بين البنية والفعل: المعرض كَيَدٍ ثالثةٍ في العبور

الرئيسية بين البنية والفعل: المعرض كَيَدٍ ثالثةٍ في العبور

سارة زهران*

مشاركون في اللقاءات الحوارية في بلدة نعلين لنقاش موضوع الحيّز العام كمسؤوليّة اجتماعيّة جماعيّة في علاقته بظاهرة المركبات "المشطوبة" غير القانونيّة والأزمة المروريّة، والمخاطر الحياتية الاجتماعية الناشئة عن هذه الظاهرة

 

اليد، ثنائية المجاز والحقيقة، المادة والذهن، إنها لغة التحريك، الحفر، الصناعة، تعزف، تؤشر، تصافح، تصفع، عبرها نظهر الامتعاض والحب، هي أداة للمسرح، إشارة للنصر، يد للإنتاج، ويد للاستهلاك، وهي التي حملتنا عبر هذه الورقة من أجل الرؤية، حيث مسكت البصر وأدارته نحو المجتمع، ووضعتنا أمام سؤال المعرفة والرؤية، كيف وماذا ومتى نرى؟ وما علاقة ذلك بالمعرفة التي نكونها عن الحياة اليومية، المجتمع، والذات؟ فهذا السؤال الذي تأجج عبر الفن، وما نقله لنا من تفاصيل عبر المعارض المتنوعة التي تم العمل عليها في مناطق مختلفة، فالمعرض كان اليد التي امتدت إلى المجتمع وقلبته، حفرت في أعماقه لتمكنه من الرؤية، من العبور.

هذه الورقة تحاول البحث في العلاقة بين الفن والمجتمع، وقدرة الفعل الفني على توسيع أفق الرؤية واختراق بنية المجتمع الثقافية، والبحث في مجموعة من القضايا التي يعايشها الناس كل يوم دون مواجهتها؛ قضايا تتعلق بالمدينة كمكان يحمل معايير اجتماعية محددة، لديه صلاته مع المجتمع، وقوانين تنظم العلاقة بين أفراده، قضايا تتعلق بالنساء، بالشباب، وعلاقة هذه الأماكن مع الاستعمار، والتغيرات المتنوعة التي طرأت على المشهد الطبيعي، والاجتماعي نتيجة لذلك، يتم طرح هذه القضايا عبر الفن، بصفته أداة للتنبيه، للكشف عن هذه القضايا وتقديمها مرة أخرى للناس.

تتبع الورقة أربعة معارض فنية في ثلاث محافظات: معرض وجوه للأقنعة في طولكرم "عنبتا"، معرضا اليد الثالثة وبروفايلات مدينة في قلقيلية، معرض سقف البلد في رام الله "نعلين"، وهي مجموعة من المعارض نظمت عبر مجموعات اجتماعية من الأماكن ذاتها، يتحدثون عن قضاياهم داخل هذه الأماكن من خلال المعرض.  جاءت هذه المعارض ضمن مشروع "الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية" الذي ينفذه برنامج البحث والتطوير التربوي في مؤسسة عبد المحسن القطَّان.

 

الفن كفعل في مواجهة البنية

تطرح العلوم الاجتماعية جدلاً أساسياً يتعلق بالفعل والبنية، وتقوم بدراسة المجتمع من خلالهما، وكل المدارس تحلل الظواهر الاجتماعية ومعانيها بالاستناد إليهما، فالبنية صلبة ترتبط بصلات مع المؤسسات الاجتماعية كافة، وتعتبر أن العلاقة القائمة بين تلك المؤسسات وظيفية تكاملية، وتشبه علاقة الجسد بذاته، فإذا تضرر أي عضو يؤثر على سائر الجسد، وكذلك بالنسبة لمنظرين البنية، فإنه يتم النظر إلى المجتمع على أنه بنية مكونة من مجموعة من المؤسسات البنيوية التي تقوم بدور تكاملي في علاقتها مع ذاتها، فإذا أخلت إحدى هذه المؤسسات بدورها، فإن ذلك يؤثر على المجتمع كافة، وهذه النظرة إلى المجتمع وتماسكه تتطلع بشمولية وحتمية لطبيعة هذه العلاقات، وهذا ما يجعل أي "فعل" خارج هذه البنية غير قادر على التأثير فيها، ولا تنظر إلى الأفعال الفردية كمحرك للمجتمع، ولا تنظر إلى الأفراد بانعزالهم عن هذه البنى، وإنما تحلل المجتمعيات وعلاقة الأفراد بها بناء على هذه العلاقة الوظيفية التكاملية.  وهذا بشكل بسيط ما تناوله دوركايم مثلاً في تحليله للظواهر الاجتماعية، ودراسته للمجتمع وعلاقة الأفراد به.

