصة بالإنسان إلى موجات راديو بحاجة لوجود معالج (Processor)، "هنالك تقنيات تعالج الصوت باستخدام معدات ضخمة كما هو متبع في الإذاعات المحلية والعالمية التي تحتاج إلى وجود مختص، لكن في حالة هذه المعروضة، فإنها بحاجة لتقنية بسيطة وغير مكلفة، وهنالك معالجات دقيقة متوفرة وبسيطة منها الـ(Raspberry Pi)".

 

معالج الـ(Raspberry Pi) هو أحد أنواع المعالجات الدقيقة التي ارتأى فريق الاستوديو اختيارها لسببين؛ الأول أن هذه القطعة تمكننا من القيام بعملية تحويل الأصوات إلى نسخة رقمية (Digital)، وثم معالجتها لتخرج لنا على شكل موجات راديو لوجود نظام يسمى (spread-spectrum clock signal -SSCS) يسهل عملية تحويل الموجات التي يستقبلها من كرت الصوت (USB Soundcard) إلى نطاق موجات الـFM، فمن خلال هذه القطعة، تمكن الفريق من العمل على برمجتها للقيام بتحويل الأصوات إضافة إلى أن يكون نطاق البث يملأ فراغ الاستوديو.

 

أما السبب الثاني، فهذه القطعة متوفرة في الأسواق "بإمكان أي شخص استخدامها من خلال تعلم مبادئ برمجة متوفرة على منصات مختلفة، منها الـ(YouTube)، بذلك نشجع الجمهور على التجربة والتعرف على تقنيات مختلفة".

 

 تصميم المعروضة

في أثناء العمل على المعروضة من ناحية تقنية، كان الفريق أيضاً يضع التصميم لهذه المعروضة من أولوياته، وكيف من الممكن أن يكون تصميمها، كيف لهذا التصميم أن يحقق هدفها، وأن يشعر الزائر بخبرة كاملة داخل هذه المعروضة.  تطلب ذلك من الفريق القيام بجولة على بعض الإذاعات الموجودة في رام الله، وأيضاً على بعض الأستوديوهات، لنتمكن من تطوير معروضة تجمع ما بين وضوح المبدأ العلمي وسهولة التفاعل وإتاحة خوض خبرات جديدة مفتوحة يختارها الزائرون.  هذه الجولات ساندتنا معرفياً لتحديد المواد أو الأجهزة التي يجب أن تكون موجودة في هذه التجربة منها مازج الصوت (Sound Mixer)، والميكرفون، وسماعات الأذن، ... وغيرها من مكونات داخل هذه المعروضة.

 

تنتقل الآن المعروضة إلى مرحلة بناء النموذج الأولي (Prototype)، التي هي مرحلة تستند إلى تقييم الجمهور، حيث نتبع عملية تطوير تكرارية مستنيرة من تقييم الزوار.  عادةً، هناك جولات عدة من النماذج الأولية السريعة منخفضة التكلفة مع مجموعات صغيرة من الزملاء قبل اختبارها مع الزوار من أجل التحسين (King et al., 2018)، لذلك عمل استوديو العلوم على تجربة تقنيات المعروضات مع مجموعة من موظفي مؤسسة عبد المحسن القطان، وبعض المختصين في مجال التصميم، وذلك بهدف الحصول على بعض من الملاحظات والتعليقات.  أعيدت التجربة، أيضاً، بعد فترة وجيزة مع مجموعة مدرسية تم التنسيق لزيارتهم للأستوديو بهدف استكمال التغذية الراجعة للمعروضة.

 

 من خلال التجارب السابقة مع الجمهور، تأكد احتياجات وشكل المعروضة أكثر من ذي قبل.  كان المقترح الأول لتصميم المعروضة لتفاعل شخص واحد في داخل الإذاعة كما هو موضح في الصورة رقم 4، لكن تبين من خلال مرحلة التجريب أن هنالك حاجة إلى أن تكون تشاركية داخل الغرفة، حيث قام الطلاب بالتفاعل مع المعروضة بشكل جماعي من خلال عمل مقابلات بأن يلعب أحد الطلاب دور المذيع، والآخر الضيف.  تؤكد الدراسات السابقة أن الزوار يميلون إلى مشاركة المعروضات على الرغم أن بعضها يتم تصميمها في الأصل لاستخدام واحد كل مرة، فالزائرون يتفاعلون مع المعروضات كمجموعة، لذا يفضل تصميم المعروضة لاستيعاب عامل التأقلم الاجتماعي Bitgood, 1991)).



