من الأدوات إلى القيم .. مداخلة في التحولات المعكوسة

الرئيسية من الأدوات إلى القيم .. مداخلة في التحولات المعكوسة

*مالك الريماوي

مشاركة طالبات المدارس في الفعاليات المرافقة لمعرض سقف البلد في بلدة نعلين.
 

مدخل

تنبّأ فالتر بنيامين باختفاء الحكاية والحكواتي رائياً "أن فن الحكي يصل إلى نهايته لأن الحكمة تموت"، وقد رأى أن سبب هذا الموت للحكاية وللحكمة هو تناقص قدرة الناس على التواصل المبني على الخبرة، فلم يعد الناس في عصر (الرأسمالية) يتبادلون الخبرة.  ويقول "إذا كان حمل المشورة اليوم بدأ يصبح أسلوباً قديماً، فما ذلك إلا لأن القدرة على التواصل بخصوص الخبرة آخذة في التناقص، ونتيجة لذلك، فنحن لا نحمل المشورة، لا لأنفسنا ولا للآخرين، ويرى أن المشورة ليست إجابة عن سؤال، بل هي استمرار قصة تتكشف للتو.[1]

 

لذلك، ولكي لا تموت الحكمة، ولكي تبقى القدرة على التواصل بخصوص الخبرة قائمة، بل أكثر من ذلك لكي نختبر الخبرة ونتبادلها ونفككها، لا بد أن نكرر الحكاية، وحكاية اليوم هي قصة مشروع؛ مشروع انطلق على الورق من فكرة توظيف منتجات الثقافة وأدوات الفن لتعزيز مشاركة الناس في مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية والخدمية ... .

 

وكانت البداية من خلال إشراك باحثين وفنانين في لقاءات مع الناس في المواقع التي تم اختيارها لأجل البحث معاً؛ البحث في الحياة الاجتماعية، في الفضاء العام، لرؤية الواقع وإعادة رؤية الأولويات فيه، لاستكشاف القضايا بعيون جديدة وتوظيف الفن والثقافة في قراءة الواقع وفي التعبير عنه ... .

 

البحث وانطلاق فكرة المشروع

في اللقاءات الأولى مع الأطفال، وأثناء البحث عن (قضايا أو أسئلة أو حاجات) من منظورهم، لم يتكشف الحوار معهم سوى عن القضايا المكررة في الخطاب الاجتماعي العام، مثل الحفر في الشوارع والحاويات والبطالة ... فما سمعناه ليس صوت أطفال في المجتمع، بل صوت المجتمع في الأطفال، أطفال يرددون صوت المجتمع الذي يتموقع فيهم، وكذلك حينما انضمت للمشروع مجموعات من النساء لم نسمع منهن أيضاً إلا الرضى عن الواقع، والإشادة بما يتحقق على صعيد البلد (أحكي عن نعلين كنموذج) وهذا دفعنا لنتساءل: بأية عيون ترى النساء البلدة؟ وأي خطاب هذا الذي يعبرن عنه؟ وهل ما يقال لنا هو خطاب حقيقي يعبر عن رؤيتهن أم هو خطابهن لنا بوصفنا غرباء وهذا ما يجب أن يقال للغرباء؟ وما يقوله الأطفال هل هو تعبير عما تراه عيونهم أم هو محاكاة للكبار وترديد لخطابهم؟

 

القصة وإعادة إنتاج الرؤية والعين الرائية

في هذه المرحلة بدأنا نفكر في مداخل مختلفة للدخول إلى المجتمع، وتوصلنا إلى أن ثمة مشكلة في طريقة الحوار التي نستعملها، ولا بد من أدوات جديدة، وهكذا بدت لنا القصة بوصفها قصة أدوات، وأخذنا نفكر في الأدوات والسياقات: ما السياقات التي يجب أن نخلقها والأدوات التي يمكن أن نوظفها لتعميق الحوار ودفعه باتجاه مناطق أعمق في الحياة الاجتماعية؟

 