أما منظرو المدرسة الرمزية، فهم ينظرون إلى التداعيات المختلفة التي تنتج عن أي فعل يقوم به الأفراد، ويتتبعون المعاني الناجمة عن هذا الفعل وتأثيره بالمجتمع، فيفسر فيبر الفعل الاجتماعي على أنه "الترك أو التحمل، ويمكن توجيهه تبعاً للسلوك الماضي أو الحاضر أو المستقبل المتوقع من الآخرين".[1]  وهؤلاء الآخرون يمكن أن يكونوا "فرادى ومعارف أو عدداً من الأشخاص غير محددي العدد، وغير معروفين تماماً"،[2] كما أنه يذهب ليكون أكثر دقة ليحدد شكل هذا الفعل الاجتماعي، فلا يعتبر كل الأفعال  أفعالاً اجتماعية، فمثلاً يعتبر السلوك الديني إذا ارتبط بحدود الصلاة والتأمل المنفرد فعلاً ذاتياً وليس اجتماعياً، لأنه توقف عند حدود الفرد، ولا يعتبر أشكال الاحتكاك بين البشر ذات طابع اجتماعي، ولكن إذا كان لهذا السلوك أو الاحتكاك معنى؛ أي أن يكون موجهاً تباعاً لسلوك آخرين، فيذكر بأن تصادم دراجتين هو مجرد حادث، مثله مثل سائر الحوادث التي قد تحدث بالطبيعة عادة، ولكن محاولة قائدي الدراجة تفادي الاصطدام وما قد ينتج عنه من تبادل الشتائم مثلاً أو تعارك بالأيادي أو نقاش سلمي، فإن ذلك يمكن أن نطلق عليه فعلاً اجتماعياً.  ويحدد فيبر الفعل الاجتماعي بمجموعة من الشروط فـ"لا يعني أن كل فعل مماثل لأفعال أشخاص آخرين، أو كل فعل متأثر بسلوك آخرين"؛ بمعنى أنه إذا كانت هناك مجموعة تقف بالشارع وهطل المطر فجأة، وقاموا بفتح مظلاتهم، هذا لا يعني أنهم قلدوا الآخرين، وبالتالي يمكننا أن نقول إنه فعل اجتماعي، أو إذا كان الفرد موجوداً بحشد يمكن له أن يقوم بما يقومون به؛[3] أي لا يمكن أن نتخذ من الحدث أو الفعل، أداةً من أجل خلق تصور حول ردود فعل الآخرين حوله، لأن المعنى الذي يحدده الفاعل لا يتعلق بردود الفعل، وإنما في المساهمة في خلق معاني لهذه الأفعال، المعنى الاجتماعي المرتبط بالعلاقة القائمة بين السبب وشكل هذا المعنى المتولد بين الجماعة، فيبقى فعلاً ما؛ "فعلاً" ما دام ارتبط بالفرد وليس بسواه، فيصبح اجتماعياً عندما يتحول إلى فضاء يشترك فيه الأفراد، اجتماعياً لا يتعلق بالتقليد أو بالمماهاة المتولدة من الظروف الطبيعية كهطول المطر مثلاً، أو عملية التصادم، وإنما بمجموع المعاني التي يتم خلقها نتيجة هذا الحدث، الفعل، وتعاطي الفرد معه ومع معناه الاجتماعي، وهذا التصور لا يستثني كل فعل ذاتي، وإنما يحاول أن يعطي تعريفاً واضحاً لمعنى اجتماعي.

هذا التحليل الفيبري للفعل لا يقصي البنية الاجتماعية، ولكنه يحاول تحليل الظواهر الاجتماعية من خلال معانيها، وليس ارتباطاتها بالكل، حيث يمكن لحدث ما أن يظهر فجأة دون ارتباط مباشر مع البنية، وتحمل الأفعال مجموعة من الرمزيات التي تحيل نفسها بطريقة أو بأخرى للبنية الاجتماعية، دون أن تتجمد تحتها، أو أن تنطلق منها، وبهذا السياق نتناول الفن بصفته فعلاً اجتماعياً وليس ذاتياً، تنبع قيمته من الحوار الذي يحدثه في المجتمع، ومن اختراقه للبنية، وليس بصفته فعلاً جمالياً تأملياً، يحدث بين الفنان وذاته، دون هذا التشابك مع مجموعة من القضايا المجتمعية.

