أمين دراوشة*
لقطة من فيلم " المعبر" من إخراج بسام الجرباوي وإنتاج ياسمين قدومي، وتصوير أشرف دواني وسامي سعيد، أحد منتجات مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية الذي ينفذه برنامج البحث والتطوير التربوي/ مؤسسة عبد المحسن القطان بدعم مشارك من الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون (SDC). |
تتكون الأنا من مجموع خبرات وذكريات وتفاعلات الذات مع ذاتها ومع الآخرين، وتتشكل صورة الآخر بالنسبة لها، عبر صراعاتها معه، فتنسب سمات نفسية واجتماعية وسلوكية وفكرية إلى الآخرين، وقد تكون الذات فردية، أو تعبر عن ذات جماعية.
والنظرة إلى الذات تبقى "محكومة بالبحث عن "الضدّ" ولا تتبلور الهوية (الوطنية) من خلال عناصرها الذاتية، وإنما من خلال اكتشاف خصم، وتحديده، ومحاولة تمييز نفسها عنه".[1]
إن صورتنا عن الآخر تَعكس، دون شك صورة الذات، وتنعكس فيها. والصورة عن الآخر تتشكل حسب الواقع الذي تنمو فيه، فإذا كانت الذات )الفردية والجماعية) قوية في ثقافتها، وتعيش في مجتمع مزدهر ومتطور ومتماسك، فإن الآخر لا يشكل عقبة، ولكن عندما تفقد الذات مناعتها وقوتها، وتضعف ثقافتها، وتتضاءل في محاولة لحماية ذاتها، فإن الآخر يصبح عدواً، مهدداً وحدة الذات، ويعمل على تشرذمها وتذويبها.
في الصفحات المقبلة، سنتناول طبيعة العلاقة بين الأنا والآخر في فيلم "المعبر"؛ أحد إنتاجات مشروع "الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية" الذي أطلقته مؤسسة عبد المحسن القطان، وهو مشروع امتد على مدى أربع سنوات، ويطمح إلى المساهمة في بناء حراك مجتمعي للتعرف على قضايا تهم الناس والتعبير عنها، من خلال أعمال فنية، واستخدامها لأجل انخراط المجتمع المحلي (أفراداً ومؤسسات) في سياقهم المحلي بشكل فاعل.
وستحاول هذه الورقة الإجابة، من خلال الفيلم، عن السؤال المركزي: كيف أثر المعبر على حياة مواطني قرية نعلين؟ السؤال الذي سيولد مجموعة من الأسئلة الفرعية منها: ما هي الغايات الإسرائيلية للسماح لعشرات ألوف العمال الفلسطينيين بالعمل في مجتمعهم بعد العام 1967؟ وهل اقتصر تأثير وجود المعبر على العمال فقط؟ وما هي هموم المرأة الفلسطينية في القرية؟ وما تأثيره على مستقبل الفتيان، وطرق تفكيرهم؟
تمهيد
يتميز فيلم "المعبر" بموسيقى تشبه المطرقة، تطرق على خلايا الدماغ للمتفرج ليبقى في انتباهه للمشاهد المختلفة؛ مشاهد جميلة للطبيعة، تكشف عن طبيعة البشر، قبل أن تظهر عربات الجنود المصفحة، وهي تدوس الأرض. الفيلم وثائقي ومشاهده ومقابلاته مع مواطنين حقيقيين تعكس الحالة المعاشة في بلدة نعلين أثناء اصطدامها مع الاحتلال، واحتكاكها مع إفرازاته الاستيطانية من مستوطنات، وحواجز، وبضائع؛ الاحتلال الذي يظهر في الفيلم عبر تمظهرات متعددة، تمظهرات ظاهرة أو مضمرة، من المصفحات والبنادق حتى التأثيرات الثقافية واللغوية.
يدور الفيلم حول عمل الشخصية الرئيسية على المعبر في بيع الأطعمة والمأكولات الخفيفة، وما يحتاجه العامل الذي يجتاز المعبر للعمل في الداخل. ويتناول عبر مشاهد عدة طبيعة القرية الخلابة، والعمال العابرين إلى مناطق عملهم، ويناقش أوضاعهم وطريقة حياتهم، والعمال المقيمين على المعبر الذين يستفيدون من العابرين، من خلال عملية البيع لما يحتاجونه.
