المسرح أداة للفهم ومنصّة للمعايشة

الرئيسية المسرح أداة للفهم ومنصّة للمعايشة

فيفيان طنوس*

تدريبات  مسرحية "افتح الحقيبة"  في أريحا بتنظيم من مشروع "الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعيّة" الذي تنفذه مؤسسة عبد المحسن القطان، بالشراكة مع الوكالة السويسرية للتعاون والتنمية (SDC).

 

مقدّمة

كان وما زال المسرح أحد أشكال الفنون الأولى التي استخدمها الإنسان قديماً في التعبير عنه وعن مجتمعه، فقد استخدم المسرح في البدايات للتعبير عن التوق الديني وارتبط بطقوسه، كما كان يحدث في بلاد الإغريق، إلى أن تحول، مع تقدم الزمن والتغييرات التي كانت تطرأ عليه، إلى منصة تؤدي وظيفة اجتماعية وسياسية، تهدف إلى فهم ما يحدث ضمن سياق مجتمعي ما، وكشف العلاقة بين الذات وذلك المجتمع، لتشكيل بحث مشترك عميق حول أسئلة كبيرة تطرح ضمن تمثيلات تجسيدية مختلفة، تحقق اليقظة الجماعية اتجاهها.

 

مع تعدد وتنوع أشكال المسارح وموضوعاتها عبر الزمن، عمل كل مجتمع على اختيار شكل المسرح الذي يمثله، ونوعية القضايا التي تطرح على خشبته، وكان من أبرز هذه المسارح هو مسرح المجتمع المحلي الذي يعرّفه بيتر بيلينجهام بأنه ذلك "المسرح الذي ينبع من مجتمعه وفيه وبه ومن أجله".  ويضيف أنه "أقرب الأنواع المسرحية إلى نسيج الحياة الاجتماعية"، ما يعني أنه أداة تدخل مجتمعية مقبولة من قبل الجماعة ذاتها؛ أداة تسعى إلى تحقيق الفهم بين أفرادها، فهم يبدأ من الذات والدور الذي تقوم به وعلاقتها بالآخر وتأثره بها وتأثيرها عليه، إلى أن أصبح فهماً للبنية المجتمعية التي تشكل تلك الجماعة.

 

انطلاقاً من أهمية هذا الشكل من المسارح وعلاقته بالبنى والقضايا المجتمعية، إضافة إلى اهتمام مجموعة من الشباب الذين تم العمل معهم على مدار سنة ونصف في مدينة أريحا، ضمن مشروع شراكة بين برنامج البحث والتطوير التربوي في مؤسسة عبد المحسن القطان والوكالة السويسرية، الذي كان بعنوان "الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية" في المسرح، فقد تم اختياره كمنصة يحمّلها هؤلاء الشباب قضاياهم وقضايا مجتمعهم التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من حيواتهم وهمومهم، وتأخذ حيزاً كبيراً من انشغالهم.

 

ويقوم المشروع، الذي استمر العمل فيه ولأجله والذي امتد لسنتين، بشكل أساسي، على البحث في القضايا المجتمعية التي يعايشها مجتمع معين ويعاني منها، وهنا في هذا السياق نتحدث عن مجتمع أريحا بالتحديد، مستخدمين في ذلك منهجيات مختلفة في التوصل لهذه القضايا، وحشد الرأي العام حولها وجمع البيانات عنها، كالمقابلات والزيارات الميدانية واللقاءات الجماعية وورشات العمل التفاعلية التي نظمت مع شرائح مختلفة من ذلك المجتمع، تم التعبير عنها بطرق مختلفة فنياً وبحثياً، بهدف تسليط الضوء عليها وحث مؤسسات الحكم المحلي والجهات المسؤولة في ذلك المجتمع على التنبه لها ومحاولة البحث عن حلول تساعد في التخفيف منها أو حلها بشكل جذري إن أمكن.