وينأى الفن عن ذاتيته عندما يجد وسيطاً يحدث هذا الحوار.  يمكننا أن نعتبر أن هذا الوسيط هو الحادث الذي جعل سائقي الدراجتين يتبادلان الشتائم، يتعاركان أو يحلان المسألة من خلال النقاش الودي.  وهنا نتناول المعرض الفني بصفته هذا الوسيط بين الفن والمجتمع، عبر طرحه هذا النقاش حول قضايا الناس، وهمومهم اليومية، وأحلامهم، وعلاقتهم مع الاستعمار؛ أي إن المعرض الفني هو الحادث الذي يجبر سائقي الدراجة على النزول والحديث، وهذا الحديث يعطي للحادث معنى اجتماعياً قابلاً للنقاش، والزعزعة، وربما التغيير.

ففي معرض "سقف البلد"، الذي تم تنفيذه في نعلين، حضرت مجموعة من المكونات داخل هذه المساحة المغلقة، حملت نعلين برمزية عالية إلى الواقع، أو إلى الحقيقة.  إنها الطريقة التي حثت أهل نعلين على الرؤية، والانتباه إلى التغيرات الاجتماعية التي تكونت عبر الزمن، وإلى التفكير بالمعنى.  فاستحضر المعرض الباص المتروك منذ زمن في إحدى زوايا القرية، و"البسكليت"، وشهادات الناس، والسيارات، وكرسيين يطلان على الجبل.  حضرت هذه المكونات داخل المعرض لتكشف للناس عن التغيرات التي حدثت على المكان، وعلى الهوية.  إنه الحادث الذي أجبر سكان نعلين على الحوار والنقاش، الرفض والقبول، إلى الدفاع عن صورة نعلين، تاريخها وحاضرها، والبحث في إمكانيات رؤية جديدة يصنعها الناس بأنفسهم.

 

المجتمع داخل معرض الفن

حملت المعارض الأربعة قضايا المجتمع، قضايا حددتها المجموعات التي شاركت في التفكير والبحث حول ذاتها وعلاقتها مع مجتمعها المتسع، القضايا التي خرجت من هذا البحث تحولت بطرق فنية/رمزية إلى أشكال من التعبير وضعت داخل المعرض، تنوعت هذه الأشكال من فيديوهات تحدثت عن قضايا النساء مثل "هذا وجهي، هذا أنا: فيديو توثيقي"، الذي يتحدث عن تجربة مجموعة من الفتيات في عنبتا بالتصوير، حيث كانت الكاميرا فعلاً يكشف الذات، يضعها أمام العدسة (الكاميرا)، ويبحث في أحلام هؤلاء الفتيات وعلاقتها مع المجتمع، والعائلة، والذات، وأيضاً فيديو شهادة ميلاد الذي تحدث عن قضايا النساء اللواتي تزوجن بعمر الـ14، وأن هذا العمر، هذا الزمن، توقف هناك، أي قبل فعل الزواج، والفيديو الثالث داخل معرض وجوه للأقنعة يظهر صوت امرأة تتحدث عن حياة كاملة، زواج وطلاق وأطفال ومسؤوليات اجتماعية، هذه الأفعال ترددها بنبرات صوتية متنوعة، وهذا الصوت يرافق محاولة لنحت وجه يشبه هذه الحياة، وجه ربما يختلف عن وجه تلك السيدة، أو صورة عنه، يمكن أن يكون وجه الحياة التي عاشتها هذه السيدة، والتي تتقاطع مع وجوه سيدات في هذا العالم.

حمل معرض وجوه للأقنعة والمعارض الأخرى الكثير من القضايا ووضعها أمام المجتمع، إنها قضاياهم، يتعايشون معها، ولكن جاء المعرض ليكثف وجودها البصري أمامهم، بتشكلات فنية متنوعة تحاورهم وتستفزهم، تذكرهم بصورتها التي تقتضي مصلحتهم إنكارها، فمنع الفتيات من قيادة الدراجة، يوفر على الأهالي في هذه التجمعات عبء النقاش، ولوم المجتمع، "فيطيع الفاعلون الاجتماعيون (agents) القاعدة حين يكون من مصلحتهم أن يطيعوها أكثر من أن يعصوها"،[4] وعلى الرغم من أن "القاعدة ليس فعالة بذاتها على نحو أتوماتيكي لأنها تجبرنا على السؤال عن الشروط التي يمكن لقاعدة أن تعمل فيها"،[5] فإنها تحدد علاقتنا مع المجتمع بالعلن، وكان المعرض هو تحدي لهذه القاعدة في العلن.  جاء المعرض كشكل من الأشكال الذكية التي تعيد القضية للمجتمع، وتحثهم على تبني أفعال تغييرية داخله، المعرض هدفه الكشف، والتعريف، والتكثيف، وتأتي هذه الخصائص بناء على قوة المحتويات داخله، بحيث يتم تنظيم المعرض بطريقة تؤشر أو تفرض على الزائر جمل بصرية متتالية تلبي الغرض الذي أقيم من أجله.