كما يتطرق إلى العلاقة الأسرية، وتأثير وجود المعبر على حياة رب العائلة، وتأثير ذلك على الزوجة والأم الأبناء. وتُظهر الكاميرا الأطفال والفتيان والرجال والنساء، وهم يقاومون جنود الاحتلال ويطاردونهم بالحجارة، ورد الجنود بقنابل الغاز والرصاص.
الشخصية الرئيسة (حمدان)، يعمل في البلدية، وبما أن راتبه لا يكاد يكفيه، فإنه وجد عمله الإضافي الذي يدر عليه بعض المال لسد حاجات أسرته، ينصب خيمته ويأخذ معه بعض العمال من أجل مساعدته في البيع.
العمال العرب "العابرون" بعد العام 1967
بعد قيام دولة إسرائيل، حدثت محاولات مستميتة لاستعادة الشخصية اليهودية النموذجية الطليعية وإعادة قولبتها، واتصلت هذه المحاولات بالولاء وخدمة الوطن الجديد، كالانتساب للجيش، والخدمة فيه، وتقديم العون للمهاجرين القادمين من كل مكان، ولكن لم يدم الأمر طويلا، فبعد حرب 1967 اختفت تماماً شخصية اليهودي الطليعي، وتحول الحلم إلى سراب في إمكانية تحويل الشعب اليهودي إلى شعب منتج، يشتغل في الأعمال البدنية المرهقة، إذ احتل مكانه الاقتصاد الليبرالي المتقدم.
وأثير جدل واسع بعد حرب 1967 في الحكومة الإسرائيلية حول السماح للعمال العرب القاطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة بالعمل في إسرائيل. والجدل اتصف بطابع أيديولوجي ارتكز على التراث الصهيوني الذي عمل على تحويل الشعب اليهودي إلى شعب قادر على الإنتاج.
ويقول الباحث دان أوريان إن المعارضة القوية والأيديولوجية لفتح سوق العمل الإسرائيلي أمام العمالة العربية ضعفت وتلاشت بسبب الضغوط التي تنتج عن الاقتصاد الحر.
وتكونت طبقة من العمال العرب القادمين من المناطق المحتلة العام 1967، الذين يقومون بالأعمال الوظيفية التي عجز الإسرائيليون عن القيام بها.
وتم استيعاب عشرات ألوف العمال في مختلف القطاعات، يعملون تحت ظروف قاسية، حيث الاستغلال، وتدني العائد المالي، وأوضاع سكنية مزرية، و"ظهر في الاقتصاد الإسرائيلي وضع شبه "استعماري" يهرب فيه اليهودي من الأعمال البدنية "السوداء"، الأعمال التي كانت تحتل مكاناً رئيسياً في رؤية الطليعيين".[2]
أما العامل الفلسطيني، فوجد نفسه نتيجة الظروف الحياتية القاهرة التي منعت أن يتوفر له فرصة للحياة الكريمة في بيئته الاقتصادية أن يعمل لدى المحتلين لتأمين قوت عائلته، ويعيش اغترابه المدمر، فهو مضطر للحديث مع رب عمله بلغته العبرية، ومجبر على تقديم تنازلات وولاءات له، وهو الذي يحتل أرضه خوفاً من تلاشي فرصة تجديد التصريح، كما إنه يبني ويشيد البيوت للإسرائيليين على أرض قد تكون لوالده أو جده. ويبدو تشظيه ماحقاً عندما يبدأ بتسمية المدن والجبال والسهول بأسمائها المهوّدة، ما جعل سياسة الاحتلال تهندس جزءاً من الشخصية العمالية الفلسطينية أثناء عجزها عن خلق صورة العامل الصهيوني الطليعي، حيث حققت صورة (اغترابية) للعامل الصهيوني ولنقيضه الفلسطيني أيضاً.
وسنتناول في الصفحات المقبلة تأثير وجود الاحتلال على أرض نعلين من خلال المعبر (الحاجز العسكري) على حياة سكانها، وعلى طبيعة الأرض فيها.
لقطة من فيلم " المعبر" |
تأثير المعبر على الأنا
(العمال، الأطفال، المرأة ...)
يدخل من المعبر آلاف العمال الفلسطينيين القادمين من مختلف مدن الضفة الغربية، ويبدأون في التوافد منذ الساعة الثانية فجراً ولغاية الثامنة صباحاً، وبعض العمال فضلوا استئجار بيوت في القرية لتسهيل مرورهم وعودتهم.
يضطر البائع حمدان للنهوض باكراً، لتجميع عماله والانطلاق إلى العمل، ولا ريب إن النهوض بهذه الساعة المبكرة، يؤثر على راحة الزوجة والأولاد.
