الفنان والناشط المجتمعي ما بين الدوافع والاستثمارات والتحديات الناتجة عن الانخراط في مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية

الرئيسية الفنان والناشط المجتمعي ما بين الدوافع والاستثمارات والتحديات الناتجة عن الانخراط في مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية

عصمت زيد*

عمل تركيبي من مواد مستهلكة بعنوان " ليس مكانك/ بيت" لسلام أبو لبدة ضمن معرض بروفايلات: سيرة مدينة في مدينة قلقيلية ضمن مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية الذي ينفذه برنامج البحث والتطوير التربوي/ مؤسسة عبد المحسن القطان بدعم مشارك من الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون (SDC).

 

تقديم

"كل إنسان فنان" ... كانت هذه الجملة للنحات الألماني الراحل (Joseph Beuys) مثل الحجر الأساس الذي بنيت عليه فلسفة فن ورؤية حياة حاولت تغيير المجتمع، بل تغيير العالم، بواسطة فن تتلاشى فيه الحدود التي تفصله عن الحياة، لكي يصبح الفن حياة، وتصبح الحياة فناً.

ما بين مقولة جوزيف والواقع المعاش في فلسطين، وبخاصة في المناطق المهمّشة "فنياً وثقافياً"، بدأت رحلة التحدي في مسيرة بحث معمّق يحمل في ثناياه الكثير من التحديات والصعاب، ترجمت إلى تخوفات أحياناً، ولكن هل كانت هناك نجاحات؟

في مشروع "الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية"، لم يكن الهدف إعادة الناس إلى الفن، ولكن إعادة الحياة إلى الفن؛ فالفن موجود بين أيدي الناس، ويمكنهم الوصول إليه عبر الشبكات العنكبوتية وشبكات التواصل الاجتماعي، ولكنه فن غريب بعض الشيء عن معظم الناس، تنقصه الحياة.

إن نمطية صورة الفنان في المجتمع الفلسطيني، التي ترتبط معظم الوقت بالإنسان المنعزل في مرسمه، بمظهر مختلف عن عامة الناس، وينتج أعماله الفنية الغريبة معظم الوقت؛ كل هذا عزز الفجوة ما بين الفنان والمجتمع.  واقتصر تفاعل الناس مع الأعمال الفنية بشكل نخبوي.  وفي السياق نفسه، نجد أن الفنان الفلسطيني متواطئ مع هذا التنميط بمظهره.  أما فيما يتعلق بإنتاج الأعمال الفنية بشكل منعزل، فقد كانت للفنانين وجهة نظر مختلفة، حيث أكدوا على أن كل فنان له تجربته الشخصية وبالمقابل له تجربته المجتمعية، بواقع أنه جزء من المجتمع الذي يعيش فيه.  فهل أحدث المشروع تغييراً على نمطية صورة الفنان؟

الفنانون المنخرطون في هذا المشروع ذهبوا إلى التجمعات المنخرطة في المشروع وفي جعبتهم أدواتهم التي ألفوها كلٌ حسب تخصصه، بعضهم فنان تشكيلي، أو مخرج مسرحي أو معالج في الدراما.  هذه الأدوات التي اعتادوا استخدامها مع فنانين آخرين أو منخرطين في التجربة الفنية، فهل تمكن الفنانون المشرفون على المشروع من تطويع هذه الأدوات وتكييفها بما يتلاءم مع المستوى المعرفي والخبراتي للمجموعات المستهدفة في المواقع؟

وفر المشروع مساحة استكشافية بحثية لكافة من انخرط فيه.  التأثر والتأثير كان تبادلياً ما بين المجموعات في المواقع والفنانين المشرفين، سواء كان بوعي أم بدون وعي؛ هذا ما حدث! وإن كان تأثير الفنانين على المجموعات ظاهراً بشكل أوضح.  من وجهة نظري، فإن دورَ الخبرة كان له أثر جلي في هذا التأثير.  فنظرة المجموعات للفنان هو ذو الخبرة في مجاله، ولكن كان دور المجموعات يبرز بشكل أكبر في المراحل البحثية ونقاش القضايا المجتمعية، أما المُخرج النهائي فكان في معظمه متأثراً بتدخلات متفاوتة من قبل الفنانين المشرفين، ما شكل أحد التحديات التي واجهها بعض الفنانين خلال عملية إنتاج المخرجات النهائية للمشروع، فهل هذا الإنتاج إنتاج الفنان المشرف أم المجموعة المنخرطة في المشروع؟

