منذر جوابرة*
مشاركون في مشروع "مسار" في قرية قطنة حول الفن الجداري المجتمعي. |
مقدّمة
تقدم هذه الورقة قراءة خاصة تعتمد على منهجية العمل والبحث والتأمل لمشروع "مسار" لـ"مجموعة قطنة يا بلدي"، الذي نفذ من خلال برنامج البحث والتطوير التربوي/مؤسسة عبد المحسن القطان، ضمن مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية. وتحاول هذه الورقة أن تقدم دلالات وتحليلات على البيئة المجتمعية الفلسطينية من خلال الفن، التي تماشت مع بيئات متعددة ارتكزت على بعدها السياسي والجغرافي والاجتماعي والتربوي في تقديم قراءات بصرية عملت جاهدة على تقريب وجهات النظر وتحويلها إلى طاقة إنتاجية تفاعلية تضمن احتضانها المجتمعي وحمايتها ودعمها.
عكس المشروع الوضع الفلسطيني وبيئاته المتعددة من خلال الفن، وما يمكن أن يقدمه الفن من متغيرات مجتمعية وفكرية محدودة، لكنها تساهم، في الوقت نفسه، على تحريك عجلة التقدم نحو المشاركة والإبداع والمناقشة
مشروع "مسار" الذي اعتمد في منهجيته على تدريب وتمكين وتنفيذ، ومن ثم متابعة الإنتاج والتفاعل لمجموعة من شباب بلدة قطنة، ضمن المواقع المستهدفة في المشروع، فتح العديد من السياقات والتساؤلات والحراك المجتمعي داخل البلدة على أثر هذا المشروع، مثل مفهوم الفن المجتمعي وقدرته على إحداث متغيرات وتفاعلات ما بين المجموعة وسكان القرية، وإعادة صياغة سؤالنا حول أهمية وضرورة الفن المجتمعي في تجاوز العقبات المركبة التي يعاني منها المجتمع الفلسطيني.
وهنا يمكن التساؤل: هل هناك أثر يمكن ملاحظته من خلال الفن التفاعلي الجداري؟ وما هو الفن الجداري؟ وكيف للفن المجتمعي قدرة على التقريب بين وجهات النظر المختلفة وكذلك وضعها ضمن قائمة منسجمة ومتفاعلة من أجل التغيير؟ وما هي الأمور التي يسعى إليها المجتمع لتغييرها؟!
الفن الجداري بين النزعة التاريخية والحداثية
تُعدّ الرسوم الجدارية واحدةً من أهم الوثائق والمراجعات التاريخية التي بُني عليها كثير من التصورات والاعتقادات في تخيل شكل الحياة فيما قبل التاريخ، وكذلك الأوضاع الاجتماعية والثقافية وغيرها، لا سيما أن عصر الرسوم على الجدران قد سبق عصر الكتابة بآلاف السنين، ما جعل الرسم الجداري يساهم في توثيق وتأريخ حتى الكتابة التي جاءت لاحقاً، وكذلك صورت الرسوم الجدارية شكل الحياة في طريقة التقاط الطعام، أو طرق الصيد، والعلاقات الأسرية، أو علاقتها بالقبيلة أو الحاكم، ونوع الشجر والثمار التي كانت تستعمل.[1]
في تجاوز للبعد التاريخي والبحت في روح القراءة للفن الجداري، وانطلاقاً من الفن الجداري العربي الحديث والمعاصر الذي جاء متمماً للرسوم الجدارية التزيينية للمساجد والكنائس في أوروبا، فإن الإرث الرمزي والبيئي بقي حاضراً ومتمثلاٍ في أهم الجداريات العربية كما برز في منطقة العراق للفنانين كجواد سليم وفائق حسن، وربما يكونوا من أوائل من وظفوا العمل الجداري بمفهومه الحداثي آنذاك.[2]
