سوسيولوجيا الفن: المرئي واللامرئي في مجموعة أعمال فنية فلسطينية

الرئيسية سوسيولوجيا الفن: المرئي واللامرئي في مجموعة أعمال فنية فلسطينية

أحمد عز الدين أسعد*

عمل أدائي لبترا البرغوثي بعنوان قمر أربعطاش" شهادة الميلاد من معرض وجوه للأقنعة/ عنبتا

 

مقدّمة

تحاول هذه الدراسة استكشاف المرئي واللامرئي في مجموعة من الأعمال الفنية، التي أنتجها مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية، الذي نفذته مؤسسة عبد المحسن القطّان ما بين العامين 2016-2019، وقد أجريت الأعمال الفنية التي تناولتها الدراسة في مجموعة من التجمعات الفلسطينية (أريحا، عنبتا، نعلين، خان يونس) وهي تجمعات متنوعة ومنسجمة اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وهوياتياً.  تقف الدراسة على استكشاف البنية الاجتماعية والثقافية لتك التجمعات الفلسطينية، من خلال قراءة معمّقة لمجموعة من الأعمال الفنية (مسرحية "خارج السيطرة"،[1] فيلم كان في الخان،[2] معرض سقف البلد: معرض للرؤية (نعلين)،[3] معرض "وجوه للأقنعة": معرض للتجربة (عنبتا).[4]  وتقوم الدراسة على تطويع الأعمال الفنية لتكون مصدراً أولياً للمعرفة عن المجتمع الفلسطيني وبنياته المتنوعة، وهويته الثقافية الاجتماعية الفنية، أي الاستعانة بالعمل الفني ليكون مفتاحاً ومبضعاً جراحياً سوسيولوجياً لاستكشاف مكنونات المجتمع الفلسطيني وبنياته وطبقاته واهتماماته وهمومه وطموحه؛ أي إن الدراسة هي إطلالة على المجتمع الفلسطيني واستقراء لماضيه وحاضره، همومه وطموحه، والممكن والمحتمل والمأمول.  وتحاول الدراسة الإجابة عن مجموعة من الأسئلة، أهمها: ما هو المرئي واللامرئي في الأعمال الفنية المدروسة؟ كيف تتجلى البنى الاجتماعية والثقافية الفلسطينية في الأعمال الفنية المدروسة؟ كيف تجسد الأعمال الفنية الواقع الفلسطيني وإشكالياته وهمومه وتصوراته وانكساراته وانتصاراته؟

 

أولاً. سوسيولوجيا الفن: أو الفن كحوارية للاجتماعي والثقافي

تتحدى المقاربة السوسيولوجية للفن المفاهيم الميتافيزيقية وتكشف نواقص تلك المفاهيم وعيوبها، فالمفاهيم الميتافزيقية تقوم على محاولة تعريف الفن بلغة مجموعة من المعايير، التي لا يمكن تحقيقها في الواقع الاجتماعي والتاريخي دون تحريف النتائج، أما المقاربة السوسيولوجية للفن فهي لديها معنى أقوى للشروط المادية القبلية للتدفق التاريخي، والتنوع الثقافي لممارسات المؤسسات الفنية وخطاباتها.[5]  وتقوم وجهة نظر التحليل الاجتماعي للفنون على الاهتمام بظروف إنتاج واستهلاك العمل الفني، وفحص الأشكال والشفرات التمثيلية التي تعيد الأعمال الفنية من خلالها إنتاج الأيديولوجيات، وقد توصل التحليل الاجتماعي للفن إلى تقويض أسطورة عبقرية الفنان من خلال أمرين هما: الخصوصية التاريخية لوجود كل من الفن والفنان، وتفسير المعتقدات والميول المتضمنة في إنتاج الفنون وتقيمها.[6]

كذلك؛ تجادل كريمة بشيوة بمنطق النظرية السوسيولوجية، وتقول إن "الفنان ليس مخلوقاً أصيلاً كل الأصالة، وكأنما هو مخلـوق إلهي قد هبط من السماء، بل هو موجود أرضى يعيش فـي بيئـة جماليـة ذات طبيعـة اجتماعية خاصة.  ويستجيب لطائفة من المنبهات الفنية المحيطة، ويتأثر بمجموعـة مـن التيارات الجمالية السائدة، بحيث أنه لو تغيرت بيئتـه الاجتماعيـة لترتـب علـى ذلـك بالضرورة انقلاب هائل في نوع إنتاجه الفني".[7]  وهذا ما يدلل على أن الفنان هو ابن بيئته ومجتمعه، وهو يعبر بفنونه عن واقعه الثقافي والاجتماعي والسياسي، ويكون العمل الفني للفنان هو محاولة للنقش والتذكير والنحت للتعرف على المكشوف والمكسوف أو المرئي واللامرئي من البنى المجتمعية.

كما يدرس علم الاجتماع الفن دون أن يقيم تفريقاً قبلياً لصالح ما يدعى بالفن الجميل، أو الثقافة العليا ويجعلها تتفوق على الثقافة الشعبية، أو الثقافة الدنيا أو ثقافة الجماهير، فالفن من وجهة نظر السوسيولوجيا يتم تقصيه في بيئة الحقل الاجتماعي الأوسع، وهو الثقافة.[8]  كما يجادل بعض علماء الاجتماع بأن ليس لأي قطعة خصائص فنية ذاتية، ويعتقدون أن الطبيعة الفنية لأي علم فني ليست طبيعة ذاتية ودائمة لتلك القطعة، بل هي صفة توسم من قبل الجماعات المعنية بالشأن الفني.  ويتجلى مكمن معارضة علم الاجتماع لعلم الجمال (الاستطيقيا) في ادّعاء علم الاجتماع أن هذا الفرع من الفلسفة ينظر إلى القطع الفنية على أنها موجودة بحد ذاتها ولذاتها.[9]

وترى حنان أحمد أن هدف كل محاولات ما بعد الحداثة امتزاج الفن مع الحياة المدينية، وانفتاح الجماهير على الأفكار الفنية الجديدة.[10]  وتساجل كريمة بشيوة أن الفن ضرب من الصناعة أو الإنتاج الجماعي، فمعيار الإبداع الفني يستند إلى التجربة التي ترتد إلى أصل اجتماعي، ويرى أصحاب هذا التيار (النظرية الاجتماعية) أن الفن ضرب من الصناعة والإنتاج الجماعي.[11]  كما تجادل نظرية الفن الماركسية بأن الفنان ليس فرداً منعزلاً أو ذا مواهب خاصة، وإنما هو عضو في مجموعات محددة جمعية.[12]  وهذا يعني أن الفن منتج جمعي وليس منتجاً فردياً، وهذا المنطق الجمعي للفن يتوافق مع النظريات السوسيولوجية المختلفة المرتبطة بحقل الفن، أما كون الفن منتجاً فردياً فهذه مقاربة جمالية لا تعطيها المدرسة السوسيولوجية أي وزن معرفي.