ماذا يكشف المعرض؟ وماذا يعرف؟ وكيف يعمل على تكثيف هذا المحتوى أمام الزوار؟ فهو بهذا السياق (المعرض( امتداد مجتمعي يتّخذ من الفن أداة للحديث عن المجتمع، هذا الموجود خارج المعرض، في الشارع، الحديقة، البيت، المدرسة، الحاجز، يمتد عبر الحيز ليشكل هوية الناس وطريقة عيشهم.  ففي معرض بروفايلات مدينة، عملت المجموعة على تصوير حوارها الذاتي مع المدينة عبر الربط بين المدينة كجغرافيا، والمدينة كتاريخ، المدينة كإنسان يتحدث عن سيرته، فعرفت المدينة ذاتها بناء على الحوار مع المتغيرات الحيزية، فقلقيلية أصبحت تعرف على أنها ليست المدينة الخضراء، مدينة الأسمنت، مدينة الفوضى وأكياس البلاستيك في كل مكان، وفي الوقت ذاته كشفت عن علاقة المجتمع مع هذا الحيز، وعلاقة الفنانين أنفسهم معها، فحملت الأعمال الفنية داخل المعرض نقداً لهذا التغيير وكثفت أشكلته عبر سرديات بصرية يستطيع زائر المعرض من قلقيلية ذاتها، ومن خارجها، أن يفهم هذا التغيير، أن يعيشه، وفي بعض الحالات أن يمقته.

إحدى المشاركات في الورشات الفنية المجتمعية في عنبتا ضمن التحضيرات لمعرض وجوه للأقنعة

 

المعارض عبر التاريخ

تاريخياً تم توظيف المعارض من "أجل تقديم العالم ضمن معنى يعكس الحقبة الإمبريالية"،[6] حيث عمل الأوروبيون على ابتكار معارض للتعرف على الآخر المختلف/العربي، فمثلاً احتوى المعرض العالمي الذي أقيم في باريس على "جناح لشارع القاهرة يتألّف من بيوت ذات طوابق علويّة آيلة للسّقوط، ومسجد كمسجد قايتباي"،[7] "كـتب أحد المـصريين: إنّ هذا العمل مقصود ويستهدف مُشاكلة الهيئة القديمة بمصر، وقد نُفّذ ذلك بعناية فائقة حتّى جـعل البـياض مُغـبّراً لتـتم المُـشابهة، كما بدا الحرص على جعل الجناح المصري متّسماً بالفوضى، فخلافاً للخطوط الهنـدسيّة لبقـيّة المـعرض، جرى مدّ الـشارع المُـشاكل عـلى النـحو المُميِّز للـسّوق الـشّرقيّة.  وقد ازدحم الطّـريق بالحوانيت والأكـشاك، حـيث كان فرنـسيّون يـرتدون ملابس شرقيين يبيعون العـطور، والفـطائر، والطّرابـيش.  ولاستكمال أثر الـسّوق الـشّرقيّ، كان المنظِّـمون الفرنـسيون قد استوردوا من الـقاهرة خمـسين حـماراً، إضافة إلى قائديـها والـعدد اللازم من الُسيَّاس، والبيطريين، والسّروجيين.  وكان يُمكنُ ركوب الحمير ذهاباً وإياباً في الشّارع مقابل فرنك فرنسيّ واحد، ما زاد الفـوضى إلى حدٍّ بعـيدٍ لما يـحدث في الحـياة الواقعـيّة، بحـيث إنّ مدير المـعرض قد اضطرّ إلى إصدار أمر بتخـصيص عدد معينّ من الحمير لكلّ ساعة من ساعات النّهار".[8]