 

رحلة العمل انكشاف وتكشف

في بداية العمل في المشروع، وككل مشروع آخر، تكون الأهداف المتوقع تحقيقها فيه واضحة، لكن رحلة تحققها، وشكل المخرج المتوقع عنها غير مكتملي المعالم، لاعتمادهم بشكل كبير على تفاعل المشاركين واهتماماتهم وحاجاتهم، فهنا كانت نقطة الانطلاق، مع شريحة منوعة من أفراد ذلك المجتمع الذين، مع مرور الوقت، تشكلت بيننا وبينهم علاقة شراكة في الفكرة والهدف والمنظور.

 

في سياق العمل، ترتبت مجموعة من اللقاءات، يجري بداخلها العديد من الحوارات مع مجموعات مختلفة من المجتمع المحلي، نساء عاملات وأخريات ربات بيوت، لقاءات أخرى مع شباب من الجنسين، بعضهم ما زال طالباً في الجامعة، والبعض الآخر عامل أو موظف، والمجموعة الثالثة هم أطفال ما زالوا طلاباً في المدراس.  لقاءات جعلتنا نرى أريحا كما لم نرها من قبل، أريحا في عيون نسائها وفي أحلام شبابها.

 

أذكر جيداً اللقاء الأول الذي كان معداً للنساء، حيث طرحن فيه القضايا التي شغلت تفكيرهن؛ كالزواج المبكر، والبطالة، وعمالة النساء في المستوطنات، وتلوث المكان ... إضافة إلى عدم شعورهن بالأمان، وبخاصة المتعلق بسلامة أطفالهن وشبابهن، وذلك بسبب كثرة الغرباء الذين يملأون البلد، فيتسببون في أزمات السير، وتلوث الفضاء بالضجيج والروائح المختلفة، التي عبروا عنها بقولهم "روائح الأطعمة المختلفة التي ملأت سماء أريحا، وغطت على روائح الحمضيات التي اشتهرت بها لفترة طويلة من الزمن، وبدأنا نفتقدها في أيامنا هذه".

 

كما ما زلت أستذكر جيداً ما تركه هذا اللقاء من سعادة عند تلك النسوة اللواتي عبرن عنها بقولهن: "لم يسألنا أحد من قبل عن آرائنا ببعض الأمور التي نعيشها، ولم يهتم أحد بمعرفة قضايانا الحياتية التي نعاني منها، ولا عن طريقة تفكيرنا بها".  شكلت هذه العبارات لنا دفعة للعمل معهن لمساعدتهن في تشكيل فهم أعمق لأدوارهن ومجتمعهن، حيث استمرت اللقاءات بهن، واستمر الحوار والطرح للقضايا التي عبرن عنها بتمثلات مختلفة كالرسم، وتجسيد الأدوار، والاستقصاء، والحوار، والتصوير ... فاستندنا على الكثير من قصصهن وقضاياهن في الإنتاج المسرحي الذي آمنوا به، ودعموه بطرق عدة، حيث حضرن معظم تدريباته وكُن على اطلاع كامل بكل حيثياته.

 

أما القضايا التي شغلت تفكير شباب أريحا فتنوعت بين ضآلة فرص العمل، وتدني الأجور، ومحدودية التخصصات الدراسية والعملية في بلدهم، لكن خصوصيتهم تمركزت في إشغال فرص العمل من قبل شباب من خارج البلد، وبخاصة الوظائف الحكومية كحقلي التمريض والتعليم والعمالة في المستوطنات الإسرائيلية، واعتماد مشاريعهم، بشكل مباشر، على الدعم الخارجي، ما يجعل من استمرارية العمل ببعض الموضوعات المهمة لشباب البلد محصورة بذلك الدعم وتنتهي بانتهائه، إضافة إلى سريان القانون، وبخاصة قانون السير، على سكان البلد، واستثناء الغرباء منه.  جمع الشباب بين قضايا النساء وقضاياهم، فككوها وبحثوا فيها وطرحوها للحوار بهدف فهمها وفهم دورهم فيها بشكل أعمق، مستخدمين في ذلك مشاهد مسرحية قاموا ببنائها معاً، وعرضها على بعضهم البعض.