وعمل الأب لساعات طويلة ومرهقة، تجعله لا يجد الوقت الكافي للراحة، ما يؤدي إلى الإهمال في رعاية أولاده وبناته، الذين يكبرون دون أن يعي الأب أهمية أن يكون بقربهم وهم ينمون، وشخصيتهم تنمو وتتبلور، فحياته أصبحت مرتبطة بطريقة بنيوية بالمعبر (الذي يمثل الطريق إلى الاقتصاد الإسرائيلي)، وحتى عطله مرتبطة بعطل اليهود وأعيادهم. وهناك الكثير من العمال الذين تعلموا اللغة العبرية لأنها تساعدهم في العمل، والتعامل مع الإسرائيليين الذي يملكون العمل والأمن، وسنرى في قرية نعلين إهمالاً للغة العربية مقابل الاهتمام بالعبرية.
إن الخطورة تكمن بتسرب اللغة العبرية إلى أحاديث العمال مع أصدقائهم وأهاليهم، بنطق أسماء الآلات أو الأطعمة بالعبرية، ومما يشكل خطراً طاغياً على الكيانية الفلسطينية وضياع الهوية، نطق أسماء الأماكن الفلسطينية التي تم تهويدها بأسمائها العبرية!
إن حياة مئات ألوف الفلسطينيين أصبحت مرتبطة بتصريح العمل وموافقات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، ما يجعل حياتهم يطغى عليها الاغتراب السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي.
والإنسان في هذه الحالة "لا يعود ممتلكاً لناصية جوهره، وهكذا فإنه يغرب ذاته عن طبيعتها الجوهرية، أو يصبح مغترباً عن ذاته".[3] كما يرى هيجل علاقة الإنسان ببيئته. فالذات عندما تصطدم بالحواجز، وتتوقف عن نموها الطبيعي، أو "أضفى الغموض عليها أو تعرضت للاختناق، فهي ذات تعيش حالة اغتراب ذاتي".[4]
أظهر الفيلم معاناة العمال، من خلال تصوير المعبر لحظة الذروة، وآلاف العمال يصطفون في طوابير هائلة في محاولة لاجتيازه، وما يرافق ذلك من مذلة وعمليات تفتيش قبيحة حتى بعد الدخول، فالحواجز الإسرائيلية التي هدفها تذكير الفلسطيني بوجود الاحتلال منتشرة بطريقة كثيفة.
ويتطرق البائع حمدان إلى ظروف الطبيعة وتأثيرها، ففي فصل الشتاء تزداد معاناة العامل الفلسطيني، فالكثير من العمال يدخلون من طرق ترابية تزيد من قسوة حياتهم.
يقول حمدان في الفيلم: "العمال الفلسطينيون مجبرون وليسوا مخيرين، إذ لا يوجد بديل". وهذا يشير بقوة إلى وضعية البنية الاقتصادية الفلسطينية وطبيعتها من حيث عدم مقدرتها على استيعاب الطاقة العمالية الفلسطينية من جهة، وهشاشتها الوظيفية في سياق اشتباكها مع البنية الاستيطانية المهيمنة من جهة أخرى.
وتطرق الفيلم، أيضاً، إلى قضية الاعتقالات، وتأثيرها على العائلات الفلسطينية، فالاعتقالات في كثير من الأحيان، تحرم الأسرة من معيلها، ما يؤدي إلى إجبار الأم على الموافقة على عمل أطفالها بالقرب من المعبر على الرغم من خطورة الأمر على حياتهم ومستقبلهم، فنجد الكثير من الأطفال يعملون على المعبر خلال العطلة الصيفية، وهناك أطفال يستمرون في العمل رغم افتتاح المدارس.
يقول أحد الفتيان العاملين في المعبر بالفيلم، الذي بدا عليه الهم العظيم، وكأنه يرزح تحت وطأة قدر لا يرحم: "معاناة، حياتنا مليئة بالمرارة، فش مستقبل، حتى لو درست لن تجد وظيفة، بدك تبني بيت وتتزوج ... انجبرنا (يحكي بلغة الجمع) للعمل ليلاً ونهاراً ... بدك تكون نفسك، العمل بوابة المستقبل".