جربنا أن نعرض لهم تجارب فنية ومجتمعية محلية وعالمية، وأفكار حول المجموعات الريادية في العالم وفي فلسطين، لكنها زادت الفجوة بيننا وبينهم.  وعدنا نبحث لكن هذه المرة نبحث أكثر في تصوراتنا وأفكارنا، ما الذي نريده منهم؟ وما الذي نتوقعه؟ هنا حدثت النقلة ليس في إجابة سؤال ما الذي نريده منهم، بل في اكتشافنا للخطأ؛ ألا وهو السؤال نفسه، ما جعلنا ننتقل إلى سؤال آخر: هم ماذا يريدون؟

 

في ضوء تغيير السؤال، ومن خلال التحليل المستمر لما نقوم به، والتراجع عن العوائق الاستراتيجية التي كانت خلف ممارساتنا، فكما لو أننا كنا "نرى شيئاً" ونود من الناس رؤيته ومعرفته والعمل عليه.  "فتراجعنا" خطوة إلى الخلف ومارسنا "طقس الاعتراف": "قد يكون ما نراه ليس حقيقياً، وليس مهماً بالنسبة للناس أو أن ما نراه ونعتقده هو شيء لا وجود له إلا في رؤوسنا، إذن ما الحل؟

 

الحل أن نذهب مع الناس في رحلة بحث ورؤية؛ رحلة بحث معهم بدلاً من الرحلة فيهم.  هنا بدأنا رحلة تطوير ليس لأدواتنا فقط، بل لرؤيتنا للمشروع ولموقعنا فيه، عندما تنازلنا عن "مركزية الرائي والعارف" انفتح أمامنا مجال أوسع من البحث.

 

المعرض طريقاً للرؤية ... والقصة أداةً للفهم والانخراط

عدنا إلى الناس في المواقع بسؤال مختلف: ما الذي تودون عمله؟ قال الأطفال نريد أن نعمل معرضاً في نعلين، نريد أن نرسم ونصور البلدة ونعرضها للناس.  هنا وجدنا المدخل الأول، ليس المعرض كنتاج معروض، بل المعرض كأداة للرؤية المشتركة، انخرطنا مع الأطفال في ورشة رسم، في الورشة بدأ الأطفال يتحولون إلى ناسجي قصة تخصهم، والتحول من دور أطفال يشاركون في ورشة رسم إلى أصحاب رؤية وأصحاب اكتشاف يرغبون في إيصاله للآخرين، في هذه المرحلة كشفوا لنا أكثر مما كنا نتوقع:

 

"ساعة حائط تشير عقاربها إلى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وحين سئل الطفل عنها قال: هذه الساعة التي نصحو على صوت منبهها كل يوم، أمي تخبز المعجنات، ونحملها أنا وأخوتي إلى الحاجز لبيعها هناك، فالحاجز والحركة عليه هي من يوقظ نعلين.  طفل آخر يرسم شهادة جامعية ويقول: هذه شهادة أختي التي عاشت لأجلها، أختي اليوم تجلس في البيت ولا تعمل شيئاً غير النظر في الشهادة المعلقة على الحائط.  طفل ثالث يرسم لوحات سيارات صفراء اللون، لوحات تملأ المكان، سيارات وضوضاء.  وطفل آخر رسم "أصوات، المسجد، السيارات، الأغاني، الباعة، أصوات ...، نعلين حفنة من الأصوات".

 

فانخرطنا معهم، أيضاً، في ورشة لتعليمهم فن استعمال الكاميرا.  لم نكن نريد أن نعلمهم تقنيات التصوير، كنا نريد أن نرى البلد معهم، وبعيونهم، دربنا الأطفال على الكاميرا واستخدامها، وكانت البلدة بكل ما فيها ميداناً للتصوير.

 

في ورشة التصوير أحضر الأطفال صورة مختلفة للقرية، فلم يصوروا محيطهم بالكاميرات فقط، بل أخذونا معهم في رحلة لنرى العالم بعيونهم.

 

عندما قبض الأطفال بأيديهم على الكاميرات رأوا فيها ما يشبه (العصا) السحرية، فعادوا إلى منطق اللعب وقوانينه، في اللعب لا مكان للخطاب ولا للأيديولوجيا، في اللعب السيادة أولاً وأخيراً للحرية "تحرروا من الخطاب الاجتماعي ومن الأيديولوجيا التي فيه" حينها رأوا وأرونا معهم عالماً لم يكن ممكناً لنا أن نراه، عالماً قابعاً خلف قدرتنا على الرؤية، عالماً مخفياً تحت الوهم الذي تشكله (العادة) أو الهابتوس.  فحن لا نرى ما هو موجود، بل نرى ما تعلمنا أن نراه "فالعين ليست عضواً بيولوجياً محضاً، بل هي عضو ثقافي أيضاً حسب بورديو".