وقد اشمئزّ الزوّار المـصريّون من هذا كـلّه ونأوا بأنفـسهم عـنه، حـتّى كان آخر حرجٍ يتعرّضون لهُ وهو الدّخول من باب المـسجد واكتـشاف أنّهُ، شأنهُ في ذلك شأن بقـيّة الـشّارع، قد شُيّد بحـيث يـكون مُـجرّد واجـهة خارجـيّة، حـسب تـعبير الأوروبيّــين.  أمّا من جــهة الــجامع، فلأنّ هيئــتهُ هيئة جامع من الــخارج لــيس إلاّ، أمّا من الدّاخل فــهو قــهوة جُعِــلتْ لراقصات مصريات يرقصن مع شبان ودراويش تدور.[9]  هذا الاشمئزاز الذي رافق المصريين نتيجة رؤية أحد صورهم في معرض، زعزع طريقتهم في الرؤية، وفي اتساقهم مع البيئة الاجتماعية التي يعيشون فيها، ربما وجود هذا المعرض خارج مصر ساهم في تطوير هذا الاشمئزاز، لأن هذه الصورة سترسخ في ذهن الأوروبي ويشكل تعريفاً وصورة عن مصر والمصريين دون حتى زيارتها.  هذه الوظيفة للمعرض تثير تساؤلات حول الصورة التي يعيش فيها الناس، وطرق انخراطهم في مجتمعاتهم، وتتطور هذه الوظيفة حينما تحمل المعارض طابعاً نقدياً كما في معرض وجوه للأقنعة، أو معرض سقف البلد في نعلين، نقد لليومي والعادي في حياة سكان نعلين وعنبتا، أصبح مثيراً ويخلق استفزازاً عندما تحول هذا اليومي إلى أعمال فنية داخل معرض.  بالنسبة لميتشل حوّل المعرض العالم إلى شيء يمكن تمثيله والحديث عنه، يمكن ترتيبه بمساحة مغلقة وتقديمه للجمهور.

 

معرض بلا فنان، معنى مغاير

"في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، ظلت ثقافة المتاحف الدولية ملتزمة بثبات بفكرة أن المسؤولية الأولى لمتحف الفن العام هي تنوير الزوار وتطويرهم أخلاقياً واجتماعياً وسياسياً.  أما في القرن العشرين، فأصبح المبدأ المنافس لهذا النموذج هو المتحف الجمالي"،[10] حيث بدأ السجال حول وظيفة الفن ودور الفنان، وصلاتهم مع المجتمع المحيط بهم، وأيضاً سجال كبير بين وظيفة الفن الجمالية والمجتمعية، فأكد بينجمان غيلمان على أن الأعمال الفنية توضع بالمتحف بصفتها "مواضيع للتأمل الجمالي وليس كمصدر للمعلومات التاريخية والأيديولوجية"، والبعض يرى أن "السبب الوحيد لتجمع أعمال فنية في مكان عام هو أن تعطينا نوعاً من السعادة الغامرة.  فللحظة، هناك فسحة في وسط الأدغال، نعبرها بإحساس من الانتعاش، وقد ازدادت قدرتنا على الحياة، حاملين بعض الذكرى عن السماء"،[11] وسؤالنا الأساسي في هذا الاتجاه، هل الأعمال التي تم تطويرها من قبل المجموعات تصنف على أنها أعمال فنية وتستطيع أن تحملنا ذكرى منعشة عن السماء؟ وكيف استطاعت هذه المجموعات أن تكسر شروط حقل الفن وتقدم هذه الأعمال بمعرض فني مفتوح للجمهور للرؤية والتجربة؟