اعتمد الإنسان البدائي في رسوماته بالتخطيط على الصخور، وكان مدفوعاً بنظرية أن هذه الرسومات هي حقيقة تساهم في طرد الشر والخوف عنه، في حين أصبح الرسام مطالباً بتأمين الطعام أو الصيد كبقية أقرانه، بل أصبح الرسم مهنة تساهم في الاستقرار وتأمين القبيلة عبر ما ينقله من تخيلات ورسومات على جدران الكهوف،[3] في حين أن العناصر الأكثر انتشاراً -آنذاك- هي لحيوانات مثل الماموث، والفرس البري، والغزال، وقد وظفوا النتوءات الصخرية لأقرب نوع من أشكال الحيوانات، وأبدعوا في معرفة خصائصها التشريحية، التي ساهمت فيما بعد بنقل حرفة الرسم من رؤى ورقية إلى بعد جمالي وحاجة ضرورية تساهم في بناء الثقافات الخاصة، وتساعد في فهم التطورات التقنية والثقافية لكل منطقة.[4]
تطورات الرسم الجداري
من خلال الآثار الموجودة لعصر الكهوف، فإن عملية التصوير ارتبطت بالحياة اليومية وتفاصيلها، في حين ذهبت في الفترة الفرعونية إلى تقريب دور الدين لأذهان الناس من خلال الرسومات والتزيين التي نُفذت في المعابد والمقابر، لا سيما خطوات نقل الميت من حياة إلى أخرى، عبر تصوير مراحل نقل الموتى، والطقوس الأخرى المتعلقة بوضع الطعام واحتياجات المتوفى أثناء عملية العبور التي يحتاجها للحياة الأخرى. في حين كانت في منطقة بلاد الرافدين تعكس التطور الزراعي والصناعي وحياة الاستقرار التي عاشها الإنسان هناك، وفترة التطور المدني والممالك التي أُنشئت كالسومرية والكلدانية والبابلية، وكذلك في منطقة سوريا، وما نشأت عنه الخطط العسكرية والحربية والأدوات التي استعملت وغيرها.[5]
فقد انتشر التصوير الجداري في منطقة حوض البحر المتوسط، وفي الحضارة المينوية لجزيرة كريت، ومن ثم اليونان، لتدخل فيما بعد بتطور تقنية الرسم باستعمال الظلال وتجسيمها، ونقلها من الرسم الثنائي إلى الثلاثي الأبعاد، لتستمر عملية التطور الجداري عند الإغريق والرومان التي وصلت إلى العمل الفسيفسائي، والفريسك، والتيمبرا، مروراً بالبيزنطي الذي يعد مزيجاً للفن اليوناني، إلى أن بلغ روعة الفن الجداري في الكنائس القوطية بين العامين 1200-1260، وهي مرحلة العصر الذهبي لفن الزجاج المعشق بالرصاص،[6] إلى فترة العهد الإسلامي الذي نقل الفن الجداري من الرسومات إلى الفن التطبيقي لدور العبادة والمؤسسات الحكومية، مازجاً الفنون الرومانية والبيزنطية والفارسية معاً، ليظهر حينها فن الأرابيسك، الذي اعتمد على النظريات الهندسية والرياضية، لا سيما أنه ابتعد عن رسوم الإنسان والحيوانات، فذهب نحو التجريد ونحو الأشكال الزخرفية النباتية والهندسية.
ظهرت الصحوة الكبرى في الفن الجداري في عصر النهضة لتزدهر في فلورنسا في منتصف القرن الخامس عشر، بحيث امتاز الفن الجداري بالضخامة في الحجم، والبساطة في التنفيذ، ومعالجة الرسومات بالضوء والظل، ووظفوا العنصر البشري في أعمالهم، ما ساعد في تحرر الفنان من المؤسسة المجتمعية إلى مشروع فردي يساهم عبر المؤسسات الدينية أو الملكية بتنفيذ مشروعه، مظهراً البعد الثالث في أعماله. وقد حملت معظم الأعمال رسائل موجهة بمختلف أشكالها، إن كانت دينية أو تجارية أو وطنية أو غيرها.[7] وقد برز من فناني عصر النهضة كل من: ليوناردو دافنشي، ورفائيلو، ومايكل آنجلو الذين وظفوا الفريسكو والتيمبرا في أعمالهم الجدارية.