يشير (Bitgood) إلى أنه من الأفضل دائماً أن تكون استجابة الزائر المطلوبة واضحة ومستقلة عن التعليمات والرسومات التوضيحية، حيث إن الأزرار الكبيرة والملونة وغيرها من الأدوات، توفر عموما إشارات واضحة لوظيفتها، بحيث يجعل مظهرها البصري وكيفية الاستخدام واضح Bitgood, 1991))، لذا حاول فريق تطوير المعروضات بالاعتماد على الزيارات الميدانية لإحدى الإذاعات المحلية، استخدام أدوات واضحة وبسيطة للجمهور، فتم استخدام أدوات بسيطة ومألوفة للزائرين، بحيث يتم التفاعل معها دون الاعتماد على الرسوم والكتابات التوضيحية، فاستخدم الـ(iPad)، والمازج (Mixer) والسماعات والميكرفون من داخل المعروضة كما هو موضح في الصورة رقم 5.  أما فيما يخص التصميم العام، فحاول فريق مطوري المعروضات محاكاة غرفة المذيع، فتم تصميمها بحيث تحتوي على شباك صغير، ومن الداخل مغطاة بالإسفنج الذي يعمل على امتصاص الصوت ويمنع تردده في داخل الغرفة.

 

أما بخصوص موقع المعروضة في مخطط المعرض، فيجب الأخذ بالاعتبار كيفية ارتباط المعروضة التفاعلية بالمعروضات الأخرى في المنطقة، حيث تؤكد بعض الدراسات وجوب الحذر خلال تصميم مساحات العرض (Bitgood, 2014)، فقد تم تحديد موقع المعروضة بناء على ارتباطها بأحد مسارات المعرض، وهو مسار المحيط الصوتي في وسط المعرض، حيث يمر الزائر بمسار فيزياء الصوت، ثم ينتقل إلى مسار المحيط الصوتي الذي يبتدئ بمعروضة محيطنا الصوتي وينتهي المسار بمعروضة إذاعة الاستوديو، فخلال مقابلة مع مطورة المعروضات هبة برقان التي كانت مسؤولة عن تصميم مخطط المعرض وتوزيع المعروضات، أكدت أن موقع المعروضة في المعرض كان بناء على مسار الخبرة التي يمر بها الزائر خلال تجوّله في المعرض "فهمت فيزياء الصوت، ثم فهمت المحيط الصوتي ثم تطبيقات المحيط الصوتي ... فأولاً تفاعلوا مع الخرائط في محيطنا الصوتي، ثم تفاعلوا مع المكونات للمحيط الصوتي، ثم أعطيتهم تطبيقاً عملياً".

وبذلك تنتقل المعروضة من مرحلة الإنتاج إلى مرحلة التفاعل مع الجمهور، وبهذا الانتقال يمكننا تعريفها بأنها معروضة تفاعلية.  فالمعروضة التفاعلية يمكن تعريفها بجهاز ينتج عن استجابة الزائر مع المعروضة تغييراً في المعروضة (Bitgood, 2014).

 

التفاعل مع المعروضة:

"صباح الخير يا فلسطين ... صباح الخير يا بلد".  هكذا تفاعل أحد طلاب مدرسة جلجليا المختلطة داخل المعروضة جالساً على المقعد ومرتدياً السمّاعة، متقمصاً دور المذيع ومسترجعاً خبرته السابقة حول مفهوم الإذاعة والمذيع.

 

يرى كل من الباحثين الأمريكيين فالك وديركينج حول تجربة المتحف، أنها تبدأ قبل زيارة المتحف، وتشمل الخبرات والمصادر والاهتمامات السابقة وهويات يمتلكها الزائر من قبل.  وتستكمل خبرة المتحف داخل المتحف من تفاعل مع الموظفين والزوار الآخرين والمعروضات، وتستمر هذه الخبرة لفترة طويلة بعد مغادرة الشخص المتحف (Falk & Dierking, 2013).