عبر التاريخ الاجتماعي للبشرية تطورت مجموعة من الحقول، وتطورت معها أدواتها وشروطها، والميكانزمات التي تحكمها، والمعرفة حولها، والفن أحدها، "ويمثل أحد الحقول المعرفية التي يتم فيها بناء نسق من العلاقات المتشابكة بين كل من الفنان وجمهوره وعمله،[12] هذه العلاقات كسرتها المعارض الأربعة في مشروع الفنون والثقافة المجتمعية، وأعاد ذلك السجال إلى معنى الفنان ودوره وأدواته وإمكانيات تعلمها، ونقدها، واختراقها، ففي معرض "وجوه للأقنعة"، تعلمت النساء النحت واستخدام الكاميرا، وفي معرض "سقف البلد" تعلمت المجموعات بناء المقولة واستخدام الأداة، فحضر داخل المعرض الكثير من الصور التي نقلت تفاصيل القرية إلى السجن، وصور للحياة ومكوناتها داخل نعلين، والمشاركة في تصوير الفيلم، والمساهمة في بناء هيكلية المعرض ومحتوياته ضمن تراتب يستطيع نقل الرسالة التي تطمح هذه المجموعة في عرضها للجمهور.  أما في معرض "اليد الثالثة" في قلقيلية، فأخدت الأعمال طابعاً فنياً مختلفاً، حيث أُعيدت الموجودات من الشارع إلى المعرض، وتم تركيبها بطريقة متتالية مثلت كليتها المقولة البصرية.  هذا النمط من الاشتغال بالفن تميزت به منى حاطوم والكثير من الفنانين، حيث يأتي العادي والمألوف من البيت أو الشارع ويوضع في معرض، تغير موقعه يغير دوره، ويعيد فهم الجمهور له، فماذا يعني أن تتجمع أعداد من الأحذية بألوان وأنواع مختلفة داخل معرض اليد الثالثة في قلقيلية، أو أغراض من المطبخ واللعب وغيرها؟ يمكننا القول إنه مجرد انتقال هذه المكونات، وبغض النظر عن المعنى الذي أراده صاحب العمل، قد كون معنى مغايراً، ارتبط هذا المعنى المغاير بفهم الناس للمعرض، ووعيهم تجاه القضايا المتنوعة التي يحاول طرحها، أو حتى الأدوات التي يستخدمها من أجل ذلك؛ من أجل العرض وتوريط الجمهور بفهم معنى ناقص، فلم تأخذ الأعمال في المعارض مفهومها الفني من ارتباطها العضوي بذاتها، وإنما بارتباطها الثقافي داخل المساحة المكانية.

هذا المعنى المغاير لم يهز العمل الفني فقط، وإنما أربك مفهوم الفنان، حيث نتجت معارض فنية من غير فنانين، أو ربما ولّد هذا المعرض فنانين جدداً أعادوا تعريف الفنان، فالفنان الموهوب هو "القادر على أن يمنح تعبيراً أصيلاً لتلك الخبرات، التي يكتسبها في التعامل مع ذاتية غير مركزة، معتقة من ضغوط المعرفة والعمل"،[13] والأعمال التي نتجت من المعارض كافة كانت تركيبية تعكس المعنى، ولم يتم عرض لوحات فنية بألوان، وإنما الاستلهام من المحيط وإعادة توظيفه في حيز مكاني، ليحمل معنى اجتماعياً جديداً، والفنان في هذه الحالة هو من يعمل على تركيب الفكرة، ومنحها الأصالة من خلال هذا الامتداد العضوي من خارج إلى داخل المعرض، داخل المجتمع.

 

العقل - العينان

للمعرض آلية تحكمه، وأيضاً تحكم رواده، آلية في الرؤية والإدراك، فينقل المعرض مجموعة من الجمل البصرية التي تحمل أحياناً تأويلات مفتوحة، وأحيانا أخرى يضعنا صاحب العمل الفني على مقربة من الفهم، أو على فوهة من التناقض، بحيث لا يمكن أن يتم هذا الانتقال بلا هذه العلاقة التشاركية بين العقل والعينيين، بين الفهم والإدراك، وبين الاتفاق أو المعارضة، فتجربة المعرض عائمة على السطح، غارقة في العمق، وتدور الرمزية أحياناً بين كل ذلك، لتعيد رسم الحدود بين المعرض والرواد، بين المتلقي وصاحب الفعل، هذا الانفصال يولد لحمة المعنى؛ معنى المعرض.

يقول جون بيرجر "لا تستقر العلاقة بين ما نراه وما نعرفه أبداً"، فماذا نرى داخل المعرض؟ وماذا نعرف عما نراه؟ ولماذا علينا أن نكثف هذا الحضور لليومي والمعتاد داخل المعرض ليثير انتباه الرواد؟ أو لأشكلة هذه العلاقة؟ فالرواد هم جزء من هذا المجتمع، وربما لديهم الإشكاليات نفسها التي تحدثت عنها المعارض الأربعة، ولكن وجود هذه الإشكاليات بصورة واضحة وعلنية، فإن ذلك يستفز وعيهم الاجتماعي، ففي معرض سقف البلد، أخذ المشاركون نعلين من الفضاء العام ووضعوها في حيز محدود المساحة، لم تحضر نعلين الحالية فقط، وإنما تكسر الزمن داخل هذه المساحة المغلقة، وحضرت نعلين الماضي، وصورتها الآنية، وعبر البحث الذاتي والأنثروبولوجي، استدعت المجموعة طفولتها، وطفولة نعلين على حد سواء، وبذا جاء المعرض "لينفي أن الزمن يذهب بغير رجعة"،[14] وإنما عبر داخل المشاركين والمشاركات والرواد، ربما استفز بعضهم، أو كان بمثابة دعوة للبعض الآخر من أجل فتح أعينهم على أوسعها للرؤية، ولاتخاذ خطوات عملية لتتخلص نعلين من "الدخيل" المشهدي، السيارة المشطوبة، المعبر، الخراب، أن يتذكر صورة نعلين التي كانت، تشجعه ليجلس على الكرسيين المطليين على الجبل ويحاول استعادة الزمن لصالح نعلين الممتدة بلا جدار، وبلا لافتات بالعبرية، بلا مخدرات، بلا مستوطنين يجوبون الشوارع، وبلا التأهب المستمر على الحياة في لحظات التماس.