ونرى هنا النفسية المتعبة والمحطمة لفتى حديث السن، طلق المدرسة لأسباب عديدة، منها اليأس من غد لا يجد فيه عملاً أو حتى قوت يومه. يتحدث الفتى بلسان الشعب الفلسطيني، الذي يرزح تحت أقسى احتلال، وأيامه متخمة بالسواد والقلق الدائم، إلا أنه "شعب بدو يعيش" رغم كل شيء، وإن كان المخرج ومصوره ركزا على أشجار الصبار المنتشرة في القرية بكميات كبيرة، فهذا تلميح إلى أن هذا الشعب كتلك الأشجار قادر على التحمل ومواجهة كل الصعوبات، وقادر على الدفاع عن نفسه عندما يحين الوقت الملائم.
وكان للمرأة الفلسطينية نصيبها من توحش الاحتلال، وأصبحت تعيش في وضع مخلخل؛ فالمعبر بالنسبة لها الوحش الذي يأكل عائلتها، وفي الوقت نفسه المكان الذي يجلب الرزق.
تقول: "يحتاج زوجي إلى تصريح لاجتياز المعبر، لقد أصبحت حياتنا مرتبطة بالتصريح والمعبر".
وتضيف: وكعادة الاحتلال في تذكير الفلسطيني إنه تحت رحمة جنوده، يمتنع في بعض الشهور عن إعطاء تصريح لزوجي، عندها يبدأ في الصراخ على الأولاد، ويستفسر منهم عن أفعالهم التي أدت إلى رفض سلطات الاحتلال منحه تصريحاً للعمل، فيسأل: "هل كتبتم شيئاً يغضب الاحتلال على الفيسبوك؟ هل وضعتم "لايك" على موضوع له علاقة بأمن الاحتلال؟".
فالأب يحمّل أولاده مسؤولية عدم حصوله على تصريح، والجلوس دون عمل، فهو يشعر بمسؤولية كبيرة اتجاه عائلته، فأي يوم دون عمل يؤدي إلى مصاعب في تأمين حاجات الأسرة.
هذه الضغوطات التي يئن تحت وطأتها الأب تنعكس سلباً على الزوجة الأم، تقول: إنها تعيش في خوف دائم، وتشعر إنها محاصرة ومقيدة، وتحاول أن لا تبدي رأيها في أي موضوع، حتى لا يتطور النقاش إلى ما لا تحمد عقباه. فالزوج يفتقد الراحة النفسية، وهو في حالة قلق مستمر من أن يُمنع من نيل التصريح.
وتعبر الأم عن شعورها بالمرارة والقلق على مستقبل أطفالها، فهم يكبرون وتزداد مشاكلهم واحتياجاتهم، وأصبحت ترى الولد الأكبر الذي يدرس في المرحلة الثانوية أكبر من عمره الحقيقي، وله آراؤه وأفكاره الخاصة، لذا شرع يعمل بالقرب من المعبر منذ الفجر، ما يجعله يهمل مدرسته، فالشاب تغيرت اهتماماته بسبب الاحتلال وضيق العيش، وطحنت آماله في الدراسة، وأحلامه في غد أفضل تحت عجلات جيبات الاحتلال. هذا الأمر يرعب الأم، فهي ما زالت تنظر إليه كطفل يحتاج رعايتها وحنانها.
وعلى الرغم من كل شيء، تبقى طريق المدرسة مليئة بالأشجار والنباتات المختلفة، التي تهب الأمل بغد أجمل وأحلى، وخالٍ من الاحتلال.
بقي أن نقول إن المشهد الذي ظهرت فيه المرأة تحكي مصاعبها، تحكي حكاية الاغتراب والمراقبة والهشاشة، وظهر فيه بجوارها شجرة صبار وبيت قديم، ما جعل المشهد نفسه ساحة صراع لحكايات متناقضة متضمنة في الذات الواحدة وفي حكايتها.
تشويه المكان
"لا تذهب الصور من الذاكرة لأنها توجع"
إن مصادرة الاحتلال آلاف الدونمات من أراضي القرية ليقيم عليها مستوطناته، ومنطقته الصناعية، وجدار الفصل العنصري، واستيلاءه على الأرض وما عليها من ينابيع وكهوف وآبار، أديا إلى هجر المزارعين لأراضيهم، والتوجه نحو العمل في الداخل لتأمين لقمة العيش، حتى وأن كانت مغمّسة بالقهر والرعب. وبالطبع، تأثير الاحتلال يشمل جميع أراضي الضفة الغربية المحتلة، فانتشرت البطالة، وزادت الجريمة، والآفات الاجتماعية، بتشجيع من الاحتلال ضمن خطة طويلة الأمد لإفراغ الأرض من سكانها.