 

المجموعة الثالثة كانت مع طلاب مدارس تحدثوا عن مشاكل عكست ما يحدث في المجتمع المدرسي، الذي يشكل صورة ليست ببعيدة عن المجتمع الخارجي، لكنه يتناسب مع اهتمامات مرحلتهم العمرية، كالتعدي على الآخرين، وتلوث البيئة، وانعدام ثقافة المحافظة على نظافة المكان والممتلكات العامة ... وقد عبروا عن هذه القضايا من خلال استخدام منهجيات فنية مختلفة كالدراما في التعليم، والتصوير، مستخدمين في ذلك عدسات كاميراتهم في التقاط صور لوقائع حقيقية.

 

استمرت هذه العملية البحثية ضمن لقاءات متسلسلة مدة سنة، تم خلالها تناول طرق وأدوات مختلفة في البحث وجمع البيانات، أدوات غير تقليدية، اعتمدنا فيها، بشكل أساسي، على المسرح، فكان المسرح هو أداة البحث، ومنصته هي مكان لعرض نتائج ذلك البحث عبر عملية بحثية بنائية مستمرة، بدأت واستمرت على شكل حلقة بحثية تجريبية تشاركية، عمل خلالها طلاب المسرح على تناول كل المواد التي جمعوها هم والآخرون، كالصور مثلاً، حيث قاموا بعمل قراءة في القضايا التي أظهرتها الصور كما التقطتها عيون زملائهم، ثم حولوها إلى مشاهد حية أضافت الكثير إلى الصور السابقة، ثم تناولوا القصص التي جمعت من قبل النساء والقضايا التي طرحها الشباب الجامعيين، وحولوا جميعها إلى نصوص مسرحية وأدوار تمثيلية، عرضوها ليس على بعضهم البعض فقط، بل على المجموعات الثلاث الأخرى التي كانت لديها تدخلات مختلفة فيها، وإضافات استدخلت على نصوص المسرحية ومشاهدها.

 

إن ما نتج عن رحلة العمل هذه هو حقيبة ممتلئة بقضايا اجتماعية تتضمن هموم النساء اتجاه أبنائهن، وأسئلة طلاب المدارس، وأمنيات الشباب الجامعيين ضمن تصوراتهم لمجتمع أفضل، يكون لهم دور كبير فيه، يحفزهم بالتمسك أكثر به والإيمان بأهمية دورهم وسعيهم الحثيث نحو تغييره للأفضل.  قضايا تشكل اتجاهها فهم جديد ومشترك من قبل كل المشاركين، هذا الفهم الذي عبر عنه جاردنر بقوله: "إن الاكتساب الحقيقي للمعرفة هو عملية لا تتطلب المعرفة الفعلية فحسب، وإنما تتطلب أيضاً الفهم"،[1] موضحاً أن عملية بناء الفهم المشترك تشكل فرصة للمشاركين لطرح معرفتهم وبناء فهم عميق للمواقف الواقعية المتناظرة، ومساعدتهم في تبيّن مواقع التضاد أو التناغم بينها، وتبني هويات أخرى داخل السياق المشترك.

تحضيرات افتتاح مسرحية " افتح الحقيبة".
 

المسرح أداة للبحث

إن اللقاءات الحوارية وما تكشف عنها من قضايا لم تكن مجرد ذخر معرفي لنا كمشاركين نعمل مع هذا المجتمع ونراه من الخارج، بل شكلت وتشكلت على شكل قصة؛ قصة مجتمع أريحا وقصتنا فيه؛ ذلك المجتمع الذي يشير إليه آموس هاولي "بأنه أكثر من مجرد تنظيم لعلاقات التكافل بين الأفراد، وأن الحياة الجمعية تشتمل على قدر من التكامل النفسي والأخلاقي إلى جانب التكامل التكافلي أو المعيشي"،[2] ما يعني أن اللقاءات قد وضحت ليس فقط القضايا التي يتناولها ذلك المجتمع في حواراته اليومية، بل، أيضاً، مدى ارتباط أفراده ببعضهم البعض، حيث تكاملوا معاً في الطرح والعمل والهم والتعب، وتكافلوا في الرؤيا وبناء الأفكار التي شكلت فيما بعد نصاً يحكي القصة بأكملها، وأدواراً تجسيدية تمثل شخصيات حقيقية لها تاريخ ارتبط بالمكان، وأصبح هذا المكان جزءاً منها ومن وجودها ومستقبلها، وفي أثناء لعب القصة مسرحياً (تدريباً وبناءً وإخراجاً)، رأينا أريحا كقصة حية في أداء أبنائها، ورأونا كجزء منهم لأننا أصبحنا جزءاً من قصتهم.