 

الصور التي التقطها الأطفال أصحبت مادة للحوار مع النساء والشباب والشابات، فكانت بمثابة بداية عتبة لوعي مختلف، فمثلاً انذهلت النساء من أن أبناءهن صوروا هذه الصور، الصور التي أظهرت الأشباح التي تسكن في وسط الصورة الجميلة لنعلين المتطورة المزدهرة "أطفال لا يجدون مكاناً يلعبون فيه إلا في شوارع ضيقة محفرة وسط سيارات مشطوبة، نعلين ذات الحضور والتاريخ وذكريات الطفولة ... والشهداء، مجللة بغمامة من الدعاية التجارية المكتوبة باللغة العبرية".

 

وأخطر ما شاهدته النساء هو هاتين الصورتين "هو ذلك التناقض الهائل بين النظافة والترتيب الموجودة داخل المحلات التجارية وبين الفوضى التي في خارجها".  صورتان أظهرتا تناقض العقل والسلوك في المجال العام، فهذا العقل الاجتماعي الذي أنتج كل هذا الترتيب للأشياء التجارية هو نفسه من يقف خلف كل هذه الفوضى التي تعم في الخارج، إنه تناقض السلوكين الداخلي والخارجي، تكمن خلفه رؤية؛ رؤية أهل نعلين لنعلين ليس بعيون ابن البلد صاحب البيت، بل بعيون ذلك القادم الذي من المفترض أن يشتري، كل شيء في نعلين يرتب وينظم لكي يعرض، عملية البيع وتقديم الخدمات تحكم العقل الذي يتحكم في البلد.  عندما رأت النساء هذه الصورة أصابتهن حالة من الذهول الذي تحول إلى يقظة تامة.

 

ما كشفه الأطفال عبر الصور ليس مكونات البلدة وعناصرها، بل كشفوا تناقضاتها وتناقضات العقل الذي يحكمها ويتحكم فيها ... هنا أخذت الأشياء تتكشف بشكل مختلف حتى الأمهات حين رأين الصور تفاعلن معها بشكل مختلف، فهي ليست "مادة خارجية تفرض عليهن" بل هي حياتهن ومن نسيجهن أو من صنعهن، فقبلن أن تقدم كصورة عنهن لأنها من نتاج أبنائهن، لكن اندهشن مما في الصور من حقائق ومشاهد (مشاهد وحقائق كما لو أنه كان متفقاً على عدم رؤيتها).

جولة استكشاف السيارات المشطوبة في بلدة نعلين مع الفنانين والمشاركين.

 

القصة كسياق للحوار المجتمعي

قالت النساء كما جمع الأطفال الصور، فنحن نملك أن نقول الحكاية، وانخرطن في روشة لكتابة القصص الشخصية؛ القصص الشخصية التي شكلت البعد الثاني للرؤية؛ رؤية ما خلف المرئي.

 

كتبت إحدى النساء "لم أكن الولد الذي يحتفل بعيد ميلاده، لم أكن البنت الشقراء، لذلك لم يلتفت لي أحد، أحلى أيام عمري يوم مرضت وجلست أمي بجواري في المشفى واشترت لي دمية، هذه المرة الوحيدة التي أحسست أن هناك من يهتم بي، غير ذلك لم أجد من أحكي له، أو أشاركه اهتماماتي أو همومي".

 

وتضيف "عندما بدأت في كتابة قصتي ووصلت إلى هذا المقطع، جمعت بناتي كلهن وسألتهن هل أميز بينكن، هل تحس إحداكن أنها لا تستطيع أن تخبرني شيئاً، وكذلك زرت أمي وحكيت لها أني أكتب قصتي وطلبت منها "أن تسمح لي" لأني سأكتب كل شيء، سأكتب كل القصة لأنه يجب أن نتعلم.