برزت الرسومات الجدارية في فترة متأخرة من قبل الفن الحديث في المناطق الشعبية، التي تحمل رسائل موجهة في أكثر حالاتها إلى المجتمع والمناطق المكتظة، وهذا ما بدأ به أصلاً الفن الجداري سابقاً وقت الكهوف، من أنه كان يعبر عن القيم المجتمعية بشكل غير مباشر، أو يساهم في تأمين الحماية والاستقرار للسكان، في حين بدأ يعود إلى طبيعته عبر تقنيات مختلفة من وقت عصر النهضة، إن كان بتطوير الخامات والتقنيات المستعملة للتنفيذ، أو من الناحية التقنية في تنفيذ الرسومات، أو الجمهور المستفيد من الرسومات الجدارية. وقد لوحظ الرسم الجداري في المكسيك في المناطق الشعبية لدييغو ريفيرا في العام 1934 في قصر كورتيز بعمل جداري يحاكي قصة لينين في توحيد الاتحاد السوفييتي، وقد نفذها بطريقة الفريسك،[8] في حين أن التصوير الجداري في العصر الحديث ظهرت ملامحه في رسمة الجيرنكا 1937 للفنان بابلو بيكاسو، الذي عمل على توظيف رؤيته الفنية بتكسير كل المفاهيم عن الطبيعة، وإعادة بنائها حسب نظرياته في إلغاء المفاهيم الكلاسيكية للرسوم مثل المنظور، والنسب، والبعد الثالث، متأثراً بمدرسة الباوهاوس بألمانيا لكازمير ماليفيتش 1877، الذين عبروا عن الجمال الخاص بالفن نفسه.[9]
بدأ تطور الجداريات وتعدداتها في عصر ما بعد الحداثة الفني، الذي وظف كافة التقنيات والوسائط في العمل الجداري، وظهر خلالها الكثير من أنواع الفن المجتمعي الذي جاء بداية عبر العمل الجداري المفتوح مثل الفن التفاعلي، وكذلك الجداريات الرقمية للفنان ماركوس ليرنر في ميونخ في العام 2007، الذي اعتمد في بناء عمله على بناء جداريات مضيئة ضخمة تعتمد على قوتها أو ضعفها أو حركتها بناءً على عدد الكثافة البشرية في الشارع، فكلما زاد عدد المارة أضاءت بشكل أقوى.
الفن الجداري في فلسطين
وفي مقاربة بين الفن الجداري تاريخياً وعلاقته بالفن الجداري الفلسطيني كفن حديث، نجد تعدد الأعمال الجدارية في فلسطين، وعبر سنوات عديدة، بدأت تظهر ملامحها مع الانتفاضة الشعبية الأولى 1987. وقد بقي العمل الجداري الفلسطيني أو تنسيبه لاحقاً للفن الجرافيتي يحمل خصوصية يظهر فعلها وشكلها فيما تنفذه من طريقة العمل، وما تحمله من مضامين ومعانٍ أو رموز، فقد بدأ العمل الجداري بالكتابات السياسية والثورية على جدران البيوت والمدارس والأماكن العامة، في ظل قمع الحريات ومنع نشأة المحطات الإذاعية وغيرها من أسباب سياسية، ما دفع التنظيمات الفلسطينية إلى تأطير عملها التعبوي عبر استخدام الجدران والكتابة عليها، أو رسم بعض العناصر المألوفة التي تحمل دلالات وإيحاءات وطنية مثل: المفتاح، وقبة الصخرة، وعلامة النصر، وعلم فلسطين، ولاحقاً صور الشهداء والمعتقلين.