كما يمكن القول إن الفن هو انعكاس للتراتبيات الاجتماعية الثقافية في المجتمع، وقد يبين دنيس كوش كيف يعكس الفن التراتبية الاجتماعية والثقافية؛ فالبرجوازية -مثلاً- تنتج تمثلات عديدة عن نفسها في الأدب والسينما والصحافة.[13]  كما "تميل وجهة النظر السوسيولوجية إلى اعتبار الفن مكبلاً بالسياسة ... بحيث يشير إلى أشكال الصراع والنضال بين الجماعات الاجتماعية المختلفة".[14]  إن طرق تصنيف الفنون في المجتمع هي عاكسة أو معبرة عن الظروف الاجتماعية لمجتمع بعينه، أو مجموعة اجتماعية معينة فيه.[15]  كذلك يرى بيير بورديو أن حيازة الرأسمال الاقتصادي والثقافي يعكس الذائقة الفنية لدى الأفراد، كون الذائقة تشغل تراتبية اجتماعية، حيث تكون في القمة أشكال الفن العالي المتمتع بالمشروعية السلطوية، وفي الأسفل تكون الأشكال الثقافية الدنيا التي تفتقر إلى المشروعية.[16]

لقاء حواري حول تجارب المشاركات في مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية للتعبير عن قضاياهن الشخصية والاجتماعية،
 وذلك بإشراف المدربة بترا البرغوثي، القطّان 2018.

 

كذلك؛ يمكن القول إن المقاربة السوسيولوجية للفن تنطلق من مقولات مركزية، وهي كسر وتفتيت ادّعاء أن الفن هو من أجل الفن، ويتجلى الادّعاء الاجتماعي أن الفن هو حمال للرموز الاجتماعية، والفن حامل للرسائل الاجتماعية، والفن كذلك هو انعكاس للتراتبيات الاجتماعية والثقافية.  ومقاربة السوسيولوجيا للفنان كذلك هي عكس مقاربة علم الجمال [الاستطيقيا]، فعلم الاجتماع يرى الفنان كمنتج جمعي، ويرى أن الفنان هو مرتبط بعوالم الفن التي تقيم العمل الفني، والفنان مرتبط بمؤسسة الفن والبنى الاجتماعية والمتخيلات الاجتماعية والهابتوس، وبذلك ينضج علم الاجتماع مفهوم الفنان الشبكي، ويعبر عن الفن ككتابة ذاتية مجتمعية في آن.  أيضاً؛ الفن والعمل الفني هو سيمياء [علامة] اجتماعية وثقافية مرتبطة بالبنيات الاجتماعية والثقافية للمجتمع.  أما الأعمال الفنية التي أنتجها مشروع المشاركة المجتمعية في مؤسسة عبد المحسن القطان؛ وبخاصة الأعمال المشار إليها كأدوات لهذه الدراسة؛ هي فنون تنتمي إلى المدرسة الفنية السوسيولوجية التي ترى في الفن تعبيراً عن البنيات الاجتماعية، والفنان هو جزء من الواقع وامتداد وانعكاس له، وشارك عدد كبير من أفراد المجتمع في إنتاج العمل الفني، والأعمال الفنية هي أعمال تشاركية؛ أي إنها منتج جمعي يعبر عن بنى اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية في المجتمع الفلسطيني.

 

ثانياً. المرئي واللامرئي: الكاميرا العاكسة وتحرير النظر

يدّعي بول ويليس بأن جماليات الحياة اليومية هي جماليات غير مرئية وتتجاهلها بشكل مقصود ومتعمّد غالبية التحليلات الأكاديمية والنخب الاجتماعية.[17]  ومن هنا تأتي أهمية العمل الفني غير النخبوي في الكشف عن مشاكل المجتمع وهمومه، كون الأعمال الفنية المنتجة من القاعدة، وبالتعاون مع أفراد المجتمع، هو الفن القادر على إبراز الجماليات غير المرئية للمجتمع، وكل التفاصيل غير الجمالية التي تشتبك مع الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي.  ولتوضيح ماهية المرئي واللامرئي يبين جواد الزبيدي أنه في لوحة سيزان القبعة الناعمة في تصوير نفسه أمام المرأة، يخلق صورة شبه الأصل تعكسها المرأة، بذلك يمتلأ المرئي باللامرئي الذي جعله سيزان مرئياً في اللوحة، كما أن المرئي يشمل حقيقة الشيء، أما اللامرئي فهو انعكاس الشيء المرئي.[18]  كما أراد موريس بونتي توجيه القارئ من خلال مثال المرئي واللامرئي إلى مجال لم تسمح له عادات التفكير بالدخول إليه، وأن المفاهيم الفلسفية كالذات والحدث والصورة والموضوع، مواضيع تحتاج إلى تجديد وتأويل لقراءة العالم.[19]  وفي محاولة إجرائية للإفصاح عن المرئي، يرى عباس عبد الغني أن المرئي "هو المحدود ضمن نطاق الرؤية المحددة للمتلقي".  وجادل بأن اللامرئي هو "المخفي الذي يخلق المرئي في ذهن المتلقي ويحفزه على أن يجسده في خياله عبر أيقونات إشارية"،[20] ويضيف عبد العزيز العيادي قوله "إن اللامرئي هو ما يجعل المرئي ناقصاً دوماً وغير مكتمل ونازعاً إلى الانقراض".[21]  وفي العودة إلى موريس بونتي، يبين أن الشيء اللامرئي موجود في مكان ما خلف الأجساد الحية.[22]