وحيث إن الفن يؤثر على حركة المجتمع -أي مجتمع- وتطوره، فالفنانون من خلال نتاجهم الفني يطرحون معالجات للواقع أو تحسيناً له ولدور الفرد فيه بطرق ووسائل مختلفة، مرة بشكل مباشر، وأخرى بشكل غير مباشر.  أحياناً أخرى يكون التغيير والتأثير من خلال بناء وعي عند الفرد، إن هذا الوعي، إضافة إلى الخبرات الإنسانية الأخرى المتعددة لدى الفرد بشكل عام وليس فقط لدى النخبة، يقوم بخلق نواة لتحريك المجتمع وتطوره.  إذ إن هناك علاقة ديناميكية حية بين حركة المجتمع وحركة الفن.

 

الفنان والمجتمع

"هناك نظرية في علم الجمال تقول إن الفن للفن وأخرى تقول إن الفن للمجتمع ونظريات أخرى تحدث عنها فلاسفة الجمال، فنظرية الفن للفن تقول: إن الفن الصحيح منفصــل عن الأفعــال والموضوعــات التي تتــألف منهــا التجربة المعتادة، والفن إذا شاء أن يكون فناً ينبغي أن يتحرر من هذه القيود والمحاكاة في أسلوبه وهذا ما قاله (كليف بل) رائد هذه النظرية التي تسمى بالنظرية الشكلية.

والنظرية الأخرى التي تقول: إن الفن هو ضربة من الصنعة الجمعية والعمل الجماعي، وإن الفن إذا شاء أن يكون فناً لا بد أن يخضع لقوانين وأنظمة المجتمع، وكذلك لا يعبر عن (الأنا) بل (نحن)، وأن (الأنا) لا بد أن تشتق من (نحن)، وهذا ما قاله الفيلسوف (تين) رائد هذه النظرية".

(بكر بن حسين عبد السلام؛ فنان تشكيلي)

في النظرية الأولى يظهر جلياً أن الفنان منتج للأعمال الفنية بطابع فردي وبصورة منعزلة في مرسمه، أما في النظرية الثانية -التي تلتقي مع هذا المشروع- فلقد رأينا الفنان يتحول إلى وسيط ما بين الناشطين/المجموعات في المواقع المستهدفة والعمل الفني المنتج والمجتمع المحلي.  إن هذا المشروع أسهم في خلق تفاعل حي بين الفن والمجتمع.  وهنا لنكون أكثر وضوحاً، نحن لا نتحدث عن فن في خدمة المجتمع، بل نتحدث عن فن متفاعل تفاعلاً حياً مع المجتمع وبالعكس؛ تفاعل ضمن مستويات مختلفة.  فخلال المشروع، عمل الفنانون والمجموعات، على حد سواء، على توريط المجتمع في الفعل الفني ضمن مراحله المختلفة.  بداية في العملية البحثية واستكشاف المواقع، ثم في عملية الإنتاج الفني، وأخيراً في مرحلة المخرجات النهائية للمشروع.