وتُعد فلسطين أولى المناطق العربية التي استخدمت فيها الجدران للتعبير عن قضايا سياسية وغيرها، وكذلك تكريس الشعارات المكتوبة والمرسومة، وتسليط الضوء على الأحداث والمتغيرات والمناسبات الوطنية، وبلغت فعالية الجدران أقصى درجات الاهتمام والتعبير عن الآراء المجتمعية،[10] التي يعتبر الجمهور العام هو المستهدف منها، لتخلق فعالية وحراكاً مختلطاً ما بين العمل التفاعلي والفعل المجتمعي، وذلك عبر تسجيل المناطق والأوقات والتواريخ التي ينطلق منها التجمع للمقاومة مثلاً، وسبب المناسبة، وهي بذلك تكون قد عملت على وضع منهجية مختلفة في التعبئة، والمعلومة، والسبب، ومن ثم تجمع الجماهير للانطلاق نحو المسيرات أو المظاهرات أو الخطاب.
وقد بدأ التحول في المفهوم الجداري يأخذ بعداً مختلفاً منذ الألفية 21، عبر دخوله في مسار الفن بشكل عام، والذي تنوع بين الفن التفاعلي، والمجتمعي، والجرافيتي، والكاليغرافي، والتزييني. في حين كان بداية التطور الجرافيتي الفلسطيني بدخول الفنان البريطاني بانكسي لفلسطين، وتنفيذ مجموعة من الرسومات في مدنية بيت لحم، وقلنديا، وكذلك على جدار الفصل العنصري في العام 2007.
مشروع "مسار" في قرية قطنة حول الفن الجداري المجتمعي. |
الجدار بين المعاصرة والتفاعل: قطنّة .. نموذجاً
لا شك أن مفهوم العمل الجداري وإن كان مجتمعياً يحيلنا إلى البعد السياسي أولاً، والاقتصادي الاجتماعي في بعده الثاني. ومن خلال المقارنات والتتبع التاريخي لمفهوم العمل الجداري، فحتى الفن التزييني والتفاعلي والجرافيتي كلها تأتي من أثر الواقع السياسي والاقتصادي، فإما تكون منبراً ضد السياسات والسيطرة والتبعية كرمز للحريات والتعبير المجتمعي ضد قوانين تعد مجحفة لشريحة اجتماعية محددة، وإما تأتي متناغمة لهذه السياسات كالجدران الإعلانية والتزيينية في بعض مواضعها، ورسائل أخرى يسلكها المجتمع كواحدةٍ من طرق التعبير عن انعكاس الفرد أو المجتمع، ولكن في محصلتها إما تكون للتكسب وإما للمواجهة. ونستذكر هنا ما حدث في ستينيات القرن الماضي حينما خرجت مجموعة من التشكيليين الشباب إلى الشوارع في باريس، ثائرين ومطالبين بهدم متحف اللوفر، وشعارهم: "لقد ضقنا ذرعاً بالمتاحف وغبار الواجهات الزجاجية، ينبغي أن نقود الفن كي يستنشق الهواء".
إن نوع الجدران المتآكلة في جزء كبير منها في حارات قطنّة القديمة، وملاحظة أنها عرضة للإزاحة والتدمير، وللإحساس الكبير من مجموعة "قطنّة يا بلدي"، التي جاء معظمها من بعد حزبي سياسي، ومحاولتها في بداية المشروع توريط السياسة بالفن، دفع المشروع للمسير بروح المكان وأصحابه، وخلق مساحة فنية تحاكي انعكاس الواقع البيئي والفكري للمجموعة وما تحمله من إشارات تعكس، أيضاً، التوجهات المجتمعية بشكل عام، كل ذلك دفعنا جميعاً إلى استخدام جدران البيوت واستهدافها ليعبروا بمواقفهم الإنسانية والاجتماعية من خلالها، وكأنها شعور باستعادة قيمة الجدار ومكانته بالنسبة للفلسطينيين، إن كان على المستوى السياسي وما يمثله الآن من جدار فصل عنصري كواحد من الجدران المغلقة التي تطفئ ضوء الشمس قبل موعدها، أو ما كان يمثله الجدار إبّان الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987 من طاقة وفاعلية جماهيرية وسياسية كبيرة في التفاعل والتنوير والأخبار، فالجدران كانت عبارة عن جريدة يومية تستطيع معرفة العالم من خلالها، كما أن لون الجدران الرمادي الذي يوحي بالموت والنسيان، وما يمثله هذا اللون أيضاً من قراءات بمفهوم اللون المحايد بالنسبة للمخيمات الفلسطينية، كلها كانت عوامل تحفيزية من أجل أن يكون العمل على الجدار واحداً من الأفكار الأولى في العمل عليها.