عند البحث عن المرئي واللامرئي في مسرحية (خارج السيطرة)، تبدأ المسرحية بلون أسود يغطي المكان، فالمرئي هو السواد ويتخلله على سطح المسرح بعض الضوء المتناثر المنبعث من عدد من الشمعات المضاءة على خشبة المسرح؛ وكأن رسالة المسرح اللامرئية تقول لنا الحكمة المشهورة "أن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام".  وكأن المرئي يقول لنا أن خلف هذا الظلام مكان ما للامرئي المتمثل في النور.  ويتجلى المرئي في المسرحية، في محاولة التركيز على العالم الافتراضي (الشبكي المعولم)، فمجموعة الشباب والشابات على خشبة المسرح منهمكون باستخدام الأجهزة النقالة، ويظهر انحصار التواصل الاجتماعي في وسائل التواصل الاجتماعي المعولم، واللامرئي في هذا المشهد هو التحول المجتمعي العميق وتبدل العلاقات الاجتماعية، وانحصارها في قنوات التواصل الاجتماعية عبر الأجهزة الذكية، وهذا اللامرئي هو قصة وحكاية طويلة لبنية التحولات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الفلسطيني، وانشغال فئة كبيرة من الشباب في ثقافة الاستهلاك الاستعراضي [اقتناء أحدث الأجهزة الذكية]، وهو انعطافه مجتمعية في تحولات البنى الاجتماعية والثقافية والترفيهية؛ فكانت أدوات اللعب والاستمتاع والتحاور والتواصل قبل بضع عقود مختلفة، وتعتمد أدوات أخرى كلعب الأطفال والشباب بالكرة، واستحداث ألعاب من البيئة المحلية كالأحجار والأخشاب ... إلخ.

كما يمكن تأويل موضع التقاط صور "السيلفي" في نمو النزعات الفردية في المجتمع وتكسر وتشوه في العلاقات الاجتماعية والثقافية الجمعية والتحول نحو الفردانية السلبية، وهذا قد يخلق حالة نرجسية لدى جزء كبير من أفراد المجتمع؛ فالتحديق في كاميرا الهاتف مطولاً قد لا يختلف عن تحديق نرجيسيوس بوجهه المنعكس على سطح الماء، وينشغل أفراد المجتمع بالتقاط السيلفي في كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة عن الذات، ويهمل الفرد القضايا المجتمعية الكبرى، فكاميرا السيلفي تصور الفرد ذاته، وتشغله عن التقاط الصورة/القضايا/الأحداث المجتمعية الكبرى التي تحيط به.[23]  وفي حالة استخدام الأجهزة الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، يصبح المرئي القريب والمجاور للفرد غير مرئي؛ بسبب الاغتراب عن المكان الجغرافي-الاجتماعي المحيط بالفرد، ويصبح اللامرئي البعيد عن الفرد بالزمان والمكان مرئياً وقريباً على شاشة الجهاز الذكي، وربما يكون هناك استلاب/اغتراب عن القضايا والهموم والمشاكل القريبة من الفرد في فضائه العام المجتمعي، وينشغل الفرد في القضايا التي تثيرها شبكات التواصل الاجتماعي ونشطائها، ويكون الفرد موجهاً ومسيراً في خياراته وتصوراته وفق البنى الإعلامية والاجتماعية والسياسية التي تصنع الحدث وتروجه، أي أن وسائل التواصل الاجتماعي تمارس عملية التلاعب بالعقول وفق منطق بيير بورديو.[24]

تنشغل مسرحية "خارج السيطرة" في توضيح المشاكل الأسرية والزوجية في المجتمع الفلسطيني من خلال مقاربة مصغرة لمجتمع أريحا.  لقد وضح الأطفال من خلال المسرحية هموم الأسرة الفلسطينية، وانشغالات الأب والأم عن أطفالهم، ومشاكلهم اليومية مع بعضهم البعض، وتم تسليط الضوء على مشاكل الأطفال الناجمة عن مشاكل الأسرة، فإهمال الأب والأم للأطفال أدى بالأطفال إلى الانحراف وتعاطي المخدرات، أو فقدان الفتيات الحنان وشعور الطفولة.  يمكن القول إن الانشغال المركزي للمسرحية هو تبيان طبيعة الحياة اليومية لأسرة داخل المنزل من وجهة نظر الأطفال.

يمكن ملاحظة أن المرئي في مسرحية "خارج السيطرة" هي المشاكل الاجتماعية ومشاكل الأزواج (الأب والأم) داخل البيت، واللامرئي مشكلة المجتمع الكبيرة، والبؤس الاجتماعي- الثقافي- العاطفي الذي تعاني منه الأسرة الفلسطينية.[25]  فالأم الفلسطينية ليس لديها وقت لسماع أبنائها وبناتها (كونها وفق المسرحية منشغلة بالهاتف النقال، ولا تهتم بالأطفال، وتلقي الأوامر على الأطفال لتنظيف المنزل)، ويظهر في مشاهد المسرحية انعدام لغة الحوار والتواصل اللفظي أو التواصل بالعين بين الأم وأطفالها؛ وهذا خلق فجوة بين الأم وأطفالها، وتظهر المسرحية أن هناك إهمالاً للأطفال وعدم متابعة لهم.  كما يبرز المرئي في اللاطفولة أو غياب الطفولة وسلوك الطفولة واللعب، وتحول الأطفال إلى آباء وتحملهم مشاق الحياة مبكراً، وانتشار عمالة الأطفال، واستغلال الأطفال للعمل وفقدانهم شعور الطفولة وحياتها.[26]  في مقابل ذلك؛ يبرز سلوك غير سوي من قبل الوالدين، وبخاصة الأب، يتمثل ذلك السلوك في تخويف البنات وتجهيلهن، وتصوير المستقبل بأنه المجهول لهن، والمستقبل كأنه الدخول إلى بطن الوحش.  يتجلى، أيضاً، المرئي في ظاهرة التدخين وحفلات أولاد المدارس، وتعاطي المخدرات.  أما اللامرئي، فهو شبكة العلاقات السلبية للأطفال، ودور الاحتلال في ترويح المخدرات، وانهيار منظومة القيم التربوية والتوعوية التي كانت تمارسها الأسرة والمدرسة والحزب وأطر اجتماعية أخرى كالنوادي والمجموعات الشبابية، التي كان لها دور تثقيفي وتوعوي، لكنها فقدت ذلك الدور، أو تم كسوف دورها في المرحلة الراهنة.