 

بناء على ما سبق، عمل الباحث الأمريكي جون فولك على بناء نموذج لفهم خبرة الزائر في المتاحف التي تؤكد على أهمية خبرة الزائر السابقة والحالية خلال الزيارة، وارتباط الزمن بهذا النموذج، حيث عرّف هذا النموذج بـ"نموذج خبرة الزائر" (The Museum Visitor Experience Model) الذي يؤكد على أهمية فهم الخبرة للزائر قبل الزيارة وخلالها وبعدها.  وتندرج في هذا النموذج، أيضاً، هويات الزوار (مستكشف، ميسر، باحث عن خبرة، محترف/هاوٍ أو باحث عن متنفس) وأيضاً نموذج آخر حول التعلم، وهو "نموذج التعلم السياقي" (Contextual Model of Learning)، وأثر الزيارة على الهوية الشخصية والتصورات حول ما يتيحه المتحف (Falk, 2016).

 

خلال الزيارة

يندفع الطلاب في ساحة المعرض ويبدأون التفاعل مع المعروضات، لكن ما تمت ملاحظته عند الاقتراب من معروضة الإذاعة، سألت أكثر من مجموعة من طلاب المدارس حول إمكانية الدخول والتفاعل، "مسموح؟".

بإمكاننا فهم السبب وراء هذا السؤال من خلال "نموذج التعلم السياقي".

هذا النموذج عبارة عن وسيلة لتنظيم تعقيدات التعلم ضمن إطار الاختيار الحر (Free-Choice)، كما أنه لا يدعي التنبؤات، فالتعلم ظاهرة معقدة تقع ضمن سلسلة من السياقات، والنمط يمكن استخدامه كإطار عمل، فمفهوم التعلم يتجسد في هذا الإطار، ويمكن تصوير التعلم كجهد مدفوع بالسياق لإضافة معنى بهدف البقاء والازدهار، فيما يظهر الجهد على أنه حوار مستمر لا نهاية له بين الفرد والبيئة الاجتماعية والثقافية، وأن الحوار المدفوع من السياقات ما هو إلا عملية تفاعلات أو إنتاج تفاعلات بين السياقات الشخصية (Personal context) والاجتماعية الثقافية (Sociocultural context) والمادية (Physical context) للفرد مع مرور الوقت، هذا النموذج مستمد من النظريات البنيوية والمعرفية والاجتماعية الثقافية للتعلم، والسمة الرئيسية للإطار هي التركيز على السياق كإطار للتفكير في عملية التعلم التي تأثرت بالآخرين (Falk & Storksdieck, 2005).  إن هذا النموذج غير ثابت بل متغير مع الزمن، فالزمن من أهم الأبعاد المؤثرة على هذا النموذج، فالسياقات تتغير عبره، وهو ما تم اعتباره كبعد رابع لهذا النموذج (Falk & Dierking, 2000).

باستخدام هذه السياقات الثلاثة نتمكن من فهم خبرة التعلم من خلال التفاعل مع المعروضة، فالسياق المادي هو البيئة المادية التي تشمل خصائص واسعة النطاق للمكان والإضاءة ومكونات المعرض وغيرها من الخصائص المادية داخل هذا السياق.  أما السياق الاجتماعي الثقافي، فهو كل التفاعلات داخل السياق، بما فيها التفاعلات بين المجموعات والأفراد وموظفي المتحف أو المعرض.  وأخيراً السياق الشخصي، هو جميع الخبرات السابقة للزائر والاهتمامات والتوقعات السابقة ومدى قدرته على الاختيار والتحكم في عملية التعلم (Falk & Dierking, 2005).

 

السياق الشخصي:

بشكل عام، تعتبر تجربة السماع للإذاعة أو الراديو تجربة عامة يشترك بها الجميع، لذا كم منا ما سمع الإذاعة خلال تواجده في المنزل أو السيارة.  من هنا بإمكاننا الافتراض أن لكل زائر تجربته الخاصة فيما يخص الإذاعة، وهذا ما يؤكده السياق الشخصي.