وحيث إن الفن عبارة عن أداة آمنة وذكية لاستكشاف خطاب الناس والمجتمع، فإننا في هذا المشروع نعيد الفن إلى نصابه الأول، فمعظم الفنون بدأت من المجتمع، ومن ثم انتقلت إلى الأستوديو أو المسرح.  ولكن التحدي الأبرز الذي واجه الفنانين هو كيفية اختراق هذه المجتمعات فنياً.  بأدواتهم التي تحويها جعبتهم، نزلوا إلى التجمعات وخاضوا الكثير من النقاشات مع مجموعات بؤرية، كانت تحمل الكثير من التوتر أحياناً، بعض الأفراد لم يستسيغوا هذه النقاشات فقرروا الانسحاب من المشروع، وبعضهم استمر.  ولكن، من وجهة نظري، أن النقطة المحورية في مسير هذا المشروع كانت النزول إلى الشارع.  وهنا كانت نقطة تحول عند معظم المشاركين؛ أن ترى مدينتك التي تعيشها بعين أخرى وبأدوات أخرى غير التي اعتدتها؛ أن تراها بعين فنية وبأدوات الفن من أجل استكشافها ونقدها أحياناً.  وكأننا في هذا المشروع أزلنا الستار عن المجتمع، ستار الحميمية التي تعمي العين عن التحولات التي تحدث حولنا في المجتمع.  فأحد المشاركات في المشروع عند النزول إلى الشارع لتبحث في زوايا المدينة عن الصور التي في ذهنها، ذهلت بأنها لم تعد موجودة! وأن المدينة التي تراها بعينها كل يوم هي صورة رسمتها لها أمها قبل عشرين عاماً وتوقفت رؤيتها البصرية في ذلك الزمان.  مشاركة أخرى قالت: إن مدينتي كانت الهواء الذي أتنفسه، أما الآن فلم أعد أشعر بها هكذا دائماً.

وما بين حميمية الانتماء للبلد من قبل المجموعات، والفنان وأدواته الفنية، والمجتمع الذي لم يتعرض لتجربة فنية من هذا النوع من قبل، كانت تتمحور أكبر التحديات وتقف أمام الفنانين المشرفين على المشروع بشكل متفاوت في المواقع، وتضعهم أحياناً في تساؤلات شخصية مفصلية: أيهما أفضل أن أذهب إلى المواقع للعمل مع المجموعات والتجمعات أم أبقى في مرسمي وأعمل على مشروعي الشخصي؟

وحيث إن نقطة الالتقاء ما بين الفنان والمجموعات والمجتمع أيضاً، كان يعتريها الكثير من القلق والتوتر والحساسية؛ من حيث الرفض أو القبول، كانت المسؤولية الأكبر تقع على كاهل الفنان، كيف يجد الثقب الذي سيدخل منه إلى المجتمع، أو يُخرج المجتمع إلى مساحته.  الفنان خلال المشروع كان يمسك العصا من الوسط، فالهدف لم يكن إنتاج أعمال فنية تضعنا في صدام مع المجتمع، ولكن إنتاج أعمال فنية بطريقة ذكية، بحيث نخرج عن المألوف الذي اعتاد المجتمع عليه، وفي الوقت نفسه نسلط الضوء على قضايا مجتمعية حساسة من الصعب جداً تسليط الضوء عليها بدون تدخلات فنية.

وفي خضم كل ما ذكر من تعقيدات وتحديات في العمل خلال المشروع، كان التحدي الأكبر للفنانين المشرفين هو الأدوات، حيث إنهم كان عليهم تطويعها بما يتلاءم مع مستوى المجموعات المستهدفة معرفياً وتقنياً واجتماعياً.  وفي أحيان كثيرة، كان عليهم التخلي عنها، وبدء العمل بالأدوات التي تملكها المجموعات.  وهذا ما كان يقود -في كثير من الأحيان- إلي تغييرات جذرية في المخططات المعدة مسبقاً إن وجدت.  وخلال هذه العملية الديناميكية، كان النحت في الوعي من قبل الفنان على المجموعة أحياناً، وبطريقة خفية كان هناك نحت عكسي من قبل المجموعة في وعي الفنان.

 

عملية الإنتاج الفني

إن عملية الإنتاج الفني في هذا المشروع كانت متباينة، ولكنها بدأت جميعاً بنقاشات وخطوات بحثية اجتماعية في المواقع، من أجل تفكيك المجتمعات المستهدفة، ومن ثم تبئير القضايا من أجل تكثيف البحث على قضايا محددة في كل موقع من المواقع المستهدفة.  وهنا كان أحد أبرز تحديات المشروع، حيث إن معظم المنخرطين في المشروع تعرضوا لتجارب بحثية تقليدية؛ فكان التحدي في تعريضهم لعملية بحثية من منظور فني.