فالأراضي التي لا تتم مصادرتها، يمنع فيها البناء، لذا بدأ سكان القرية، وتحت مدحلة الاحتلال في البحث عن فرص أخرى خارج القرية.
تقول امرأة: "كانت نعلين قرية وادعة وجميلة، يزينها وادي العين بمائه العذب، قبل أن يستولي الاحتلال على المياه، ويتحول الوادي إلى مكب للنفايات".
وتضيف: أما منطقة "المهلل"، فبعد أن كانت من أجمل المناطق، ويأتيها الناس من كل مكان للترويح عن أنفسهم، أصبحت من أبشع المناطق، لُغيت هويتها، وقسم الاحتلال نعلين إلى قسمين، وأقام فوق طفولتنا وذكرياتنا وأحلامنا منطقته الصناعية.
تتذكر المرأة رؤيتها لفتى فلسطيني في منطقة "المهلل" ينظف سيارة مستوطنة، وتقول بألم: "لا تذهب الصور من الذاكرة لأنها توجع". في عمق كلامها يوجد حنين إلى مكان أليف تحوّل بفعل الاحتلال إلى مكان بشع، وإذا كان المكان قد تغير فلا بد لحياة البشر أن تتغير.
إِنَّ الآخر المحتل الاستعماري فرض حقائق كثيرة على الأرض؛ سواء أكانت عسكرية أم اقتصادية أم اجتماعية، ولكن الشعب يواجه هذه الإجراءات القمعية في فضاء المكان. ومقاومة الناس نابعة أساساً من محاولة الاحتلال طمس هويتهم، وتشويه الأرض ومحاولته تهويدها بتغيير شكلها وأسمائها. فالأمكنة ليس من السهل نزعها من قلوب أصحابها، ففيها ذكرياتهم وأحلامهم، وفيها بنوا تصوراتهم ورؤاهم عن الحياة. إِنَّ العمل الفني سيكون ذا أهمية هامشية "إنْ لم يتحدّد مفهوم المكان ولم ترتسم أهمّ ركائزه، وبخاصّة وهو من أدق ما عرفه الفكر البشري من المفاهيم، وأكثرها تعقداً وتشعبّاً وأدْعاها إلى الاحتياط والاحتراز والتثبّت".[5]
فالمكان الذي نعيش فيه يحتوي على "كُلّ ما مارسناه مباشرة ورصدنا فيه بعضاً من تصوّراتنا ومشاعرنا الذّاتيّة الشّخصيّة وتعلقنا به حبّا فيه لا في وظيفته، وارتبط ارتباطاً وثيقاً ببعض تجاربنا العميقة أو بالجانب الحميم من ذواتنا".[6] ومن أكثرُ من البيت الذي ولدنا ونشأنا فيه، ومزارعنا وحقولنا وشوارعنا والقرية ... يمثله؟
إِنَّ الاهتمام بالمكان بدأ نتيجة النهوض الفكري والاجتماعي، ونتيجة محاولات الاحتلال طمس الأماكن والأسماء العربية الفلسطينية.
كان للتغيرات في الأمكنة بفعل الاحتلال دور في تغيير حياة الشخوص وأسلوبهم وسلوكياتهم في الحياة، وفي ملاحقة أحلامهم صعبة التحقق رغم بساطتها.
فالمكان في حياة الفلسطيني وإِنْ تغيَّر، فإنه ليس بقعة جغرافية وحسب، يعيش عليها ويستقر فوقها، "وإنّما هو جزء من جسد كلّ فلسطينيّ. هو جزء من لحمه ودمه وشرايينه، أو هو بعض من جملة من الوظائف المركّبة للجسم. إِنّ المكان ليتربّع، وفقاً لهذا التصوّر، في صميم الذّات على أَنَّه أحد مركّباتها. فهو يداخلها ويمازجها. ويعني بعض ما تعنيه. وإِنْ قبلت اقتطاعه منها فمُكرهة، مُرغمة. لأنها تدرك أنّها بدونه كيان مشوّه مختلّ، ومن الطّبيعيِّ أَنْ تتوق إلى استرجاعه. فبه تكتمل من جديد. وتستعيد أهمّ طاقاتها ووظائفها وكلّ صحّتها وجمالها".[7]
والفلسطيني متعلق بأرضه، ومفتون بها، بل لا يعرف لها بديلاً، لذا نراه يتخلى عن كل شيء ليبقى على أرضه. فالأرض غاية في ذاتها ولا شيء يغني عنها. ورغم محاولات الاحتلال لدفن الهوية الفلسطينية، فإن الأمر يبدو مستحيلاً، فبينما الاحتلال لا يكف عن المحاولة لا تكف الهوية الفلسطينية عن الانبعاث.
