تجاوزوا واقع الحصار وتنقلوا بين أحياء وأزقة البلدة القديمة في غزة بحثاً عن تاريخ غيّبه الكثيرون، حيث أضحت بعض الأماكن الأثرية فيها مرتعاً ومكباً للنفايات رغم أنها تروي حضارة معمارية قديمة تعود إلى ما قبل 800 عام. غير أنهم تسلقوا شغفهم الفني ليغيروا واقعاً مجتمعياً يعيشه أهالي البلدة من خلال استخدامهم للأدوات الفنية للتعبير والمساءلة المجتمعية.
هم أصحاب مبادرة "بيتكم عامر"، التي انطلقت في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2020، ولمدة 10 أشهر، بمشاركة 20 فناناً/ة وناشطاً/ة ومتطوعاً/ة من مختلف مناطق قطاع غزة، بهدف بث الروح في الأماكن الأثرية في البلدة القديمة وترميمها وإعادة إحيائها من جديد، ولفت الأنظار إلى أهمية الحفاظ على التراث المعماري فيها المهدد بالاندثار.
ويطمح المبادرون إلى إبراز الدور الذي يمكن للثقافة والفنون أن تلعبهُ كأداة فعالة لتحقيق التغيير المجتمعي وتعزيز مشاركة الأهالي والطلاب والناشطين المجتمعيين في تعزيز المشاركة المجتمعية، من خلال تنفيذ الفعاليات في البلدة القديمة، وباستخدام أدوات فنية كالمسرح، والسينما، ورسم الجداريات، والأعمال البصرية والسمعية، للتعبير عن قضايا المواطنين وهموهم.
الفنان التشكيلي والناشط المجتمعي عبد الله الرُّزي (39 عاماً)، وهو مشرف المبادرة، يوضح أن مبادرة "بيتكم عامر" انطلقت كخطوة أولى من مدرسة "الكمالية" الأثرية الواقعة في البلدة القديمة بغزة، التي تعود جذورها إلى الحقبة المملوكية والأيوبية، إذ أصبحت حاضنة للنشاطات والفعاليات وخصصت كـ "بيت ضيافة" لأهالي البلدة القديمة، خلال فترة تنفيذ المشروع وبعد انتهائه أيضاً.
قال الرُّزي: "نفذنا فعاليات ثقافية عدة في البلدة القديمة، وتحديداً في البيت الأثري "سباط العلمي"، وبيت "السقا" الأثري، وقصر حتحت، وبيت الخُضري، بجانب العديد من الأماكن العامة في غزة".
وأوضح أن المبادرة شملت أعمالاً تطوعية ولقاءات حوارية وجلسات تفاعلية وورش عمل ومعارض لأعمال سمعية وبصرية، وحرفية وتعبيرية وحضرية، وفعاليات ثقافية وفنوناً أدائية وأعمالاً مسرحية.
كما يتطلع فريق مبادرة "بيتكم عامر" إلى خلق حوار مع المجتمع المحلي في البلدة القديمة، من خلال ملامسة الواقع وتسليط الضوء على أهم القضايا التي يعبر عنها أهالي القطاع.
قال الرزي: "نحن نتحدث عن قضايا المواطنين ومطالبهم المجتمعية داخل الأبنية الأثرية القديمة لاعتبارها حاضرة وجودياً، ونحاول إيصال همومهم إلى الجهات المختصة كي نبحث معاً عن حلول لمعالجتها".
وعن تسمية المبادرة، أوضح الرزي أن عبارة "بيتكم عامر" هي أقرب للناس ومتداولة بشكل كبير بين أوساط المجتمع الفلسطيني، والغزي على وجه التحديد، وهي تدلل بمعناها اللفظي على "حُسن وكرم الضيافة"، لذلك تم اعتمادها كي تعبر في مضمونها عن إحياء المناطق وبث الحياة فيها وإعمارها من جديد.