إن الشعارات السياسية التي تمت كتابتها على الجدران كموقف احتجاجي، وكذلك الاحتجاجات الاجتماعية والعاطفية والتجارية وغيرها، كلها أسست للفن الجرافيتي الحديث، وفن الشارع على وجه الخصوص، حيث جاءت كخطوة تخريبية ذكية تم تكريسها من شريحة الفنانين عبر نقلها من العمل التخريبي إلى الجانب التثقيفي والتجميلي، وخلقت أشكالاً متنوعة ومتعددة بمفهوم فن الشارع الذي تمثل بأشكال عدة، مثل: الجرافيتي، وفن الملصق، والمنحوتات، والفيديو، وإعادة التدوير، وتوظيف الستانسيل في الفن التفاعلي الجماهيري، التي جاءت تحت مسميات مختلفة، مثل: الفن المجتمعي، فن الفضاء العام، وفن الفضاء العام المستقل، وما بعد الكتابة على الجدران ... كلها مصطلحات تندرج تحت مسمى فن الشارع، لكنها فتحت الباب أمام الحوار الفني نفسه، فلم تقف على نوع محدد، ففُتح فن الشارع على الفن المجتمعي، والفن التفاعلي، والفن الجرافيتي، وغيرها.
مشروع "مسار" في قرية قطنة حول الفن الجداري المجتمعي. |
الكتابة والرسم بين التعبير السياسي والمعنى الجمالي الاجتماعي
على جدران البيوت والمساجد والمحلات من الحارة القديمة في بلدة قطنة، تم رسم أشكال متعددة للتطريز الفلسطيني، وبعض الكتابات الكاليغرافية لعبارات متعددة.
أما الرسم الجداري لأشكال ورموز من التطريز الفلسطيني، فقد نفذت على جدران لأكثر من ثلاثين بيتاً ومسجداً واحداً وثلاثة محلات تجارية، وقد عملت مجموعة "قطنة يا بلدي" المكونة من ثمانية أفراد، على استحداث عناصر رسم مختلفة مستوحاة من أشكال التطريز الفلسطيني، وقد عملوا على تفكيك الوحدات الزخرفية من مصدرها الأم، إلى أشكال هندسية مبسطة يمكن رسمها وتنفيذها كرسومات جدارية جمعت بين موضوع التطريز الفلسطيني وعلاقته بتفكيك الهوية الوطنية، لا سيما ما يعانيه سكان المنطقة من حصار سياسي وجغرافي لمنطقتهم، وكذلك سرقة التطريز من قبل الاحتلال، ما دفعهم للعمل على إبراز الهوية الوطنية من هذه الأشكال، وإعادة رسمها على الجدران مراعيةً البعد الجمالي في تنسيقها وألوانها، حيث ساهم سكان القرية كذلك في اقتراح بعض الألوان؛ كالحاجّة "أم محمد" التي استهدف منزلها بالرسم، واختارت الألوان بين الأزرق والأصفر والأحمر، وقد استلهمت الألوان والشكل الفني من تطريز منطقة الجنوب مثل الخليل والنقب. وهذا بدوره عمل على مشاركة العمل ما بين المجموعة وما بين سكان المنطقة، ما خلق أجواءً ديناميكية في التفاعل والتناغم بين مكونات وشرائح المجتمع المختلفة، وأيضاً بروز دور واضح وكبير لشباب الحي غير المنتمين للمجموعة الذين ساهموا بشكل فعلي وكبير بتحضير الجدران ودهانها مسبقاً قبل عملية الرسم، بل وتلوين الأشكال الهندسية على الجدران.