الأطفال وشرخ الهوية
يركز الفيلم على تصوير المعبر يوم الجمعة، حيث يحتشد الأهالي للتظاهر ضد الاستيلاء على الأراضي، ويتجمع الأطفال والفتيان للمشاركة في التظاهرات السلمية، وعن هذه التجربة، يقول أحد الفتيان:
"نتظاهر بسبب الجدار الذي أخذ أرضنا، في أحد أيام المظاهرات، استشهد صديقي أحمد موسى، يطلقون علينا الرصاص لنخاف، ولكننا لا نخاف، اعتقلونا وحققوا معنا، لكننا لا نخاف".
استشهد الفتى أحمد موسى برصاصة في رأسه، يضيف الفتى:
"نشتاق له، وإلى اللعب معه، نحن ندافع عن أرضنا لنأخذ حقنا، وحق أطفالنا الذين استشهدوا وسجنوا".
أحد الفتيان تحدث عن اقتحام جيش الاحتلال بيتهم، وخلعهم الباب، واعتقال أخوته، وشاهد أخوته وهم مكبلون بالأصفاد. وتكلم عن زيارتهم في السجن، والطريق الشاقة، يقول:
"رحت لزيارتهم، بيننا زجاج، لا تستطيع أن تلمسهم، نحكي عبر التلفون لأربعين دقيقة".
تؤثر هذه الحوادث على حياة الفتيان، وعلى هويتهم التي هي في طور التشكل، وأكثر ما يجرح هويتهم، قدوم المستوطنين لشراء حاجاتهم من نعلين نظراً لأن الأسعار أرخص من الداخل، يحاول الأطفال والفتيان اعتراضهم، يجابهون برفض التجار، الذين يطردونهم لأنهم يقطعون رزقهم، يقول أحد الأطفال: "هذا خطأ".
ويردف: في نعلين يافطات وإعلانات تجارية باللغة العبرية، أنا لا أفهم ... ناس تنزعج، وناس ولا على بالها، والعمال والتجار يرطنون بالعبرية حتى مع بعضهم البعض.
فأصحاب المحلات يبحثون عن مصالحهم في تجميد الصراع الذي يدور حول المعبر حتى يستطيعوا البيع والشراء، أما الأرض القريبة من المعبر، فتحولت وظيفتها لتصبح كراج لسيارات العاملين على المعبر، والعابرين منه.
إن الآخر ينكر ساكن البلاد الأصلي، ويحاول سلبه "كلّ حق في التثقف وفي التحضر، وحتى في الانتماء للإنسانية، يسلب منه الحق في أن تكون له نفس، فكل هذه الحقوق حكر على الإنسان "الأبيض والمتحضر" ونسخته الصهيونية الذي منحته ثقافته استعداداً لسيادة باقي الشعوب، فعليه أن يساعدها على بلوغ طور الحضارة، أي أن يساعدها على التنكر لثقافتها الخاصة، لتتبنى ثقافته المهيمنة. والأمر هذا منعوت في اللغة الأنثروبولوجية الشائعة بالتثاقف.[8]
وحرمان الآخر من ثقافته واغتصاب ملكيته، "أفضل الطرق لبتر جذوره وتشييئه"، [9]وبالتالي السيطرة عليه ودمجه في النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي الجديد المفروض عليه، وذلك بالتأكيد أبشع أنواع الاستلاب. وهنا علينا أن لا نغفل المرامي الاستعمارية من وراء، حرمان الآخر من أرضه وثقافته وجزّه من جذوره وتربته، من أجل ضمه ودمجه في النظام الجديد، المراد فرضه عليه، فالمستعمر الذي يؤمن بأنه أصل الحضارة، وصاحب منهاج العلمية والتطور، وأنه الوحيد الذي يملك العقلانية، لن يرى في الآخر سوى موجود متخلف وبدائي، لأنه بذلك يجد تبريراً للسياسية الذي يتعامل بها مع الآخر، من أجل استغلاله والهيمنة عليه.
تطغى ممارسات الاحتلال على شخصيات الفيلم، فحمدان البائع على المعبر، يرى أن "المعبر إجباري، وليس اختيارياً، هذا احتلال".