 

التقطت المجموعة التي عملنا معها جميع هذه القضايا ووضعوها على خشبة المسرح لتكون منصتهم، حيث شكلت مكمن قوتهم وأداتهم الذي يبرعون فيها، فلم تكن هذه التجربة المسرحية الأولى التي يخوضها هؤلاء الطلاب، فبعض منهم قد شارك في أكثر من عمل مسرحي على مستوى البلد، وبعضهم الآخر شارك على مضض أنه لن يستطيع المتابعة، لكنه ينوي خوض التجربة ظناً منه أن قدراته محدودة، بعدما تم رفضه عندما حاول أن يشارك واحدة من المجموعات المسرحية سابقاً، وهذا ما عبر عنه (عزام) أحد الطلاب المشاركين في المسرحية قائلاً: كنت أشاهد زملائي معكم في اللقاءات وأقول في نفسي إنني أستطيع أن ألعب أدواراً مثلهم، لكن لم تُعطَ لي الفرصة، معكم وجدت هذه الفرصة، وحققت ما تمنيت، حتى أنني تغيرت كثيراً بعد هذه التجربة، صرت أكثر ثقة بذاتي، ويمكنني أن أواجه الآخرين، وأعبر عن رأيي بسهولة أكثر من السابق".  والبعض الآخر كان ينوي فقط تقديم المساعدة عبر توثيق اللقاءات بالتصوير أو المساعدة بالديكور كما حدث مع الطالب (كريم) الذي استرجع تلك اللحظات قائلاً: "عندما بدأت معكم كنت أوثق اللقاءات عبر التصوير الفوتوغرافي، لكن لم يكن حبي للتصوير هو الدافع وراء حضوري للقاءات، بل شغفي بالمسرح الذي شكل خجلي وعدم جرأتي حاجزاً بيني وبينه، إلى أن قررت كسر هذا الحاجز عندما دعاني أحدكم إلى تجريب أحد الأدوار، فاندفعت مسرعاً تاركاً خجلي خلفي، ماضياً نحو شغفي، فأخذت الدور والتزمت بحضور كل اللقاءات، وها أنا اليوم أعتبر نفسي شخصاً آخر بفضل هذه التجربة، فلم يعد الخجل يقف عائقاً أمامي".

 

رحلة التدريب والتحضير للعرض المسرحي جعلت من جميع المشاركين منخرطين فيها، يعملون كفريق واحد، يتشاركون التجربة من بدايتها حتى نهايتها، فلم يكن هناك من أدى دوراً وآخر متفرج، بل جميعهم شكلوا جسداً واحداً، تماهت فيه كل الأدوار لأجل دور واحد هو نحن جميعاً على خشبة واحدة، نبحث لنفهم، ونعرض لنسمع، ونحتج، إنه حلمنا الواحد وهمنا الواحد.