وجدير بالذكر أن المجموعات المنخرطة في المشروع كانت متباينة بحسب زمكانية المشروع؛ فكان هناك طلاب مدارس، ونساء، ومعلمون ومعلمات، وناشطون مجتمعيون.

أما بالنسبة لعملية الإنتاج لمخرجات المشروع النهائية في منطقتي -قلقيلية (معرض "اليد الثالثة" ومعرض "بروفايلات – سيرة مدينة")، فكان هناك تطور واختلاف واضح بين المعرضين.  فخلال السنة الأولى من الانخراط في المشروع، وتحديداً في المرحلة الأولى، كانت عملية البحث والإنتاج الفني جماعية بالمجمل.

تبنيت موضوع اضطهاد المرأة مجتمعياً، وكبتها في حالات الفقد بفعل الاحتلال "الشهيد".  كان يدور في ذهني العديد من الأفكار لمخرجات بصرية فنية تسلط الضوء على هذا الموضوع، ولكن خلال العملية البحثية في هذا الموضوع، ومن أجل طرح القضية بعيداً عن حساسية مصطلح "الشهيد"، ومن أجل إنتاج أعمال فنية متقبلة مجتمعياً، فقد خضع هذا العمل لنقاشات طويلة مع الفنانين المشرفين والمجموعة المنخرطة في المشروع، وشهد تحولات كثيرة حتى استقر على صيغته النهائية "مقلوبة–أصوات من المطبخ"؛ جسد هذا العمل اضطهاد أذن المرأة من خلال الأصوات التي تتعرض لها.  جدير بالذكر أنه خلال هذه المرحلة من المشروع كان تدخلي في عملية الإنتاج يقتصر على الجانب التقني "تسجيل الأصوات من المطبخ"، ومن ثم قام فريق الفنانين بالعمل عليها.

في المرحلة الثانية من المشروع، استفدت من العملية البحثية التي خضناها في المرحلة الأولى من المشروع، ولأن الفعل الفني تراكمي، فقد بنيت على الخبرات التي اكتسبتها في المرحلة الأولى من المشروع.  في عملية اختيار الفكرة "فكرة العمل الفني"، ومن ثم العمل على ترجمتها بصرياً من خلال عمل فني، في هذه المرحلة، قمت بعملية نبش في ذاكرتي لأستخلص قضية كانت معشعشة في ذهني؛ قضية ترتبط بحدث شخصي "الجدار"، ولكنه في الوقت نفسه حدث عانى وما زال يعاني كل الشعب الفلسطيني من أثره.  الجدير بالذكر أنه، في هذه المرحلة من المشروع، كنت صاحب الفكرة للعمل الفني، والمنتِجُ له أيضاً؛ فهنا بدأت أختبر علاقتي مع اللون واللوحة.

كان شعوراً مهيباً عندما رأيت اللوحة أول مرة بحجم (200سم × 200سم)، ارتبكت ولكني اعتبرتها تحدياً لي، وبدأت وقتها أقتطع الوقت من يومي من أجل العمل عليها، فكانت اللوحة ضيفاً جديداً على جدول وقتي اليومي طوال عملية الإنتاج لها.  وحيث إن الفيديو كان جزءاً لا يتجزأ من العمل الفني، بدأت عملية البحث وطلب المساعدة التقنية والتجريب حتى خلصت إلى الصيغة النهائية للعمل.  عندما اكتملت اللوحة والفيديو، كان كلٌ منهما في مكان منفصل.  وهنا بدأت أتقرب لحظة التحضير للمعرض من أجل رؤيتهما وهما يقترنان.  تماماً كمن يرقب انبلاج طفل من رحم أمه.  كان قد طلب مني الكتابة عن العمل، رفضت أن أكتب أي كلمة حتى أرى العمل كاملاً بجزئيه، حتى أختبر علاقتي به؛ وأكتب ما أشعره تجاهه "عمارة سكني".