 

إذن، القصة التي بدأت في الورشة كحديث الذات مع ذاتها، تحولت إلى حوار في الأسرة؛ في الأسرة الأولى مع الأم لمراجعة التاريخ، ومع البنات لصياغة توجه مختلف للمستقبل.  فالقصة لم تكن مجرد أداة للرؤية أو الفهم فقط، بل كانت سياقاً لخلق الحوار الاجتماعي، واكتشاف القضايا، والبدء في مواجهتها؛ بدءاً من البيت وسياسات التربية فيه.

 

في الحوارات والانخراطات التي انبنت على الصور ورسومات وقصص النساء وحكايتهن بدأت المجموعات كلها ترى "قضاياها جديدة وتتعمق في طرح التناقضات الاجتماعية"، أصبحت هناك رؤية أكثر وضوحاً لتناقضات المنطق الذي يحكم حياتنا ويتحكم فيها.

 

هذا جزء من السر الصغير الذي تكشف، وكان خلف فيلم "المعبر"، الأطفال قالوا تعالوا إلى المعبر وسترون مشاكل نعلين كلها، بدءاً من عمالة الأطفال حتى انتشار المخدرات ... قاد الأطفال الكاميرا والمخرج إلى الحاجز للكشف عن تناقضات الحياة ومشاكلها.

 

المجال العام واختراق اللعبة وقوانينها

سأذكر هنا قصة، عندما وجد الناس القضايا التي فعلا تخصهم، والتي انبثقت نتيجة بحثهم وأدواتهم التي اكتشفوها بأنفسهم "لم يأخذوا أدوات البحث فقط"، ولم يوظفوا الفن فقط، بل اخترعوا الأدوات أو أعادوا إنتاجها.  عندها قررت النساء في نعلين اقتحام السياق العام لمواجهة الفوضى في الحياة العامة، وبدأن من السيارات المشطوبة وما يصاحبها من مظاهر سلبية، حملن (ورقة هي استبيان) للبحث حول: ما رأيك بوجود السيارات المشطوبة في نعلين؟ لكنه استبيان مصمم على شكل وثيقة "ستكون تأريخا ليس لظاهرة فقط، بل لموقف الناس وردودهم على الظاهرة"، وهي أيضاً عريضة تعني الرفض والدعوة للعمل.

 

عندما اقتحمت نساء نعلين الشارع والمقهى، اتصل "أخ إحدى المنظمات للنشاط" على هاتفها:

 

هالو فردوس، صحيح أنت في المقهى؟

 

فردوس نعم، أنا في المقهى.

 

ماذا تفعلين في المقهى؟

 

فردوس: أنا في المقهى لكي ألعب، لكن لن ألعب الطاولة أو الشدة، أنا بلعب اللعبة التي كان يجب أن تلعبوها لكنكم انشغلتم ولم تعودوا تلعبونها، أنا ألعب اللعبة التي كنتم تلعبونها في الانتفاضة الأولى، أنا ألعب اللعبة التي يجب أن تلعبوها، لعبة البلد والدفاع عنها، لعبة حماية أطفالنا ومستقبلنا.  تووووط انقطاع.  هنا انتهت المكالمة ... وهنا أيضاً بدأ الحوار... .

 

تلك العريضة أو الوثيقة أو الاستبيان الذي لم يكن مجرد استبيان بحث، بل أداة حوار في نعلين ... تحول إلى ندوات ومشاركات من كل الشخصيات والمؤسسات في لقاءات على مستوى البلدة، وتحول إلى حملة قانونية وحملة مواجهة للسيارات المشطوبة والمظاهر المرتبط بها، وتحول إلى عمل فني من أعمال معرض "سقف البلد" ... .

 

معرض سقف البلد الذي أعاد الصدى لصدأ الباص، وقضايا المرأة والتمييز والذاكرة، ومعنى الحجر والقصة التي فيه، المعرض الذي سمي سقف البلد لأنه كان محاولة لكشف السقف وإظهار ما تحته.

 

وأخيراً تحول لفعل مجتمعي تستكمله مجموعة من الصبايا والشباب ضمن رواد التنمية لتنظيم حالة من السوق الشعبية التي تعرض منتجات وطنية لتعكس وعياً اجتماعياً جديداً وتصوراً مختلفاً لنعلين كبلدة وكسوق.