 

نعيش القضايا ذاتها ونحلم معا بآلية لحلها أو لتطوير الوعي اتجاهها.  استمرت هذه الرحلة فترة طويلة، حدث خلالها الكثير، نتج عنها مجموعة مسرحية واحدة، لديها التزام عالٍ اتجاه المشروع، لأنهم شعروا بمسؤولية وجدية كبيرة في العمل معهم، فالموضوعات التي طرحتها المسرحية هي من واقعهم، وهم من قاموا بالبحث عنها وفيها، وأخيراً هم من سيقومون بتجسيدها أمام جمهور هو جزء منها أيضاً ومشارك فيها من أول لقاء حتى ما بعد العرض المسرحي.  فالعمل المسرحي لم يكن كأي عمل مسرحي آخر، حيث لم تكن مسرحية تتناول موضوعاً يعرض على خشبة المسرح أمام متلقٍّ يستمتع بالعرض، وما أن تسدل الستارة حتى ينتهي كل شيء، بل هي مسرحية قدمت خبرة معاشة حية، وواقعاً ثقافياً مرتبطاً بشكل كامل بالحياة الواقعية التي تحدث الآن وهنا، ومع المؤدين والجمهور في آن واحد.  فبعض المعارف الثقافية لا يمكن التعبير عنها بشكل خطي أو بياني، بل تحتاج كما يصفها العالم الأنثروبولوجي (ج. فابيان) بأنها "فعل، معايشة، وعرض"، وهذا ما سعينا إلى تحقيقه من خلال العمل في هذا المشروع، حيث شكل المسرح أهم أدواته.

 

المسرح أداة للفهم

في بداية اللقاءات مع مجموعة الطلاب الذين يعملون بالمسرح، تبين لنا أنهم لا ينتمون إلى المجموعة المسرحية الواحدة نفسها، بل لمجموعتين أو أكثر، يتنافسون فيما بينهم، لكل مجموعة توجهها الخاص في اختيار موضوعاتها المسرحية.

 

كانت اللقاءات الأولى مع هذه المجموعة مهمة لفهم من هم، والطريقة التي يفكرون بها، وقد عبروا عنها بداية بالحوار المتبادل بيننا وبينهم من جهة، وفيما بينهم من جهة أخرى، فتبين لنا جميعا أن القضايا التي طرحوها قد لاقت إجماعاً كبيراً، فانتقلنا خطوة أبعد في تشكيل المجموعة، وتكوين فهم أكثر وضوحاً لما قاموا بطرحه، حيث عملوا ضمن مجموعات، وقامت كل مجموعة باختيار واحدة من القضايا التي طرحت والتعبير عنها بمشهد مسرحي تتم مشاهدته وتفكيكه بغية فهمه، وفهم ما فيه من أبعاد ومسؤوليات وممكنات لتجاوزه.

 

استمرت هذه اللقاءات مع هذه المجموعة، التي كان يضاف لها فرداً أو اثنين في كل لقاء، وتم العمل على إثراء مهاراتهم في المجال المسرحي، وتمكينهم من تقنياته بشكل أكبر، حتى استحوذت التجربة عليهم فكانوا يتدربون حتى أثناء غيابنا عنهم، عبرت عن ذلك الطالبة (يمامة) إحدى المشاركات في المسرحية بقولها، "أقضي وقت فراغي بإعادة التمارين والتدرب على النص المسرحي أينما أكون".

 

مع تتابع اللقاءات، تشكلت لدينا مجموعة كبيرة من النصوص المكتوبة التي جمعها الطلاب من مجتمعهم، نصوص تحولت إلى مشاهد مسرحية تم عرضها لمجموعات مختلفة من أجل الفهم، وتحويل هذا الفهم الجديد إلى لوحات للعرض يقف أمامها الجمهور في فترة مستقطعة من الحياة، ليعيد رؤيتها بشكل أعمق في عيون أطفاله، فتجعله يشعر بمسؤولية أكبر اتجاه ذاته وأبنائه، وأصبح المسرح هو المكان الذي عمل مع المجتمع ولأجله، مسرح مبني من نسيج الحياة الاجتماعية، حيث شكل أداة تدخل مجتمعية مقبولة من قبل الجماعة ذاتها، يطرح القضايا ويناقشها ويكشف عن المسكوت فيها أو المخفي منها، ليحقق الدور الذي وصفه بيلينجهام بقوله أنه "ذلك الذي يناقش ويفضح ويعكس القضايا القابعة في المجتمع المحلي الموجه له العرض المسرحي، سواء بهدف إيقاظ الوعي، والتعليم، والترفيه، والتنمية البشرية، وإثراء الروح المجتمعية، وتربية وتطوير ذائقة فنية وتطويرها".[3]