كما يبرز في فيلم "كان في الخان" المرئي متمثلاً بقلعة خان يونس، والبحر، والشاطئ، والرمال، والعشوائيات، والخراب، والقمامة، والصفيح، والمعاناة، وصناعة ابتسامة الأطفال...  الخ.  لكن يتجلى اللامرئي في غياب المدينة، واندثار الثقافة المدينية وكسوفها خلف منظومة قيم محافظة ترى المدينة حيزاً سكنياً ولا تبصر معنى المدينة الحداثي والتمديني.  كما يمكن الإشارة إلى اللامرئي الفاعل الخفي وهو الاحتلال، ودوره في حصار قطاع غزة لمدة تجاوزت العقد والنصف، وعدم توضيح المشاكل الصحية التي تسببها المياه العادمة في تلويث البحر.  ويمكن القول إن تآكل القلعة هو بالتوازي تآكل المجتمع وفضائه الحضري، وتحول المساكن في خان يونس إلى مساكن من الصفيح كالعشوائيات، مع غياب الحد الأدنى لمستلزمات الحياة.  وهناك لعبة تبادل الأدوار بين اللامرئي والمرئي في الفيلم، فالبحر كمرئي هو نطاق للإبحار بالأحلام والحرية، وهو دلالة لامرئية للمجهول والخوف، في حين يدلل اللامرئي المرتبط بدلالة قلعة خان يونس إلى حضارة كانت هنا في زمن ما، وكانت هذه المنطقة منطقة حياة وحركة، وكانت وظيفة الخان حماية التجار في حركتهم التجارية ما بين بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية، أما المرئي اليومي فهو بقايا القلعة ومجموعة كبيرة من النفايات والمخلفات الإنسانية وغبار الدهر وتراكم النكبات، فمحنة قلعة خان يونس المرئية هي محنة خان يونس وقطاع غزة وغياب المدينة الفلسطينية واندثارها الحداثي.  أيضاً المرئي هو المحنة المتمثلة في الحصار، وفقدان أسباب الحياة، والتحول من البيوت الإسمنتية إلى بيوت الصفيح والعشوائيات التي ترمز إلى الفقر والبؤس واللامستقبل والعوز والقهر الاجتماعي والانهيار الحداثوي للمجتمع.

في معرض "سقف البلد: معرض للرؤية" أصبح اللامرئي في نعلين مرئياً، والمرئي تبين أنه مجموعة من الكليشيهات.  في بداية مشروع المشاركة المجتمعية، طلب من مجموعة من سكان نعلين تعريفها، وكان التعريف أو الصورة المرئية لنعلين أنها مركز تجاري مهم يستقطب الناس من القرى المجاورة، لكن عملية الانخراط بالبحث عن نعلين بطريق الحفر الجنيولوجي بالفنون؛ برز اللامرئي لتصبح نعلين المرئية في اللامرئي اليومي صوراً لخراب مادي ومعنوي.[27]  كما كشفت المجموعة المنخرطة في البرنامج البحثي مسارات رؤية جديدة وإعادة اللامرئي بالرؤية الجديدة إلى الواجهة، فتمت استعادة الذكريات والأحلام والماضي اللامرئي من خلال الألعاب واللعب بالحجارة، وهذه إعادة استكشاف لتاريخ منسي مغمور غير مرئي، شكل في الماضي أحداثاً مرئية وحول الفضاء العام والخاص في نعلين إلى مكان لممارسة الحياة واللعب والمرح.  كذلك هو الباص الصدئ كان لامرئياً في مشطب الخردة، لكنه عند استعادته للواقع والفن، أصبح الباص مرئياً وعابراً للزمن والمكان، ليروي لنا قصص وذكريات أهل نعلين والقرى التسع، وليروي لنا قصة حرب العام 1967، وقصة عودته بعد الحرب، ليكون الباص العائد قبل عودة اللاجئين الفلسطينيين.  في حين تعيد دراجة عائشة قصتها اللامرئية والمبطنة ببنية أبوية ذكورية تمارس المنع والقمع والهيمنة والتسلط على الفتاة، فدراجة عائشة عملت على إعادة تحرير ذاكرة الطفولة من قوالب البنى المجتمعية الذكورية الأبوية، التي تهيمن على السلوك الاجتماعي اتجاه الفتيات في مراحل نضوجهن، وقضية الدراجة هي قضية التحرر والتمرد على البنية الاجتماعية السائدة في بلدة نعلين، ومحاولة فرض واقع من العدالة والمساواة بين الفتيات والشباب في امتلاك أحلامهم في اللعب والمرح.

تحدثت (شروق سرور من بلدة نعلين) عن تجربتها في مشروع المشاركة المجتمعية في بلدتها نعلين، ويمكن استكشاف المرئي واللامرئي من حديثها.  قالت شروق إنها شاركت في اللقاءات منذ البداية في نعلين، وكانت تظن أنها تعرف نعلين جيداً، لكنها، رأت من خلال الفن والمشروع، نعلين بمسارات ورؤية جديدة، غير الرؤية السابقة التي كانت ترى من خلالها نعلين بمسار واحد.  كما بينت شروق أن النقاشات والأسئلة مع الشباب والنساء بقيت مستمرة بعد انتهاء المشروع في نعلين.  وبعد انتهاء مشروع المشاركة المجتمعية بتنظيم مؤسسة عبد المحسن القطان، عملت مجموعة من المشاركين في المشروع، سوق الناطوف [نسبة إلى الحضارة الناطوفية]، وهو مبادرة جاءت في البداية، من "تجمع شباب نحكي عن البلد نعلين ونعمل تجول فيها".  كملنا المبادرة بدون مؤسسة القطان، مع مجموعة شباب من مجتمع نعلين، بدأ التأثير كأثر الفراشة، واستمر التأثير...".[28]

يظهر من حديث شروق سرور أن اللامرئي هو ذاتها وقريتها، والمرئي التي كانت تراه كل يوم في مرأتها عن ذاتها وفي عيونها عن قريتها؛ هي صور مزيفة لذاتها ولقريتها، وكأن الفن أداة بإمكانها إزالة مسحوق التجميل ووضع عدسة مكبرة لترى وتبصر شروق وأهل نعلين جزءاً من الحقيقة والواقع في نعلين.  ويمكن القول إن اللامرئي، أيضاً، برز في مرئي جديد؛ وهو مبادرة غير مرئية من "القطان"، تحولت إلى مبادرة مرئية، وهذا ربما هو أثر الفراشة الذي تحدثت عنه شروق سرور في شهاداتها عن مشاركتها في مشروع المشاركة المجتمعية مع مؤسسة القطان.