ثنائية المعرض تعتمد بالأساس على التكثيف، وإعادة التمثيل، هي دعوة للتفكير والتساؤل حول التفتت، التغيير والمحو الذي حل على المشهد الطبيعي والاجتماعي على حد سواء، ففي نعلين تغير الجغرافيا حوَّل المجتمع وغيَّره، أما في عنبتا، فتوقف الزمن عند عمر محدد، هذا الزمن تداعي داخل البنية الاجتماعية، وأنتج حياة هؤلاء النساء الاجتماعية، التي عبرت بلحظة الوجوه، والصور، ومقاطع الفيديو، واجبرت الزائر أن يفكر بهذه القضايا؛ قضايا النساء في عنبتا والعالم.

 

المعرض نموذج وليس الحقيقة: لا يمكن للمعرض أن يحمل القضايا كما هي في الحقيقة حتى لو كان استحضاراً لها، فالمعارض ارتبطت بالفن تاريخياً، والفن يحمل رمزيات عالية حتى لو ادّعى أنه يقول الحقيقة كما هي، مثلاً في الفيديو "شهادة ميلاد" تقف صبية أمام خلفية باهتة، وتلبس ملابس باهتة، وتحاول أن تنقل هذا البهتان إلى ملامح وجهها على الرغم من أنها تخفق قليلاً، تتحدث عن قضية الفتيات اللواتي يتزوجن بعمر 14 عاماً، ولا تبدو في الحقيقة أنها جزء منهن، هنا يتساءل الناظر أو المستمع عن الحقيقة، يحاول أن يتخيل الفتيات كافة اللواتي تزوجن بعمر 14، ولا يستطيع هذا العمل شحذ مخيلته لذلك، لكنه، بطريقة ما، يقول إن اللغة أهم من الرؤية، وهذا ما يضع المعرض في مأزق، فالكلمات وحدها هي التي تستطيع أن تنقل الزائر إلى مساحة تضامنية هائلة، تربك تفكيره بالزمن، وتعنون الرقم بالمأساة، بالخطر، بالموت.  هذا الفيديو كان النموذج وليس الحقيقة، نموذج عن فتيات في العالم تزوجن بعمر الـ14، وكان هذا الزواج بمثابة قبر لأحلامهن.

أما في الفيديو الذي يحمل عنوان "هذا وجهي، هذا أنا: فيديو توثيقي"، فيتحدث عن النساء والفتيات داخل المشروع، عن التجربة بشكل واضح ومباشر، ولكنه يحمل، أيضاً، هذا الحديث للمجتمع، حيث تجربة كل فتاة أو سيدة ظهرت في الفيديو تخصها بذاتها، ولكن القضية تمس النساء والفتيات بفلسطين والعالم العربي جميعه.