 

وهذا فعلاً ما حققه المسرح وعبر عنه الطلاب عند لقائنا بهم بعد العرض، حيث أستذكر ما قاله الطالب (تامر) المشارك في المشروع: "لم أعد أنظر إلى المسرح على أنه مكان لعرض مسرحي فني جميل، بل هو ذلك المكان الذي يمكنك أن تضع عليه كل ما يؤرقك من قضايا بقصد تكوين فهم أعمق لها، ما يشكل فهماً لا ينتهي بانتهاء العرض المسرحي، بل يصبح أداة تجعلك تفهم وترى ما يدور حولك بشكل أوضح، فأنا صرت أتنبه لكل قضية جديدة تطرأ في مجتمعي، فأحاورها مع آخرين، وأفكر فيها كما لو كانت نصاً جديداً لمسرحية سأقوم بعرضها لآخرين".

 

المسرح أداة معايشة

شكّل المسرح في هذه التجربة أداة معايشة ومنطقة آمنة للمشاركين، تمكنوا من خلاله من تجربة كل ما لديهم، واسترجعوا الكثير من المواقف والأحداث وأعادوا طرحها بأشكال مختلفة، ما أتاح لهم فرصة التفكير بها ومناقشتها في ضوء المنظورات المختلفة، والتعديل عليها، وإعادة تجريبها مراراً في ضوء التغييرات الجديدة التي أجروها.  فأصبح المسرح هو أداة مكنتهم من جلب العالم إلى الخشبة، لتجسيده عليها ورؤيته بشكل أدق، ومعايشته كما لو أنه يحدث الآن فيتأملونه بعيون جديدة، ويبنون معانيَ ومواقفَ أكثر وعياً اتجاهه.

 

فالقضايا التي عايشها الطلاب عبر المسرح، مرت عبر مرحلة الاستقصاء؛ هذه المرحلة التي تحدث ضمن عملية تحقيق نشطة، يحدث فيها البناء الاجتماعي المشترك، حيث تم استكشاف القضايا بشكل معمق، ومن كل الجوانب، وفحصها وتقييمها من قبل كل فرد في الجماعة.  فأتيح للجميع فرصة معايشتها عبر استخدام الخيال واستحضارها إلى المسرح كما لو أنها تحدث الآن، وطرح تساؤلات كثيرة عن الدوافع والخيارات والمسؤوليات والأدوار المرتبطة بها، وآليات خطابها والحلول المقترحة في حلها.

 

إن معايشة القضايا على المسرح لا تعني التمثيل ولعب الأدوار فقط، بل تهدف بشكل كبير إلى الخوض في عملية الاستكشاف للأبعاد الثقافية والاجتماعية لكل ما هو مطروح، وذلك بهدف تنمية معرفة الطلاب اتجاه الموضوعات والقضايا المطروحة واستيعابها ورفع مستوى قدرتهم على التفكير بها لأنفسهم.  فالقضايا الآن في المركز ومحملة بمنظورات مختلفة، لكنها تسير باتجاه هدف واحد.

 

فالمعايشة تساعد الشخص على أن يخوض غمار التجربة قبل أن تحدث معه فعلياً، بالتالي يتشكل لديه وعي أكبر اتجاهها وفي طريقة التعاطي معها.  في هذا السياق تعبر الطالبة (رحيق) بقولها: "على هذه المنصة يمكنك أن تحكي الكثير، فهنا يمكن أن تقول كل ما تريده دون أن تسمع كلمة "لأ".  يمكنك أن تلعب أدواراً ترغب فيها بدون أي اعتراض، فالمنصة يمكنها أن تنقلك من عالم إلى آخر، وتسافر بك بعيداً.  ما قدمناه على هذه المنصة من أدوار ومشاهد لم تكن بعيدة عن حياتنا، بل كانت جزءاً منا، وما زالت، لكن هذه المنصة أعطتنا الفرصة لكي نقول ما هو غير مسموح أن نقوله في الحياة، جعلتنا نجسد بشكل مرئي ما نعيشه ونتصارع معه، جعلتني أبني جسراً بين ما أعيشه في الواقع وبين ما أتمنى أن يكون، بين الأنا والآخر وما نتقاسمه من قضايا وأمور حياتية".