أيضاً ما قاموا به من إعادة تأهيل لسور أحد البيوت بالتعاون مع البلدية لعدم قدرة صاحب البيت على تأهيله، واختيار هذه المنطقة لعمل كاليغرافي يكرّس البعد الجمالي لبلدة قطنة حينما اختاروا كلمة "قطنة يا بلدي"، وهنا نلاحظ البعد السياسي مع الجمالي في تنفيذ هذه الجدارية التي كانت مليئة بالشعارات السياسية، واستشعارهم أن هذا العمل لا يلغي ولا يتعدى على هذه الكتابات، بل يعيد بناءها وصياغتها بشكل أجمل من ذي قبل، كما عبر شباب القرية بذلك وافتخارهم بهذا العمل، والتقاطهم الصور بعد تنفيذه.
وربما ما يؤكد قدرة المشروع على خلق تحول في العقلية المجتمعية وقدرتها على تشكيل اختراق حقيقي في البنية الاجتماعية ما عبر به يوسف الفقيه، رئيس المجلس البلدي بقوله: "إن المشروع شكّل اختراقاً حقيقياً في البلدة"، وكذلك قيام المجموعة بتعديل وإلغاء بعض الرسومات التي قام بها أبو محمود؛ وهو عامل بناء في أراضي 48، حيث قام بإدخال عبارات "الله أكبر" على الرسومات التي لم ينته منها الشباب، وكذلك رسمه لبعض "الجرار" فوق الرسومات، وبعد عودة المجموعة في اليوم التالي قاموا بالحديث مع أبو محمود الذي وافق بدوره على إلغاء ما قام باستحداثه وإعادة تعديل الرسومات بما يتوافق مع مكوناتها وعناصرها الهندسية والزخرفية.
الفن المجتمعي الجداري قوّة التغيير، فلا شك أن استعمال جدران البيوت والرسم عليها يحتاج إلى موافقة أمنية أولاً، وجماهيرية ثانياً، لا سيما أصحاب البيوت أنفسهم، وغالباً ما يتساءلون حول نوع الرسم الذي سينفذ على الجدران، ومعنى هذه الرسومات، وأسبابها، وقدرة الرسامين على تنفيذها. وهذه التخوفات ربما تكون مشروعة في وقت من الأوقات من الناس، وبخاصة أن المشاريع الجدارية غالباً ما تتم إما بشكل عفوي وإما تعديات يقوم بها رسامو الجرافيتي وبعض المجموعات الناشطة سياسياً، أو تتم على جدران المؤسسات العامة والمدارس، لكن في الوقت الذي تستعمل فيها البيوت كأحياء، فإن الأمر يختلف، وهذا ما حدث في بلدة قطنة، ففي اليوم الأول من تنفيذ المشروع على الجدران، واجهت المجموعة العديد من التحديات كان أبرزها في موافقة أول بيت على تنفيذ الرسومات، وبعد زيارة العديد من البيوت ومحاورتهم، وقيام بيت أبو محمد بالموافقة على تنفيذ عملية الرسم، بل ومشاركة أبنائه بالمساعدة، دفع بقية السكان على الموافقة بالرسم على جدران بيوتهم، بعد أن شاهدوا التغيير الحقيقي وقبولهم لموضوع الرسم، بل طالب العديد منهم بأن يشملهم المشروع، وهنا يمكن التأكيد على أن هذه الموافقة هي نوع من التحولات الإيجابية، وواحدة من قوة التغيير الممكنة عبر الفن الجداري بعد ملاحظة الصعوبات والتردد في البداية من السكان، وهذا يضعنا أمام العديد من الأسئلة في فقدان الثقة بين الفن والجمهور، وأسباب غيابها أو مشكلاتها في حال نفذ بعضها، لا سيما أن المجتمع يحب الفن، ولا يبدي أي تخوف أو رفض له بالمبدأ العام، ولكن سلوكيات المجموعات أو الأشخاص أو المؤسسات هي التي تعمل على الدفع نحو وضع تحديات غير مقصودة ربما بين المجتمع والفن، وهذا ما عبر عنه السكان أثناء الحوار اليومي معهم وقت تنفيذ الجداريات، وما لفت الانتباه أن فتاة متزوجة ومقيمة في الحي، كانت تقوم بمراقبة المجموعة كل يوم، وتشاهد عملية تنفيذ مراحل العمل، ولعدم قدرتها على المشاركة مع المجموعة لما لذلك من مشكلات مجتمعية داخل القرية خاصة بالعمل بين الفتيات والشباب، فإن ذلك دفعها على أن تنقل هذه التجربة على مشروعها في تصميم الأزياء، فقامت برسم لبعض الزخارف المستوحاة من التطريز، وكذلك بعض العناصر المنفذة على الجدران، ودمجها مع مشروع تصميم الأزياء.