 

الدوافع

كان هناك تباين في الدوافع وراء انخراط أفراد المجموعات في المواقع في هذا المشروع، فما بين قناعات شخصية بفكرة المشروع لدى بعض الأفراد، إلى رغبات شخصية في تطوير مهارات وحب معرفة لدى البعض الآخر، وآخرون عبروا عن فضولهم لمعرفة كيف سيستخدم الفن كأداة للتعبير عن قضايا مجتمعية.

البعض الآخر رأى في المشروع بصيص أمل في استثمار قدرته على العطاء، ووضع حلول جيدة لمشاكل مدينته وخلق فرص تعاون، وإنماء روح حقيقية للعطاء بين المنخرطين في المشروع.

آخرون عبروا عن رغبتهم في أن يكونوا عناصر فعالين في مجتمعاتهم، ومشاركة مشاكلهم والسعي إلى تسليط الضوء عليها والتعرف على أشخاص جدد.

أما بالنسبة لبعض طلاب المدارس، فكان دافعهم هو الانخراط في تجربة تتضمن أساليب التعلم النشط والمتفاعل، الذي هو أمر جديد عليهم، حيث عبر بعض الطلاب أنهم يفتقدون هذا النوع من التعلم في المدارس، كما أن المشروع كان فرصة لجمع الطالب والمعلم خارج حدود المدرسة (المدرسة كمكان وكعلاقات)، إضافة إلى الرغبة في زرع الوعي الثقافي في مدينتهم والتعرف عليها عن قرب، واكتشاف ما هو جيد وممتع فيها، والتعرف على مواقعها وكل شيء فيها، حتى الانخراط مع سكانها وتبادل الخبرات والمعارف.

آخرون التحقوا بالمشروع لحبهم للفن، حيث إنهم رأوا فيه وسيلة للتفريغ النفسي، وهرباً من ضغوطات الحياة.

على المستوى الشخصي، لم تكن دوافعي من الانخراط في هذا المشروع في بادئ الأمر واضحة، فلم يكن لدي تصور واضح عن ماهية المشروع.  فلم أكن أعرف عن المشروع أكثر من اسمه. حضرت الاجتماع الأول، وبدأت تتفكك كلمات اسم المشروع في ذهني، وفي كل مرة نلتقي تزداد دافعيتي وإيماني بالمشروع، حيث إنني وجدته يتقاطع مع اهتماماتي بالحراك الفني والثقافي محلياً.  قبل المشروع كان اهتمامي منصباً على حضور الفعاليات الفنية والثقافية محلياً كمتلقٍّ لهذه الفعاليات.  فإضافة إلى الاهتمام، كان أحد دوافعي هو الانخراط في صيرورة الحراك الفني والثقافي، وسبر علائقياته عن طريق إقحام نفسي في الفعل الفني والثقافي في مختلف مستوياته، فكرة وحوار وعلاقات وتجريب وتفاعل مع المجتمع.

 

الاستثمارات والفرص

على المستوى الشخصي، كان انخراطي في هذا المشروع نقطة تحول في علاقتي مع الفن، من شخص مهتم بالفن ومتلقٍ له؛ إلى شخص منخرط انخراطاً فعلياً في الفن ومنتج له، حيث إن إحدى الفرص التي خلقها لي المشروع هو انخراطي في معرض المرفق لاحقاً.  في هذا المعرض، تم تقديمي على أنني فنان؛ كان هذا التقديم غريباً بعض الشيء عني، فأنا لم أدرس الفن.  فهل الفنان هو من يملك الشهادة الفنية، أم من يملك المعنى (معنى الفن).  وهل أنا فنان أم ناشط مجتمعي؟ وما الفرق بينهما؟

آخرون قالوا إن انخراطهم في هذا المشرع أخرجهم من قوقعتهم، ليحتكوا في المجتمع، يتأثرون ويؤثرون به، متحمسين للبقاء، منخرطين في الفعل المجتمعي، بعضهم وضع خططاً مستقبلية لنشاطات مجتمعية سيقومون بتنفيذها في مجتمعاتهم.