 

إن ما حدث كما قالت فردوس هو دخول النساء إلى المجال العام للمشاركة في اللعبة، وهذا حسب بورديو ليس مجرد دخول في اللعبة للمشاركة فيها، بل هو إعادة توزيع للملعب، واختراق لخطوط اللعب فيه لإعادة صياغة الملعب وحدوده وقواعد اللعبة التي تحدث فيه.

 

كانت الصورة طريقنا للرؤية البديلة مع الأطفال، وكان السرد الأداة للفهم ولبناء اللغة المشتركة بيننا وبين النساء، لكنها كانت بالنسبة لهم بداية لاختراع دورهم وفاعليتهم؛ تلك الفاعلية التي لم تؤثر في الواقع فقط، بل أثرت على فهمنا للمشروع وعلى توجهاتنا وأدواتنا ... .

 

عندما غيرنا طريقة البحث، وسلمنا الأدوات للشركاء في المواقع، تغيرت استجاباتهم وأخذوا البحث عميقاً، فأحضر الأطفال عبر الصور طبقات جديدة من الواقع، وكشفت النساء عبر القصص طبقات جديدة من الوعي والأهم ساعدونا في تغيير اتجاهاتنا الأخلاقية أو القيمية من البحث في الناس إلى البحث معهم، لقد دخلنا معاً في رحلة استكشاف تجاوزت خبرتنا وخبرتهم وأفضت لخبرة جديدة هي خبرتنا معاً.

 

كان هذا تحليلاً سريعاً لتطور عملية البحث وأدواتها في موقع نعلين فقط لأجل إظهار جانب من المنهجية.  الآن سوف أشير إلى المواقع الأخرى سريعاً؛ ثلاث برقيات وخاتمة.

 

المسرح في أريحا محاولة لعرض اللامفهوم

كما وظفنا الصورة والسرد والفيلم في نعلين، فقد وظفنا المسرح في أريحا، من خلال المزاوجة بين رسومات الأطفال وقصص النساء ورغبة مجموعة من الشباب في إنتاح فرقة مسرحية، نعم جعلنا من قصص النساء ومنتجات الأطفال في أريحا مادة لورشة مسرحية مع شباب وشابات ذوي اهتمام بالمسرح ... فكان المسرح والورشة سياقاً للفهم، وكأننا أعدنا المسرح إلى وظيفته الأولى، فقد قال الإغريق حينما اخترعوا المسرح لأول مرة في التاريخ، قالوا: نريد مكاناً (خشبة) منصة نضع عليها القضايا غير المفهومة في الحياة، نضعها على المسرح لنراها من جديد، ونحاول أن نفهمها ... فكان المسرح أداة لفهم اللامفهوم، وعملية بحث وعرض اجتماعية سنرى مع الزميلات كيف تحققت.

 

مبادرة قطنة .. من الجدار إلى بيت عنان

في قطنة، بدأنا من خريطة على ورقة بيضاء، رسم عليها الشباب والشابات مشكلات البلدة القديمة وطموحاتهم في تدخلات لإعادة الحارة إلى الحياة، تلك الخريطة التي تحولت إلى مسار في إعادة (الحارة) إلى الحياة عبر الفن، وقد قيل لنا إن هذا يشبه المعجزة ... لأن سكان الحارة سيرفضون وأطفالها سيدمرون كل شيء "فهم يحرقون الحاويات التي تضعها البلدية ويحطمون مصابيح الشوارع" ... لكن المسار لم ينجح في قطنة فقط، بل ها هو اليوم ينتقل إلى البلدات المحيطة، ومن خلال شباب قطنة أنفسهم ومجموعات شبابية ومراكز ثقافية في البلدات المحيطة، وسنرى ليس كيف نجحت المبادرة في قطنة فقط، بل كيف أصبحت نوعاً من الإشعاع في محيطها، سنرى ذلك ونسمعه ... .