وهذا يحيلنا إلى التفكير عميقاً عن ماهية الرسم الجداري المجتمعي، وقدرته في خلق هوية فنية خاصة به، ويمكن تسميتها بهذا الاسم دون تردد، وبخاصة أن المرحلة الأولى منه ربطت بين الثقافة المجتمعية والواقع السياسي، والموارد الممكنة في مساهمة هذا المشروع، بل أن ينتقل للجمهور ليسلكوا هذا المسار فيما بعد دون الحاجة لمؤسسة أو مدرب أو غيره، وأن المجتمع لديه القدرة والفاعلية لأن يتحمل مسؤوليته أمام بيته وحارته ويدافع عنها، وهذا ما يمكن تسجيله كموقف جماهيري عمل على تبنيهم للمشروع وحمايته فيما بعد، لأنه أصبح جزءاً منهم، ويشكل قوة مجتمعية لا فردية، وقد لوحظ أن الأحزاب السياسية التي كانت تكتب الشعارات على الجدران قد حافظت هي الأخرى على هذه الجدران دون تشويهها أو تدميرها.
الداخل/الخارج وتوسيع دائرة المشاهدة
إن الحدود التي تصنع بقصد أو غير قصد، تبقى حاجزاً فاصلاً بين الداخل والخارج، بين المكان والبيئة، وكذلك تلعب دوراً كبيراً في بناء موقف بين الفرد والمجتمع، لما يلعبه هذا الترميز من دعوة للقطيعة أو الخصوصية بمعناها الاعتباري للمكان، وما يصبح خارج المكان هو غير منتمٍ بشكل غير إرادي، وهذا دفع إلى تفكيك البنية الاجتماعية منذ سبعينيات القرن الماضي، عبر عولمة النظام الرأسمالي، وقدرته على التفشي بين مكونات المجتمع، ودفع إلى السيطرة على العقلية الإنسانية في تفاصيلها كافة. وقد كان الفن واحداً من ضحايا هذه الأزمة البشرية.
من المعلوم أن الفنان، بشكل عام، يقوم بتنفيذ عمله داخل الأستوديو، ومن ثم نقل إنتاجه، إما للفضاءات العامة وإما إلى قاعات العرض وإما إلى غيرها، وفي بعض الحالات التي يقوم رسامو الجرافيتي أو الكاليغرافي بتنفيذ جدارياتهم، فإنها تتم بالخفاء ودون تفصيل خطوات العمل، وتوضيح الطرق الممكنة أمام الناس، ولا ننسى هنا تجربة الفنان العالمي "بانكسي"، الذي نفذ العديد من أعمال الجرافيتي في فلسطين دون أن يراه أحد، فقد نفذها بالخفاء، وأيضاً ما تقوم به الأحزاب السياسية بالكتابة والرسم ليلاً، لكن ما ميز مشروع مسار هو الكسر المتعمد للبعد السياسي والفني في آن واحد، وتحويل هذه الفكرة إلى عمل جماهيري تقوده مجموعة من شباب البلدة، حيث رسمت العديد من العناصر على الورق في الشارع، ومن ثم نقلت على الكرتون أو صور الأشعة أيضاً في الشارع وأمام الناس، وهذا بدوره عمل على إثارة انتباههم ودهشتهم ودعوتهم لمراقبة ما يحدث، بل محاولتهم أن يساعدوا وأن يتعلموا خطوات التنفيذ.