بعضهم قال إن المشروع أعطاهم الخبرة والمساحة (باستخدام أدوات الفن) لتسليط الضوء على القضايا المجتمعية وعرضها بشكل منطقي.  فهم لم يتوقفوا بعد المشروع عن العمل، من حيث الاهتمام ومساعدة، بعضهم الآخر بالبحث والمبادرات الأخرى.

البعض الآخر ذهب إلى البعد الشخصي في الاستثمار والفرص، حيث عبروا عن أن المشروع كان فرصة لتفريغ الطاقات السلبية وتطوير مهارات فنية.  إحدى المشاركات قالت "عنجد صرت بفكر أكتب وأرسم وأخربش"، إضافة إلى تعزيز طرق التعبير والثقة بالنفس عن الأفراد المنخرطين في المشروع.

آخرون قالوا إن المشروع كان مساحة لاستكشاف مدينتهم والتعرف عليها، الانخراط في همومها، والتعرف على أناس جدد فيها.

 

التحديات

كان هناك تحديات عدة واجهت المنخرطين في المشروع، إحداها كان وقت عقد اللقاءات؛ فبالنسبة للنساء كان وقت اللقاءات طويلاً، وبخاصة أنه عندهن التزامات أسرية أخرى، وحيث أن كل امرأة كان عندها التزامات مختلفة.  أما بالنسبة لطلاب المدارس والجامعات، فكانت اللقاءات أحياناً تتعارض مع الامتحانات، إضافة إلى أن الموظفين كانوا يواجهون صعوبة أحياناً في التنسيق ما بين العمل ولقاءات المشروع.  التحدي الآخر كان اختلاف وجهات النظر ما بين أفراد المجموعات المنخرطة في المواقع، وبين المجموعات والفنانين، إضافة إلى المجتمع.  لدى بعض المنخرطين في المشروع، وبخاصة الإناث، كانت نظرة المجتمع تحدياً لهن.

البعض أضاف تحديات شخصانية، مثل الخوف من عدم القدرة على التعبير، أو عدم القدرة على الانخراط في المجموعة، إضافة إلى هاجس اختيار الفكرة التي يريد كل شخص العمل عليها، وما يليها من عملية الإنتاج الفني؛ وبخاصة أن معظم المنخرطين في المشروع هم ليسوا فنانين؛ وقلقهم من أن الأعمال المنتجة خلال المشروع ستعرض للجمهور.

جدير بالذكر أنه على الرغم من كل هذه التحديات، فإن انتماء المجموعات للمشروع وإيمانهم به جعلهم يضعونه في سلم أولوياتهم، من حيث الوقت، حيث إنه يقدم خدمة لمجتمعاتهم ولهم بشكل شخصي.  معظم هذه التحديات تم تجاوزها بروح الفريق.

 

تطلعات مستقبلية

في الختام، أخلص إلى أن العلاقة ما بين الفن وحركة المجتمع هي علاقة مبنية على تراكم معرفي على مختلف الأصعدة والمجالات، وقائمة على التداخل والتفاعل بين هذه المجالات.  هذا النسيج المتنوع وما يحتويه من فعاليات وتضادات والتقاءات وإرهاصات همه وشاغله الإنسان أولاً.

 

إضافة إلى ضرورة تبني مثل هذه المشاريع التي تقوم على تكسير نمطية صورة الفنان في المجتمع، وما يؤدي إلى خلق تقارب ما بين الفن المنتج، والمجتمع.  فن يحمل هموم الناس ومتفاعل معهم في كل مستوياته.

 

حيث أن فترة تنفيذ المشروع كانت قصيرة نسبياً لتحقيق الأثر المرجو، فإنه من الأهمية التركيز على استمرار هذه النوعية من المشاريع في المناطق المهمشة فنياً وثقافياً من أجل خلق فعل فني ثقافي اجتماعي في مجتمعات تفتقر لهذا النوع من التدخلات.

 

*ناشط وباحث مجتمعي