 

قلقيلية والفن كمرجعية رابعة

قيل لنا إن الفن مرفوض في قلقيلية التي لا ينجح فيها أي مشروع، لأن فيها ثلاث مرجعيات لا رابع لها: شيخ المسجد، والبلدية، والدواوين العائلية ... سنرى كيف تحول السوق إلى عملية بحث؟ وكيف أُنتج معرضان للفن؟ وكيف تم تقدير الفن وانخراط الناس في العمليات الفنية وقبولهم أن يكون الفن مرجعية رابعة في الفضاء العام الاجتماعي؟

 

الفن والسؤال وأسطورة مهد الثعلب

إذا أراد شعب الدوجون الذين يعيشون في مالي، غرب أفريقيا، أن يعرفوا ما يحمله المستقبل، فانهم يستشيرون مهد الثعلب بمساعدة عراف، وهو شخص ذو عمر وخبرة كبيرين، يمهد الأرض على حدود القرية ويقسمها إلى مربعات صغيرة، يرسم بداخلها الأسئلة أو المشكلات التي يطرحها الناس، يرسمها على شكل علامات ورموز مستخدماً قطعاً من الخشب والرمل ... ثم ينثر حبات من الفول السوداني وبعض الطعام في المربعات وحولها ... وفي الصباح التالي يحضر الناس والعراف لينظروا في الآثار التي يتركها الثعلب كإشارات لحلول يقرأ العراف مع الناس الحلول والإجابات التي تركها الثعلب لهم على شكل علامات ورموز.[2]

 

يقال في تحليل هذه القصة، أن العراف لا يقرأ الأجوبة من الإشارات التي تركتها الثعالب، بل هو يقرأ ما يريده الناس بناء على خبرته بهم وبحياتهم؛ أي إنه يقرأ خبرته ويقدم أجوبة بناء على معرفته، لكنني أظن أن ما يفعله العراف ليس كتابة الأسئلة في المربعات داخل الدائرة، بل إنه عندما يجمع الناس في مكان قرب الغابة، ويطلب منهم طرح الأسئلة، ثم يبدأ بنقش الأسئلة على التراب، يكون ينقش الأسئلة ويؤطرها في رؤوس الناس، ثم يتركهم ليعودوا إلى بيوتهم وهم مشغولون بهذه الأسئلة "فكما يقال ينامون على الأسئلة، ويفكرون فيها في نومهم وفي صحوهم، وحتى في اللحظة البينية بين النوم والصحو؛ لحظة "التقاء الوعي باللاوعي"، وبالتالي ما يتوصل له العراف في اليوم الثاني هو خلاصة تفكير البلدة كلها؛ هو خلاصة خبرتها وخلاصة التماعات وعيها في تلك الليلة.

 

ما أردت قوله من هذا القصة هو أن أفضل ما قدمه المشروع لنا هو أنه وضعنا كلنا في مهد الثعلب ووضع في رؤوسنا عشرات الأسئلة ... أسئلة سنحملها إلى المرحلة القادمة ليس لنجد لها أجوبة، بل لنخلق أسئلة أخرى، ولكي نستمر في البحث مع الناس ولأجل الناس، فأفضل ما يمكننا فعله هو التأسيس لعقل اجتماعي عاداته التساؤل والبحث والتدخل والابتكار... .

 

اليوم لدينا أسئلة أكبر من الأسئلة التي كانت في حوزتنا يوم بدأنا؛ أهمها كيف نعيد توظيف الفن والثقافة، ونعيد موضعتها في الحياة، لكن في سياقات أكثر نزعة نحو الجمال، وأكثر نزعة نحو الإنتاج؛ الإنتاج المادي والإنتاج الرمزي، ليكن تدخلاً منتجاً لأجل مشاركة تثري المشاركين والمجتمع بشكل يعزز الأدوار والإنتاج معاً.

 

مشروع في: كيف نحمي الفن من المنع؟ هذا أفضل ما يمكننا عمله لنتضامن مع الفن المطرود من المؤسسات ومن الوزارات ومن الجامعات ... عندما طرد الفن من الجامعات استقبل في عنبتا وقطنة وبيت عنان ونعلين لأنه فن من الناس وإليهم.

 

*كاتب وباحث في مجال التكوين المهني والتطوير التربوي

مؤسسة عبد المحسن القطَّان

 

[1] أحمد شوقي علي.  "حكواتي فالتر بنيامين ... المحارب الأخير البائس"، مأخوذة من الإنترنت عن موقع المدن:

https://www.almodon.com/culture/2015/4/14/

[2] القصة من كتاب إدارة الفن على نمط العمل الحر. لـ جيب هاجورت.  (2009).  ترجمة: ربيع وهبة.  طبعة أولى، القاهرة: دار شرقيات للنشر والتوزيع، ص 121.