أما المرأة، فترى أن الإنسان في نعلين يحس بالسعادة عند النظرة السريعة للقرية، ولكن عند التمعن في الصورة يتعب ويُرهق ...
إن الشعب الفلسطيني، سيبقى يرفض التدجين، ويغني، يشهد الأرض والطبيعة على وجوده، يجعل من الشجرة وامتدادها في الأرض مجازاً لانتمائه، ومن الصخور كناية على صلابته، ويقسم على عدم النسيان.[10]
ما في الفيلم من حوار وتصادم في وجهات النظر، يعكس ما يحدث في المجتمع الفلسطيني، ويظهر أن فيه بعض الفلسطينيين، أصحاب الشخصيات، تحاول أن تجد طريقها دون جدوى، وتعتمد اعتماداً كبيراً على الآخر الإسرائيلي، ولكن هناك الكثير من الرجال والنساء الذين بنوا أنفسهم بعيداً عن مطرقة الاحتلال، وكما شكل الاحتلال أسنان جرافة أمام تبلور الهوية الفلسطينية، فأنهم جعلوا الإسرائيلي يعاني من هاجس الفلسطيني، ولا يمكن للإسرائيليّ أبداً تعريف هويته إلا مقابل الآخر الفلسطينيّ الرابض على أرضه، وسيبقى يساهم في تشكيل الهوية الإسرائيلية، لأنه يعشّش في عقول كلّ الإسرائيليين، فهو كابوس وجوديّ حقاً، لا سبيل للخلاص منه إلا بإعطائه حقوقه، وأوّلها حقه في الحياة كإنسان له هويته المميزة.
إن الإسرائيليين يعانون كما الفلسطيني، ويؤرقهم هذا الفلسطيني الذي قتل وسجن وعذب وما زال موجوداً في مخيلة الإسرائيلي وفي الواقع المعاش، بل ما زالت لديه القدرة على المقاومة والدفاع عن حياته وأرضه، مذكراً إياهم أنهم لم ينعموا في الأمان ما لم يستعد حقوقه.
إن الفلسطيني المتسلح بالعلم والخيال والثقافة، الذي مدته الأرض بصلابتها وقوتها، هو من سيبقى، والبقاء المرتبط ليس بالوجود فقط، بل بالفاعلية، هو بقاء يقرن الحق بالفن والثقافة، متجاوزاً مقولة "فالحق منتصر لأنه حق، وصاحب الحق منتصر لأنه جزء من الحق".[11] نحو صاحب حق يقرن شرعية الحق بشرعية الإبداع، فيرسم مستقبله على الأرض ويرسم مستقبل الأرض على جسده.
إن البحث في قضايا الفن -ولا شك- مرتبط بالظروف الحضارية والتاريخية التي نعيش فيها.
والفن يتأثر في قضايا وموضوعات غير فنية كالسياسة والتاريخ والجغرافيا ... فالفن يتغير ويتبدل بارتباطه في الزمان، فهو يمثل إجابة "عن أسئلة تطرحها الفترة التاريخية التي هو وليدها، والتي كذلك يؤثر فيها بصفة أو بأخرى".[12]
ونجد قضية الهوية تفرض نفسها على الفنان من خلال عمله، وإذا كان الأديب أو الفنان فلسطينياً فإنه لا إرادياً سينتج أدباً وفناً منشغلاً بالهوية، "مرتبطاً ومربوطاً بها، وكأن الفن هنا سلاح مشهور لخوض معركة فرض الهوية ضد ما يختلف عنها، أي ضد الهويات الأخرى، أو بالأحرى ضد الهوية الأخرى التي لا تعترف بهويتنا ولا تسمح بوجودها على مسرح العالم الذي تحكمه تلك الهوية الأخرى".[13]
ولمعرفة ما مدى تأثير الفيلم ومشاهده على سكان نعلين، عقدت مؤسسة عبد المحسن القطان ورشتي عمل إحداهما في مقر المؤسسة، والأخرى في قرية نعلين لمناقشة الفيلم من قبل أهالي نعلين والباحثين المشاركين.