"مدرسة الكمالية المغلقة منذ 50 عاماً هي ملهمة مبادرة "بيتكم عامر"، ومن شجعنا على إعادة إحياء المواقع الأثرية وترميمها". هذا ما قالته منسقة المبادرة أميرة حمدان.
وأضافت، موضحةً سبب انضمامها إلى المبادرة: "كنت أشعر بالاستياء عند مروري من أمام مبنى أثري مهجور ... وأتساءل ماذا يمكن أن نفعل كمبادرين من أجل إحياء المكان ... ومن هنا انطلقنا معاً كمجموعة فاعلة كي نحقق هدفنا".
لم يكن عبد الله الرزي وحده من ثابر لإعلاء أصوات المهمشين وإعادة إحياء الأماكن الأثرية في غزة، بل وقف إلى جانبه عدد من النشطاء والفنانين والكتاب والمثقفين الذين يؤمنون بأهمية استخدام الأدوات الفنية لإحداث تغيير مجتمعي تجاه قضايا معينة.
قالت حمدان: "هم يمتلكون أدوات قادرة على تحويل الأماكن المهجورة إلى أماكن عامرة، ويمكن من خلال الأدب والسينما والمسرح الحديث عن قضايا الناس بشكل يلامس واقعهم ويوصل أفكارهم ووجهات نظرهم بشكل أسرع"، مشيرةً إلى أن المبادرة تركت أثراً واضحاً في عقول المجتمع الغزي، وأحدثت تغييراً ملموساً على مستوى البيئة والمجتمع.
يذكر أن المبادرة قد نفذت العديد من الفعاليات الثقافية والمجتمعية الهادفة إلى إحياء البلدة القديمة بغزة، وشملت مناطق (حي الزيتون، والدرج، والشجاعية)، حيث عُقد مؤخراً في حي الدرج (السيد هاشم) لقاء حواري حضره عدد من أهالي البلدة القديمة؛ بهدف تعزيز مشاركتهم وبناء حوار مجتمعي معهم وتعريفهم بالهوية الثقافية وبأهمية مبادرة "بيتكم عامر".
وأوضح الرزي أن الفعالية جاءت كنشاط تشاركي فاعل، واستكمالاً لما بدأه أهالي حي الدرج، حيث أطلقوا قبل أسابيع عدة مبادرة تهدف إلى ترميم المرافق الحيوية في الحي، وتحسين الخدمات فيه، وإعلاء أصوات المهمشين.
وقال: "الفعالية جاءت كي تُكمل ما بدأه أهالي حي الدرج، هم قاموا بجمع التواقيع بهدف إصلاح الخدمات ونحن زينّا الحي بالجداريات التراثية".
بدورها، أوضحت مديرة المشروع في مؤسسة عبد المحسن القطان مها حموري-غوشة، أن أهمية المبادرة تكمن في تمكين أهالي البلدة القديمة وتعزيز قدرتهم على التعبير عن مطالبهم المجتمعية، وإعلاء أصواتهم، بجانب ربطهم مع أصحاب القرار من أجل إحداث تغير منشود، وتحقيق مستقبل أفضل لهم، إضافة إلى تبني الموروث الثقافي للبلدة عبر تفعيل الأدوات الثقافية والفنية كأداة تعبير حضرية.
يذكر أن مبادرة "بيتكم عامر" هي من بين المبادرات التي تأهلت للحصول على منحة الدورة الخامسة ضمن مشروع "الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية" الذي تنفذه مؤسسة عبد المحسن القطَّان، وبتمويل مشارك من الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون (SDC)، علماً أن البرنامج تلقى 83 طلباً للمشاركة، تقدم بها فنانون أفراد، وفاعلون ثقافيون ومجتمعيون، ومجموعات، وفرق، أو مؤسسات فنية أو ثقافية عاملة في مناطق الضفة الغربية بما فيها القدس، وقطاع غزة.