 

شكّل الطلاب عبر فعل المعايشة على المسرح، مساحة جديدة للرؤيا، رؤية ما لا يمكن أن يرى في الأيام العادية على الرغم من حضوره، رؤية وصفها أحد طلاب المسرح (كريم) بقوله: "رؤية ما اعتدنا أن نراه جزءاً من مشهدنا اليومي، ولم نعد نرى الخلل الموجود فيه أو مشاهدته وكأنه دخيل علينا، فقد أصبح جزءاً من مشهدنا الحياتي".  وأضاف: فأنا كنت قبل تجربة العمل بالمشروع، والمسرح تحديداً، أرى القضايا التي نطرحها اليوم كمشاكل وكأنها شيء عادي وجزء من حياتي، أما عندما وضعت على المسرح اختلفت كل الرؤيا، وصرت أراها بوضوح أكبر، صرت أشعر بأني بت أملك وعياً أكبر، فلم أعد أرى الأمور من جانب واحد فقط، بل صرت أراها من كل الجوانب، وأتناولها بشكل أعمق، ولم أعد أقبل بها وكأنها جزء من مجتمعي وصورة عني".

 

من هواة للمسرح إلى وكلاء للمجتمع

تشكّل النص المسرحي، وحمّل بالكثير من وجهات النظر بأبعادها الثقافية والاجتماعية، فلم يعد نصاً يقدم قضايا عامة فقط، بل نص مرتبط بالهوية المحلية بشكل كبير، قام المشاركون بعرضه بعد أن أصبحوا وكلاء لمجتمعهم، استحضروا من خلاله واقعهم الحقيقي كما أجمع عليه الآخرون إلى خشبة المسرح، عبر مشاهد تحول فيها الخيال إلى منطق، والمشروع إلى قضية رأي عام، وأصبحت المعرفة المجسدة أمام الجمهور ليست منفصلة عنه، بل امتداد له، وهو امتداد لها وشريك في تجسيدها وفي حملها.

 

عبر هذه التجربة، أصبح طلاب المسرح سفراء لمجتمعهم، بعد أن فوضهم الجمهور بعرضها؛ هذا الجمهور الذي كان حاضراً معهم طوال رحلة البحث والفهم والمعايشة، وليس فقط أثناء العرض النهائي، حاضراً في مسيرة التدريب والبروفات والعروض الصغيرة، وحاضراً في أذهان طلاب المسرح بوصفهم مفوضين من قبله بعرض قضاياه، فتجاوز المسرح وظيفته التقليدية كأداة للبحث وخشبة للعرض إلى علاقة جديدة نشأت بين الخشبة والمجتمع، وما بين المجتمع ومفوضيه من جهة أخرى.  علاقة وشكل جديد ما زال وسيبقى مفتوحاً على البحث فيه لفهمه، ومفتوحاً على التجريب لاستكمال المهمة، مهمة تطوير المسرح كشكل من أشكال الفهم والمعايشة المجتمعية.

 

كانت المسرحية بعنوان "افتح الحقيبة"؛ هذا العنوان الذي كسر العلاقة بين حقيبة السفر مع أريحا كمعبر، وحولها إلى أداة كشف لكل ما كان مخبأً في الواقع أو في الوعي.

 

* باحثة في برنامج البحث والتطوير التربوي

 

_________________________________________

الهوامش:

 

[1] بيلينجهام، بيتر.  2005.  مبادرات جذرية في دراما المجتمع المحلي والتدخل الاجتماعي.  ترجمة: محمد رفعت يونس، الطبعة الأولى، القاهرة: المركز القومي للترجمة، ص 36.

[2] المصدر السابق، ص 14.

[3] المصدر السابق، ص 51.