يظهر المرئي في معرض "وجوه للأقنعة: معرض للتجربة"، والفيديو التصويري لنحت وجوه بالصلصال، وفيديو الفتيات اللواتي تحدثن عن التصوير الموسوم "هذا وجهي، هذا أنا"، انشغال الفتاة/المرأة بالحياة اليومية من الحب، الزواج، الطلاق، بيت الحماة، طبخ، غسيل، ومدرسة ... إلخ، وهذا المرئي هو انعكاس لبنية مجتمعية غير مرئية تعمل على تشكيل الوجوه والذوات والمسلكيات وفق منطقها ورؤيتها المتراكمة عبر الأزمنة والأمكنة، فالوجوه والخطاب هي انعكاس للامرئي البنيوي الذي تكلس كطبقات الصخور الرسوبية في أعماقنا.  أما المرئي في الفيديو المرتبط بمشروع "امسك الكاميرا"، فيظهر مجموعة من الفتيات اللواتي تعلو على محياهن الابتسامة الخجولة، ويتحدثن عن الكاميرا كأداة للتصوير، والكاميرا هي ليست أداة للتصوير؛ وإنما هي أداة لنقل الحقيقة أو جزء منها وفق منطق محمود درويش الذي قال عن صدق الكاميرا مقابل مكر التاريخ "لم أكن واقعيّاً.  ولكنني لا أُصدِّقُ تاريخَ (إلياذة) العسكريَّ، هُوَ الشِّعْرُ أسطورةٌ خَلَقَتْ واقعاً ... وتساءَلْتُ: لو كانتِ الكاميرا والصحافةُ شاهدًة فوق أسوار طروادةَ الآسيوية، هل كان (هوميرُ) يكتبُ غيرَ الأوديسةِ؟".[29]

تصبح الكاميرا في حالة الفن والتوثيق والإبداع عين ثالثة تخلق علاقة خاصة مع الأبعاد المرئية أو اللامرئية في المجتمع، وتنطق المسكوت عنه من خلال اكتشافه وتجسيده بالصورة والصوت.[30]  وما تم تصويره من قبل الفتيات هو رؤية الفتيات للبلد من منظورهن الشخصي، فقامت الفتيات بتصوير البلد بالطريقة التي يرين بها البلد، ثم العودة من جديد تحول دورهن من ملتقطات للصور أو باحثات بحاسة البصر/العين وعدسة الكاميرا، إلى باحثات بحاسة الذوق/الكلام المنطوق بالفم عن رؤيتهن للبلد ومجتمعهن.  وهذا أدى إلى تفعيل باقي الحواس الأخرى لدى الفتيات والمجتمع (الشم، اللمس، السمع) فالفتيات تحولت صورهن إلى كاشف لمشاكل البلدة، وأصبح بمقدور بقية المجتمع في عنبتا شم ولمس وسماع الصوت القادم من أسفل؛ صوت الفتيات والشباب والنساء في البلدة.  وقد اكتشفت الفتيات ذواتهن ومجتمعهن وكل ما هو حولهن، وكسر المشروع واستخدام الكاميرا حاجز الخوف، وولدت عدسات الكاميرات قصصاً جديدة ووسعت خيال الفتيات، وترك المشروع أثراً على شخصية الفتيات في عنبتا.

في حين؛ تبرز الطفولة اللامرئية في قصة "قمر أربعطش" (شهادة الميلاد) كون اللامرئي هو جريمة تزويج فتاة بعمر 14 عاماً، وتزوير شهادة الميلاد وروح الفتاة، فاللامرئي هو عملية انتحار اجتماعي واغتيال براءة الطفولة، أما المرئي فربما يتم وصفه مجتمعياً تحت باب زواج مبكر، أو بلغة الخطاب التقليدي "سوقها ماشي، حظها عدل"، والحقيقة أن هناك عملية تخلف اجتماعي في الزواج المبكر تصنع إنساناً مهدوراً،[31] يعاني الاغتراب والاستلاب، وتتقطع به سبل الحياة، وتبقى الفتاة تعاني من توقف قطار العمر وتجمد الزمن عند نقطة صفر الزواج.

وما يمكن قوله إن المرئي هو انعكاس للبنية المجتمعية التي أرست قواعدها الممارسات الاجتماعية والثقافية الصحيحة وغير الصحيحة عبر تاريخ طويل من تلك البنى، التي أنتجت لنا وجوهنا وذواتنا الاجتماعية؛ والحقيقة أن وجوهنا المرئية هي ليست وجوهنا؛ إنما هي انعكاس للبنى المجتمعية في وجوهنا وعليها؛ أي إننا نقع رهين البنى التي شبهها لويس ألتوسير بمسرح العرائس، ويصبح الإنسان هو التعبير عن البنى المنتجة له، وهو أسير للخارطة البنيوية.[32]  أما وجوهنا اللامرئية، فهي الكلمات والأشياء التي نحكيها أمام الكاميرا، وفي لحظة الغروب وعند اشتغال ميكنزمات التفكير والنقد والحجاج في عقولنا، وتتجلى في ممارساتنا.  ما يمكن قوله إن وجوهنا هي مشكلة مثل وجوه الصلصال صنعت بماء البنى المجتمعية؛ لتعبر عن ذاتنا بلون ماء تلك البنى وبخصائصه الذاتية؛ أي أن ووجوهنا الظاهرة هي أقنعة للبنى المجتمعية، أما وجوهنا الحقيقة فهي غير مرئية، ونحتاج إلى حفر مجتمعي حتى نراها ونستكشفها وتعبر عنا ونعبر عنها.