يمتلك كل زائر سياقه الشخصي الفريد، فهو كل ما يملكه من خبرات ومعارف سابقة، إضافة إلى الاهتمامات والمحفزات والمخاوف، كما أن هذا السياق يحتوي على توقعات الزائر من الزيارات للسياقات المختلفة، ويقوم الزائر برسم مسار معين ويخطط لأجندة لهذه الزيارة (Dierking & Falk, 1992).  من هنا، بإمكاننا تفسير سؤال الطلاب حول إمكانيتهم الدخول داخل الغرفة "مسموح؟"، وأيضاً السبب وراء تفاعل الطلاب بأسلوب إذاعي "صباح الخير يا فلسطين ... صباح الخير يا بلد".

فينبع السؤال حول إمكانيتهم التفاعل مع المعروضة، من مخاوف سابقة من القوانين التي توضع بشكل عام للزيارات غير المنهجية خارج المدرسة، أما فيما يخص التفاعل على شكل مذيع، فالمثال السابق لأحد الطلاب لم يكن الوحيد، بل أغلب التفاعلات مع المعروضات كانت بمثابة تقمص لشخصية المذيع، فخلال زيارات الاستوديو من قبل طلاب مدرسة جلجليا المختلطة، حيث قامت طالبة بالتفاعل على شكل أداء برنامج إذاعي حيث قالت: "اليوم جيناكم ببرنامج جديد، برنامج على الهوا يبدأ الساعة العاشرة صباحاً.. نستقبل اتصالاتكم ... ومعنا على الهوا ربُى"، كما عبر أحد الطلاب بعد خروجه من المعروضة عن شعوره قائلاً: "شعرت نفسي مذيع ... رائع".

 

السياق المادي:

مساحة التفاعل مع معروضة الإذاعة لا تقتصر فقط داخل الغرفة، بل أيضاً خارجها، فوجود الواجهة الزجاجية وأيضاً وجود المذياع في ساحة المعرض، جعل من مساحة التفاعل مع المعروضة أكبر وأوسع.  فالسياق المادي الذي هو عبارة عن المكونات المادية والعناصر التصميمية المختلفة، وعلاقته بقدرة الزائر على التنقل بثقة داخل البيئة، وتأثير خصائص المكان على عملية التعلم (Falk & Dierking, 2005)، يمكننا من تفسير التفاعل والتعلم الذي حدث، فخلال تفاعل إحدى المدارس داخل المعرض، نشأ حوار بين معلمة وطالباتها حول هدف وجود الإسفنج داخل المعروضة، فكانت إجابة إحدى الطالبات بـ: "يضبطوا الصوت وما يطلع لبرة"، فلم تقتصر التفاعل مع المعروضة من خلال الحديث من خلال منبر الإذاعة، بل توسع إلى عناصر هذه المعروضة التي يعتبر الإسفنج أحدها.

 

السياق الاجتماعي الثقافي

إن السياقات الثلاثة متداخلة بين بعضها البعض، من خلال العودة إلى المثال السابق في السياق الشخصي، حول سؤال الطلاب عن إمكانيتهم الدخول داخل المعروضة بقولهم: "مسموح؟" فهذا السؤال أيضاً مرتبط بالسياق الاجتماعي، الذي لا ينحصر في تفاعل الطلاب داخل المعرض، بل أيضاً ما يحملونه من ثقافة وقيم تؤثر في عملية التعلم، فالقيم والقوانين تضبط عملية التعلم وتسيطر عليها أيضاً.

 

أما بخصوص التفاعل مع المعروضة بين الزائرين والمجموعات الأخرى، فتفاعل الطلاب في الزيارات المدرسية ينحصر بين مجموعات الطلاب والميسرين داخل المعرض، ولم يقتصر التفاعل داخل المعروضة بل أيضاً خارجها، فتفاعل الطلاب من خارجها من خلال سماع أصوات زملائهم من المذياع الموجود في ساحة المعرض.

 

لا يقف تفاعل الطلاب فقط داخل الاستوديو، بل ينتقل إلى خارجه بعد الزيارة، وبذلك تكتمل الصورة لفهم خبرة الزائر داخل سياق الاستوديو، فمن خلال مقابلات تمت مع طلاب المدارس بعد زيارتهم بأشهر، تبين لنا أن خبرتهم مع المعرض انتقلت إلى منازلهم وعائلاتهم، فشارك أحد الطلاب قائلاً: "أنا حكيت لأقربائي الصغار اللي بحبوش إنو يتعلموا من الكتب إنو يستفيدوا من هاي المعارض".