بعد ذلك كانت تُقص هذه القطع يدوياً أمام الناس، ولاحقاً تستخدمها المجموعة بالرسم على الجدران بعلب "سبريه"، أو بالتلوين المباشر، وكان يتم ذلك، أيضاً، أمام أعين المارّة، ما عكس شعوراً بسهولة تنفيذه ودعوتهم إلى أن يتعلموا هذه التقنيات البسيطة والمعقدة في الآن نفسه.
هذه الشفافية ربما والعلاقة المباشرة بين الفن والمجتمع، ساهمت، بشكل كبير وملاحظ، في شرح خطوات العمل وطرق تنفيذها دون الشرح نظرياً لعامة الناس، بل هي خطوات كان لا بد من تأسيسها وتدريبها لشباب مجموعة "قطنة يا بلدي" كمجموعة مستفيدة من المشروع بشكل مباشر، ومن ثم نقل هذه التجربة إلى بيوت البلدة وسكانها.
كما أن هذه الخطوة كسرت التقليد السائد أن الفن يصنع في غرف مغلقة، وتحت أضواء الشموع والأجواء الرومانسية، وهذا ما عبر عنه بعض الشباب ممن ساعدوا وتطوعوا في العمل في المشروع بعض الأيام، وعبروا عن سعادتهم للمشاركة في هذا الفعل، وأنهم "أصبحوا فنانين" خلال ساعات، وأنهم غير ملزمين بزيارة الفنان أو مرسمه، بل أصبح الفنان والمرسم متاحاً للجميع وأمام العيان، وهي دعوة إلى تبسيط وتسهيل مهمة العمل الجماعي بالفن، الذي يمكن أن يحدث تغيرات ملموسة وملاحظة على أرض الواقع.
*فنان بصري
"مجموعة قطنة يا بلدي" مجموعة شبابية تتكون من 18 شاباً وشابة من بلدة قطنة شمال شرق مدينة القدس، انطلقت على أثر مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية في قطنة الذي نفذه برنامج البحث والتطوير التربوي/مؤسسة عبد المحسن القطان، بدعم مشارك من الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون SDC))، وانبثق منها لاحقاً المجلس الشبابي الذي عمل مع مجموعة قطنة يا بلدي، والمجلس البلدي في القرية، وهذا، بحد ذاته، لعب دوراً بارزاً في تفعيل الدور الاجتماعي والمساهمة بشكل فعلي في توسيع دائرة العمل والتغيير في القرية.
الهوامش:
[1] يان إثيليك. 1994. الفن عند الإنسان البدائي، ترجمة: جمال الدين الخضور، سوريا: دار الحصاد للنشر.
[3] (4): 507–527. ISSN 0539-0184. doi:10.1177/053901800039004001.
[4] سلوى محسن الطائي. 2016. مجلة جامعة بابل، العلوم الإنسانية، المجلد 24، العدد4، ص 2072.
[5] محسن محمد عطية. 1995: تذوق الفن الأساليب- التقنيات- المذاهب، مصر: دار المعارف.
[6] اعتماد محمد السنوسي. 2005: التصوير الجداري المعاصر بين متطلبات التصميم والتقنية، (رسالة دكتوراه)، جامعة الإسكندرية، كلية الفنون الجميلة.
[7] نعمت إسماعيل. 1991. فنون الغرب في العصور الوسطى والنهضة والباروك، الطبعة الثالثة، القاهرة: دار المعارف للنشر والتوزيع.
[8] ندى بنت سعود بنت سعد. 2013. رؤية معاصرة لفن الجداريات في ضوء التقنية الرقمية (دراسة ماجستير)، السعودية: جامعة أم القرى، كلية التربية.
[9] محمد طمان. 2004. الفن الرقمي كأحد اتجاهات فنون ما بعد الحداثة وتطبيقاتها في مجال التصوير المعاصر (رسالة ماجستير)، القاهرة: جامعة حلوان، كلية التربية الفنية.
[10] مها كشو بن عمر. 2017. "الفن في الشارع الفلسطيني: التفاعل التواصلي مع الفضاء العام" (1-4)، جريدة الأيام الفلسطينية، رام الله: جريدة الأيام الفلسطينية.