 

ثالثاً. البنى المجتمعية في مرآة الفن

تعكس مسرحية (خارج السيطرة) البنية الاجتماعية السياسية الأبوية[33] المتمثلة في شخصية الملك المتسلط الظالم، كما يمكن تأويل سمات الملك البيولوجية، وبخاصة "أذان الملك الكبيرة مثل الحمار" بأنها مجاز أو تورية للأجهزة البوليسية السرية التي يستعين بها الملك أو الحاكم من أجل مراقبة الناس ومعاقبتهم بمنطق ميشيل فوكو،[34] وهذا المجاز المسرحي هو محاولة لإلقاء بعض الضوء على البنية السياسية التسلطية من قبل النخبة الحاكمة في المجتمع.  أما سكوت الحلاق، كما ورد في المسرحية، "من كثر بلع الحكي صار بطنه كبير" هو تعبير عن بنى الكبت والانتفاخ الاجتماعي لدى الناس، وعدم مقدرتهم على التعبير عن آرائهم ومواقفهم السياسية والاجتماعية بحرية، وفي المسرحية محاولة لكسر هذا الإسكات والقمع، من خلال مقاومة الشعب والعامة بطريقة تحايليه يمكن تسميتها المقاومة بالحيلة وفق منطق جيمس سكوت.[35]

 

تركز المسرحية على البنية الأبوية والثقافة الذكورية في المجتمع، وتأثير المشاكل الزوجية على الأطفال وسلوكهم وتربيتهم، فقد اقترحت إحدى البنات في المسرحية "استئجار بيت للمشاكل، أو عمل غرفة معزولة من أجل عدم سماع الأصوات".  إن البنى التسلطية تتمظهر من خلال الأب المتسلط على الأم، والأم المتسلطة على الأبناء والبنات من خلال إهمالهم وعدم الاهتمام بهم، وإجبارهم على القيام بأعمال المنزل.  وتلامس المسرحية المبنى التربوي ودور الأب والأم في التربية؛ والكشف عن أن دور الآباء لا يقتصر على الحاجات الأساسية كالمأكل، وإنما يحتاج الأطفال إلى الاهتمام والسؤال والرعاية والاستماع لهم.

 

كما تبرز المسرحية تعدداً في البنى الأبوية والذكورية في المجتمع الفلسطيني، فهناك البنية الذكورية الأبوية السياسية التي يمثلها الحاكم وأجهزته القمعية التي تمارس أبويتها وذكوريتها على الشعب، وهناك البنية الذكورية الأبوية للزوج الذي يمارس ذكوريته وعنفه وأبويته على زوجته وأطفاله، ويقمع الزوجة ويعنفها ويدخل في صراع يومي معها، وهناك البنية الأبوية الذكورية التي تتقمصها الأم أو الزوجة لتمارس عنفها وذكوريتها على الأطفال وأبنائها؛ بإجبارهم على القيام بأعباء المنزل وهي على الدوام ممسكة بهاتفها الذكي ومنشغلة بالعالم الافتراضي ومهملة العالم الاجتماعي من حولها، ويرتبط سلوك الأم بالتحولات في الدور المجتمعي لها، نتيجة التحولات البنيوية المجتمعية، وأضحت الأم في حالة اغتراب عن دورها، والأبناء يعانون من اغتراب الدور الاجتماعي للأسرة في كونها الحاضنة الاجتماعية والتربوية لهم.  في حين تبرز المسرحية تشوه البنية الذكورية والأبوية في ظل التحولات المجتمعية الفلسطينية، فيعود الأب غير قادر على التربية، ويسلك الأطفال درب المخدرات، وهنا تبرز هشاشة دور الأب التربوي، ويظهر أن البنية الأبوية الذكورية هي بنية عقيمة هدفها ممارسة الهيمنة والقهر والعنف، ويمكن اعتبارها بنية عاقرة اجتماعياً ونفسياً، وعاجزة عن القيام بدورها الاجتماعي والثقافي والمجتمعي بشكل عام.

 

ويكشف لنا معرض "سقف البلد: معرض للرؤية" المبنى الذكوري في المجتمع الفلسطيني، فقصة شروق والدراجة الهوائية هي قصة تحكم وهيمنة وقهر هدفها إعادة إنتاج بنى التخلف والتسلط والهيمنة.  ويكشف المعرض عن البنى المجتمعية المرتبطة بعلاقة تعاقدية من الباطن أو المتعاقدة بمبنى اقتصادي تابع وهش ورقيق بالمشروع الاستعماري ومخلفاته، كالسيارات غير القانونية (المشطوبة) التي تعتبر توابيت موت تتجول في بلدة نعلين، وهي تعبير عن مبنى اجتماعي غير مسؤول يغلب المصلحة الشخصية في توفير سيارة (مشطوبة) يقودها في الغالب الأطفال، وتشكل مصدر تهديد وإزعاج وضرر للمجتمع في نعلين.  ويركز المعرض على إبراز بنى الهيمنة والسيطرة والسلطة المجتمعية المتكدسة فوق روح نعلين، التي تتمثل في شهادة فتاة معلقة على الحائط، وفتاة تقود الدرّاجة على سطح المنزل.  ولا يهمل المعرض بنى النسيان واستعادتها لتصبح بنى ذاكرة حية تتمثل في استرجاع الحياة التي كانت في نعلين وما حولها من قرى، من خلال استعادة روح الحياة للباص وذكرياته.  ويكشف المعرض بعمق عن بنى العلاقات الكولونيالية الاستعمارية التي يمثلها حاجز "معبر" نعلين، من هيمنة وسيطرة وسرقة الأرض، وإهانة العمال على الحاجز ... إلخ، وبذلك تكشف البنى أن نعلين ليست مركزاً تجارياً للقرى المجاورة، وإنما تعاني من محو استعماري وقمع بنيوي وسيطرة بالجدار والحاجز وأدوات السيطرة الإسرائيلية المتعددة الصلبة كالجدار والحاجز وغيرها، أو الأدوات الناعمة كالمخدرات ... وغيرها.

 

في حين يركز المشروع التنويري في عنبتا على الرؤية والتصوير والتشكيل بالصلصال، وعلاقة الأفراد مع الآخر، والصورة والظهور على الشاشة، وفتح باب السؤال والتفكير في الذات، والعلاقة مع الآخر، وهي عملية حفر آركولوجي في طبقات الذات والآخر والمجتمع، فالعدسة والكاميرا هي أداة بحث وتوثيق واستكشاف، وإظهار بزاوية نظر أخرى، ووجهات نظر أخرى، وإعادة النظر مجدداً، واستكشاف اللامرئي في المرئي.  خلق منتوج الفتيات (الفيديو)، حواراً اجتماعياً عميقاً عمل على حكِّ البنية الاجتماعية والثقافية المجتمعية في عنبتا من خلال الكاميرا، والبحث عن البنى التقليدية والأبوية والتابوهات الاجتماعية المتصنعة من خلال التصوير والرصد والتوثيق بالصور.  وكشفت الأعمال الفنية عن هيمنة البنى المجتمعية على حياتنا واحتكارها لذواتنا ووجوهنا وممارساتنا، فالفرد مقيد ببنى قوية شكلته وفق منطقها الخاص، لكن الذوات لها أصواتها ووجوهها وأصواتها التي لا يمكن سماعها مجتمعياً إلا من خلال الحفر والتنقيب.