المعرض هو الصورة عن المجتمع، و"الصورة ذات فضائل لأنها رمزية، أي إنها تعيد لحم وتكوين المشتت.  لكن لكي يجسد الرمز أو يعيد التجسيد، عليه، رغم الآلية المنطقية للاكتمال، أن يحتسب في العتبة حضور شريك خفي.  فمن يوحد يكون قد أحسن فعلاً.  لكن وحدها الإحالة على البعيد -أي على طرف ثالث- ترميز، تمكّن صورة ما من إقامة علاقة معينة مع رائيها، وبطريقة غير مباشرة بين الرائيين أنفسهم".[15]  هذه الإحالة تعكس الحقيقة، ولكنها ليس هي بواقعيتها، إنها نموذج عما هو في الواقع، هذه جدلية أخرى ليست ذات صلة بالتمثيل وحده وإنما بالفن، جدلية وضع عنوانيها رينييه حينما عنون أحد لوحاته "هذا ليس غليوناً"، وربما لا تكون هذه قلقيلية، أو نعلين، أو عنبتا، وإنما صورة عنها، وهذه الفتاة في شهادة ميلاد ليس ذاتها التي تزوجت بعمر 14، وإنما نموذج الفتيات، صوتهن، وملامحهن، وقضيتهن، أو ربما يحمل المعرض في داخله الصوت الحقيقي والداخلي لهذه الأماكن، فهو صورة ممتدة تجسر الماضي والحاضر عبر عتبة المعرض، إنه المكان الذي ينقل الناس بخفة بين كل هذه التغيرات ويدعوهم للتساؤل أين هي الحقيقة، فهل نعلين خارج المعرض هي ذاتها داخله؟ نعلين الحقيقية! هل هذه قلقيلية؟ أو هذا خطاب الناس الحالي في هذه المدن التي تحاول تعريف ذاتها، هذا الجدل الذي أثاره الفن بتقنياته المتنوعة، جدل خارج المعرض وداخله، جدل محتواه وتقنياته، فتكون الصورة أقرب إلى الحقيقة كلما تطورت التقنية، وتلاحمت مع القضية، وإذا كان المعرض مساحة فنية متسعة، فإنه يشق حضوره من التقنيات المتنوعة داخله، وبالمعارض الأربعة تنوعت التقنيات، من أعمال تركيبية، صورة أو صوت، حضرت الكاميرا واليد، كاميرا للتوثيق وإعادة الإظهار، واليد في الحفر والتمثيل، وكان المعرض شاهداً على الحالي، ويتتبع سيرته، ويتخيل مستقبل المدينة/القرية التي بدأت تتحول إلى قطع من الأسمنت، ومستقبل السكان داخلها.

إذن، يلعب المعرض بالزمن والصورة والحكاية، إنه كبنية فنية يعيد تركيب الحياة الاجتماعية ضمن صيرورة خاصة به، وبخاصة بالسياق الاجتماعي والثقافي الذي يمثله، فالمعارض الأربعة جاءت لتخلخل معنى التعبير في هذه المناطق البعيدة عن المركز، ولتتخذ من الفن يداً ثالثة تساعدها في عبور النقصان؛ نقصان المعنى والرؤية، ولتعيد المشهد إلى سكان هذه المدن/القرى وتثير أسئلتهم حول اليومي والمعاش، المسكوت عنه، وغير المرئي، وتخيط هذه الجوانب المشقوقة من الغرق في العادي، وتثير أيضاً أسئلة ذاتية داخل المجموعات التي شاركت على مدى سنوات أو أشهر في هذه الورشات، أسئلة عن الفن، وإمكانياتهم، عن التعبير، عن الصورة المستقبلية وماضي هذه الأماكن.  والمعرض أيضاً يحول هذه الأسئلة إلى الجمهور الأوسع، يورطه بالتفكير بذاته وبالقضايا المحيطة به، فلم تكن هذه المعارض فسحة يهرب منها الناس إلى ملاذ فني جمالي، وإنما كانت سؤالاً عميقاً بمعنى الفن، وصور الذات، وقدرتها على العبور.

 

*باحثة اجتماعية تعمل في قضايا التعليم

 

 

الهوامش:

 

[1] ماكس فيبر.  مفاهيم أساسية في علم الاجتماع.  ترجمة: صلاح هلال، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2011، ص50.

[2] المصدر السابق، ص50.

[3] المصدر السابق، ص52-56.

[4] بيير بورديو.  بعبارة أخرى ... محاولات باتجاه سوسيولوجيا انعكاسية.  ترجمة: أحمد حسان، القاهرة: ميريت للنشر والتوزيع، 2002، ص131.

[5] المصدر السابق، ص131.

[6] ميتشل تيموثي.  "الاستشراق ونظام المعارض"؛ نسخة منقحة وموسعة لمقالة "العالم بوصفه معرضاً"، دراسات مقارنة في التاريخ والمجتمع، 31، 1989، ص1.

[7] المصدر السابق، ص2.

[8] المصدر السابق، ص2.

[9] المصدر السابق، ص3.

[10] دنكن كارل.  "متحف الفنون باعتباره طقساً"، ص12.

[11] المصدر السابق، ص 6.

[12] Bourdieu Pierre; The Historical Genesis Of Pure Aesthetic; the journal of Aesthetics and art criticism;vol.46;46.analytic aesthetics.1987 pp.201-210.

[13] يورغن هابرماس.  الحداثة وخطابها السياسي.  ترجمة: جورج تامر، بيروت: دار النهار، 2002، ص 26.

[14] دنكن كارل، مصدر سابق، ص 10.

[15] دوبري ريجيس.  حياة الصورة وموتها.  ترجمة: فريد الزاهي، الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2013، ص47.