وكما موسيقى الفيلم التي تثير العواطف والعقل، أغنى النقاش العمل الفني بإثارة الجدل بين من عبر عن عدم رضاه عن المواضيع التي تطرق إليها الفيلم، التي أظهرت القرية وكأنها تابعة للمعبر الذي بدا وكأنه شريان حياتها، وكذلك النقد الذي وجه للعمل الفني بأنه لم يمنح صمود الأهالي ومقاومتهم للاحتلال الفرصة الكافية للظهور في الفيلم، وبين من أثر فيه الفيلم، وأنه أحدث في عقله ما يشبه المطرقة التي تطرق مكامن لا وعيه وتجعل الصور المختفية تظهر في الوعي واضحة كشجرة الصبّار، وعبروا عن دهشتهم من أنهم يعيشون هذه الأوضاع التي بانت في مشاهد الفيلم، وأظهرت التشوهات في القرية. ودافعت "فردوس"؛ إحدى شخصيات الفيلم والناشطة المجتمعية عن العمل الفني، قائلة: إنه كشف ما يعتمل في دواخل أهل القرية، وكشف وجه الحياة الآخر فيها، وهذه هي الطريقة المثلى لمعرفة الخلل من أجل العمل على إصلاح مكامن التشوه؛ سواء في فكر بعض الأهالي، أو إعادة الأرض لتكون كما كانت جميلة، وحاضنة لأحلام سكانها.
إن المشروع الذي أنجزه برنامج البحث والتطوير التربوي في مؤسسة عبد المحسن القطان، باشتراك المعلمين، والطلبة، وأولياء الأمور، والنشطاء المجتمعيين، ومؤسسات المجتمع، وعموم الناس، نجح في عملية اكتشاف الكثير من القضايا ذات المضامين المحددة وتمثيلها عبر عملية تفاعلية تستخدم أشكالاً مختلفة من طرق التعبير الفني والثقافي؛ طرق وأشكال مثلت حصيلة للتفاعلات الاجتماعية وشكلاً لتوثقها، ثم عرضها مرة أخرى لإعادة فتح الحوار ليكشف طبقة جديدة من الوعي الذي يعيد اكتشاف واقعه.
انصبّ جوهرُ المشروع في المشاركة المجتمعية؛ فيتعرف الناس على القضايا التي تمسُّ حياتهم اليومية، ويعبرون عن تلك القضايا ويسلطون الضوء عليها، ويدعون صُنّاع القرار إلى اتّخاذ التدابير والإجراءات اللازمة.
صمم المشروع ليكون فعلاً في الثقافة والبحث، وعملاً في المشاركة المجتمعية من خلال توظيف الفن؛ الفن ليس كمنتج، وإنما كفعل مجتمعي مع الناس، فيه يتم دمج الفن والثقافة في الممارسة الحياتية لدى الناس ضمن منظوراتهم وأولوياتهم وأدواتهم كسياقات للرؤية والتعبير والمعالجة. في الفيلم والحوار الذي تلى عرضه واستمر وسيستمر، فإن المشروع قد حقق جزءاً كبيراً من هدفه.
*باحث وناقد
الهوامش:
[1] سالم ساري. "الذات العربية المتضخمة: إدراك المركز والآخر الجواني"، في: لبيب الطاهر (تحرير). صورة الآخر العربي ناظراً أو منظوراً إليه. ط1، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1999، ص 377.
[2] دان أوريان. شخصية العربي في المسرح الإسرائيلي. ترجمة: محمد أحمد صالح، القاهرة: المشروع القومي للترجمة، (د. ت).
[3] ريتشارد شاخت. الاغتراب. ترجمة: كامل يوسف حسين، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980، ص 101.
[4] المرجع السابق، ص 199.
[5] عبد الصّمد زايد. المكان في الرواية العربيّة، الصورة والدلالة، ط1. تونس: دار محمد علي للنشر، 2003، ص 15.
[6] المرجع السابق، ص 17.
[7] المرجع السابق، ص 260.
[8] محمد نجيب بوطالب. " صورة المجتمع العربي الإسلامي"، في: لبيب الطاهر، مرجع سابق، ص 451.
[9] المرجع السابق، ص 451.
[10] "اشهد يا شجر الزيتون ... إن ننسى مش معقول/ اشهد يا شجر الزيتون ... إن ننسى مش معقول".
[11] عبد الرحمن منيف، وآخرون. "القلق وتمجيد الحياة"، المثقف الذي أراد أن يكون رسولاً، مقالة لفيصل درّاج، ط1، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1995، ص 372.
[12] نجاح جغام. "من فن الهوية إلى هوية الفن"، في تداخل النظرات، إعداد: يوسف عايدابي، ط1، الشارقة: منشورات دائرة الثقافة والإعلام، 2002، ص 11.
[13] المرجع السابق، ص 16.