 

رابعاً. الفن وخطاب المجتمع وانشغالاته

في مشروع المشاركة المجتمعية، تم توظيف الفن كأداة بحث واستكشاف وتنقيب عن المجتمع ومشكلاته وهمومه، تساؤلاته وإجاباته، وانشغل الفن بطريقة ذكية في تحييد المشاكل الصغيرة أو القضايا اليومية النمطية التي يعتبرها عدد كبير من المواطنين في مواقع جغرافية مختلفة بأنها مشكلات تلك القرى والمدن والقرى والبلدات؛ لكن الفن وأدواته المتعددة استطاع التقاط المشكلات والتساؤلات والهموم من خلال طرق الرؤية الجديدة، فالفن كون عدسة محدبة استطاعت تكبير المسكوت عنه والمكبوت واللامرئي؛ وجعلته مرئياً وظاهراً، وبإمكان الشباب والفتيات والنساء والطبقات المجتمعية المهمشة رؤيته، بعيداً عن الكليشيهات والصور النمطية والأحكام المسبقة والتعميمات السائدة.

 

يمكن الحديث عن جملة من الانشغالات والهموم التي خيمت على الخطاب المجتمعي الفلسطيني في عدد من المواقع الجغرافية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي التقطتها الأعمال الفنية المدروسة، ويمكن القول إن تلك الخطابات هي: خطاب أو هي هشاشة الدور التربوي والاجتماعي للأسرة الفلسطينية، وبخاصة الوالدين، وعيش الأسرة الفلسطينية في حالة صراع بين الزوج والزوجة، والزوجة مع الأبناء؛ انتشار مشكلات اجتماعية خطيرة في المجتمع الفلسطيني وتحولها إلى ظواهر سلبية، تتمثل في رفاق السوء، والإدمان على المخدرات، وقيادة السيارات غير القانونية؛ كما برزت مشاكل النفايات الصلبة والسائلة التي تهيمن على الحياة وتخنقها في خان يونس؛ وغياب المدينة الفلسطينية واندثارها تحت انقاض خطابات محافظة وتقليدية أبوية وذكورية، وتحول المورفولوجيا الاجتماعية في عدد من الأماكن إلى عشوائيات ونفايات وجدران وهياكل تحت الشرط الاستعماري.

 

كما يبرز في الأعمال الفنية خطابان اجتماعيان؛ خطاب تقليدي محافظ يتشبث بمعانٍ تقليدية تمارس الهيمنة والسيطرة على الفتيات والأطفال وتنشغل بالكليشيهات والاستهلاك الاستعراضي والترنيمات الاجتماعية البالية، وخطاب اجتماعي تحرري جنيني وصغير يحاول إعادة اكتشاف الحياة والمجتمع والذاكرة والممكن والمحتمل والمأمول، لكنه يعاني من هشاشة بنيوية مركبة تتحكم بها سلطة أبوية تقليدية وسلطة استعمارية، خلقت الحاجز "المعبر" وحولت فئة كبيرة من الأطفال والمواطنين إلى عمال وباعة عند الحاجز، وعززت البنية الاستعمارية العلاقات الكولونيالية الاقتصادية، وحولت القرى الحدودية إلى حدائق خلفية للمستعمِرين.

 

كما تسرد الأعمال الفنية خطاب المكان والزمان، فيتم توضيح موقعيه القرية أو المدينة أو البلدة الحالية؛ سواء تحت الشرط الاستعماري الإسرائيلي المتمثل في الحصار أو الحاجز والجدران، أو تحت وطأة البنى المجتمعية التقليدية الرافضة للتحديث والتطور الثقافي والحضاري.  كما تتم العودة بالمكان إلى الزمن الجميل وتسرد ذكريات وتعقد المقارنات بين ما كان في الماضي وما أصبح في الحاضر.  ويظهر بلا وجل في الأعمال الفنية خطاب شبابي وأصوات جديدة تتمرد على البنى التقليدية المتكلسة، وتنشغل تلك الخطابات الجديدة بتوثيق ذاكرة المكان، وإعادة إحياء النشاط الثقافي والاجتماعي في الجغرافيات الفلسطينية المتعددة، وهناك خطاب مبادر يسعى إلى صناعة الجديد والتغيير وإزالة الغبار عن العقلية المتحجرة التي تعيش في كهف الماضي.  كما يمكن القول إن الانشغال الأساسي للخطاب والهم الفلسطيني هو، بالأساس، مرتبط بالهموم الاجتماعية والاقتصادية والتربوية التي يعانيها المجتمع الفلسطيني جراء فقدانه كل مقومات الحياة بمعناها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ولا يغيب عن الخطاب والهم، الشأن العام، لكن الشأن العام أو القضايا السياسية الكبرى هي ليست مشاكل المواطنين المباشرة بعد تحديقهم بدقة في ذواتهم ومشاكلهم، فقد اكتشفوا أن خطابهم رهين بنى مارست سطوتها وسلطتها على المجتمع وأفراده، وسلبتهم حريتهم ورؤيتهم وخطابهم ومفرداتهم؛ ليكشف لهم الفن طرق الرؤية الصحيحة وخارطة اهتماماتهم وحياتهم ومطالبهم وتصوراتهم عن الذات والآخر.

 

*باحث في الدراسات العربية والإسرائيلية-فلسطين

 

 

الهوامش:

 

[1] مؤسسة عبد المحسن القطان.  "مسرحية خارج السيطرة".  إشراف عام مالك الريماوي.

[2] مؤسسة عبد المحسن القطان.  "فيلم كان في الخان". إشراف عام مالك الريماوي.

[3] مؤسسة عبد المحسن القطان.  "معرض سقف البلد: معرض للرؤية".

[4] مؤسسة عبد المحسن القطان.  "معرض وجوه للأقنعة: معرض للتجربة".

[5] أوستن هارينغتون.  الفن والنظرية الاجتماعية: نقاشات سوسيولوجية في فلسفة الجماليات.  ترجمة: حيدر حاج إسماعيل. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2014، ص 69.  للمزيد حول نشوء حقل سوسيولوجيا الفن يُنظر: نتالي إينينك.  سوسيولوجيا الفن.  ترجمة: حسين جواد قبيسي.  مراجعة: فواز الحسامي.  بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2011.  وبيير بورديو.  قواعد الفن.  ترجمة: إبراهيم فتحي.  القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2013.  جانيت وولف.  علم الجمالية وعلم اجتماع الفن.  ترجمة: ماري تريز عبد المسيح وخالد حسن.  القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2000.  خليل قويعة.  العمل الفني وتحولاته بين النظر والنظرية (محاولة في إنشائية النظر).  بيروت: المركز العربي لأبحاث ودراسة السياسات، 2019.