 

تبنى خبرة الزائر بشكل واقع شخصي، وغير مرتبطة بكيان أو مساحة أو مناسبة محددة، ولا يتم تنظيم الذكرى والخبرة بشكل تصنيفي للأغراض والمواد التي رأوها أو لمفاهيم تم تعلمها، بل يقومون باستيعاب وتصنيف الذاكرة والخبرة إلى فئات ذات أهمية شخصية لهم ولهويتهم (Falk, 2016) فتتم مشاركة الخبرة والذاكرة مع الآخرين بشكل يعبر عن هوياتهم.

 

وكمحاولة من الفريق لاستكمال خبرة الزائر وتطويرها بناء على المقابلات وتفاعلات الجمهور بشكل مستمر، تم عمل بعض التحديثات على المعروضة بعد افتتاح المعرض.  فمثلاً، تم جمع ملاحظات حول تفاعل الجمهور خارج الغرفة، فتبين أن الجمهور يرغب في الاستماع  إلى الإذاعة بشكل جماعي أمام المعروضة وفي الوقت نفسه مشاهدة ما يحدث بالداخل، وأيضاً بحاجة إلى مكان للجلوس، وذلك لأن تفاعلهم مع المعروضة يستغرق وقتاً طويلاً (تظهر صورة رقم 8 التصميم الأولي للمعروضة)، وهذا ما ذكره بيتغود )2014 (Bitgood,  وهو متخصص في التصميم الاجتماعي، حيث يؤكد على أهمية السلامة والراحة للزوار من جميع الأعمار، ويمكن التخطيط لراحة المستخدمين من خلال توفير مقاعد، وذلك لاحتمالية قضاء الزوار وقتاً طويلاً في المعرض (Bitgood, 2014).  وإضافة إلى التطوير على أرض المعرض نفسه، يستمر الفريق ببناء بعض الأفكار لتطوير المعروضة كمحتوى من خلال فعاليات مختلفة حول المعروضة، فيعمل الفريق على تقديم المعروضة كمنصة يتحدث من خلالها بعض الفنانين أو المؤدين خلال الأنشطة والفعاليات المستقبلية.

 

في الختام، إن تطوير وإنتاج المعروضات هي عملية مستمرة لا تنتهي، وهي مبنية بشكل مترابط مع الجمهور وأيضاً مع المعرض، فمعروضة إذاعة استوديو العلوم لم تنتهِ رحلتها بعد، بل بإمكاننا القول إنها قد بدأت رحلة جديدة قد ينتهي بها الحال بشكل آخر، أو قد تنتج عنها أفكار تكون نواة لمعروضة أخرى.

 

*باحثة في استوديو العلوم / برنامج البحث والتطوير التربوي

 

 

 

المراجع:

 

  • Bitgood, S. (2014). Engaging the Visitor. Designing Exhibits that Work. Museums.
  • Bitgood, S. (1991). Suggested guidelines for designing interactive exhibits. Visitor Behavior, 6(4), 4-11.
  • Dierking, L. D., & Falk, J. H. (1992). The museum experience. Whalesback Books.
  • Falk, J. H. (2016). Identity and the museum visitor experience. Routledge.
  • Falk John, H., & Dierking Lynn, D. (2000). Learning from Museums. Visitor experiences and the making of meaning.
  • Falk, J. H., & Dierking, L. D. (2016). The museum experience revisited. Routledge.
  • Falk, J., & Storksdieck, M. (2005). Using the contextual model of learning to understand visitor learning from a science center exhibition. Science education, 89 (5), 744-778.
  • King, D., Ma, J., Armendariz, A., & Yu, K. (2018). Developing interactive exhibits with scientists: Three example collaborations from the life sciences collection at the Exploratorium. Integrative and comparative biology, 58(1), 94-102.
  • Schafer, R. M. (1993). The soundscape: Our sonic environment and the tuning of the world. Simon and Schuster.
  • Thoring, K., & Müller, R. M. (2011, October). Understanding the creative mechanisms of design thinking: an evolutionary approach. In Procedings of the Second Conference on Creativity and Innovation in Design (pp. 137-147).