[6] جانيت ولف.  علم الجمالية وعلم اجتماع الفن. ترجمة: ماري تريز عبد المسيح وخالد حسن.  القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2000، ص 18.

[7] كريمة محمد بشيوة.  "النظريات المفسرة للإبداع الفني"، مجلة الجامعة. عدد 15، مجلد 2، 2013، ص 92.

[8] أوستن هارينغتون. مصدر سابق: 16

[9] ديفيد إنجلز. "التفكير في الفن سوسيولوجيًا". ديفيد إنجلز وجون هغسون (محرران). سوسيولجيا الفن: طرق للرؤية. ترجمة ليلى الموسوي. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. 2007: 32-33

[10] حنان محمد أحمد. الابستمولوجيا المعاصرة: وبنائية فنون ما بعد الحداثة. البصرة، الجزائر، بيروت: مكتبة الفنون والآداب للطباعة والنشر والتوزيع، منشورات الاختلاف، منشورات ضفاف. 2014: 240.

[11] كريمة بشيدة. مصدر سابق: 88-90.

[12] أوستن هارينغتون. مصدر سابق. 45.

[13] دنيس كوش. مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية. ترجمة منير السعيداني. بيروت: المنظمة العربية للترجمة. 2007: 140.

[14] ديفيد إنجلز. مصدر سابق: 33.

[15] المصدر السابق: 36.

[16] أوستن هارينغتون، مصدر سابق، ص 172.

[17] بول ويليس.  "الجماليات غير المرئية والعلم الاجتماعي لتسليع الفن".  في: ديفيد إنجلز وجون هغسون (محرران).  سوسيولجيا الفن: طرق للرؤية.  ترجمة: ليلى الموسوي، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2007، ص 152.

[18] جواد الزيدي.  فيمنولوجيا الخطاب البصري: مدخل لظاهرية الرسم الحديث.  دمشق: دار الينابيع. 2001، ص 187-189.

[19] موريس. بونتي.  المرئي واللامرئي.  ترجمة وتقديم: عبد العزيز العيادي.  بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008، ص 429.

[20] عباس علي عبد الغني.  "المرئي واللامرئي في العرض المسرحي".  مجلة فنون البصرة.  عدد 14، 2017، ص 60-61.

[21] عبد العزيز العيادي.  (مقدمة المترجم) في: مورس مرلو- بونتي.  المرئي واللامرئي.  ترجمة وتقديم: عبد العزيز العيادي، مراجعة: ناجي العلوني، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008: ص: 24-25.

[22] مورس مرلو- بونتي.  المرئي واللامرئي.  ترجمة وتقديم: عبد العزيز العيادي.  مراجعة: ناجي العلوني.  بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008، ص: 73.

[23] من خلال ملاحظة الباحث في عدد من الجامعات في الضفة الغربية، هناك انشغال كبير في التقاط صور السيلفي، وبشكل خاص لدى طلبة الجامعات، وهذا له علاقة ربما بثقافة التسليع، ونمو قيم الفردية، والانشغال بثقافة العولمة، ونشر الصور على شبكات التواصل الاجتماعي كفيسبوك، وتويتر، وإنستغرام ... إلخ؛ وتحول الإعجاب والمحبة والغضب إلى رموز وشعارات إلكترونية مصممة وفق الثقافة المركزوية الغربية.  للمزيد، يُنظر إلى: إلزا غودار.  أنا أُوسِيلفي إذن أنا موجود: تحولات للأنا في العصر الافتراضي.  ترجمة: سعيد بنكراد. الدار البيضاء: المركز الثقافي للكتاب، 2019.

[24] يُنظر إلى: بير بورديو.  التلفاز وآليات التلاعب بالعقول.  ترجمة: درويش الحلوجي. دمشق: دار كنعان، 2004.

[25] بلغ عدد وقوع حالات الطلاق في فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة) في المحاكم الشرعية في العام 2017، 8568 واقعة طلاق.  الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.  كتاب فلسطين الإحصائي السنوي 2017.  رام الله: الجهاز المركزي لإحصاء الفلسطيني، ص 62.

[26] بلغت نسبت عمالة الأطفال من 10-17 سنة 3.4% من الأطفال في فلسطين، بواقع 6.6% للذكور، مقابل 0.1% للإناث في العام 2017.  المصدر السابق، ص 81.

[27] مالك الريماوي.  "سقف البلد: معرض للرؤية، النظرة التي تصغي النظرة التي تتكلم".  سقف البلد: معرض للرؤية.  رام الله: مؤسسة عبد المحسن القطان. د.ت: ص 5.

[28] مجموعة بؤرية، مؤسسة عبد المحسن القطان، 11/11/2019.

[29] محمود درويش.  لا تعتذر عما فعلت.  بيروت: رياض الريس، 2004، 135-136.

[30] للمزيد حول فلسفة الصورة واعتبار الصورة مشكلة فلسفية في تشكيل ما هو بصري، يُنظر إلى: عبد العالي معزوز.  فلسفة الصورة: الصورة بين الفن والتواصل.  الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2014.  ومراجعة الكتاب، أحمد عز الدين أسعد. "مراجعة كتاب: فلسفة الصورة: الصورة بين الفن والتواصل".  المستقبل العربي، 456 شباط/فبراير 2017.

[31] ينظر إلى: مصطفى حجازي.  التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المهدور.  الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2007.

[32] إيان كرب.  النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس.  ترجمة: محمد حسين غلوم.  الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1999، 207.

[33] يُنظر إلى: هشام شرابي. النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي.  ترجمة: محمود شريح. ط 4. بيروت: دار نلسن، 2000.

[34] يُنظر إلى: ميشيل فوكو.  المراقبة والمعاقبة ولادة السجن.  ترجمة: علي مقلد، مراجعة: وتقديم مطاع الصفدي. بيروت: مركز الأنماء القومي، 1990.

[35] يُنظر إلى: جيمس سكوت.  المقاومة بالحيلة أو كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم.  ترجمة: إبراهيم العريس ومخائيل جورج، بيروت: دار الساقي، 1995.