شراكات مجتمعية نحو تعلم تحرري

الرئيسية شراكات مجتمعية نحو تعلم تحرري

عبير المدهون*

ضمن فعاليات مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية في خانيونس/غزة القطان 2019

 

"تعلّمت التفكير ... بعدها تعلّمت التفكير داخل قوالب ... بعدها تعلّمت أن التفكير الصحيح هو التفكير من خلال تحطيم القوالب".

جلال الدين الرومي

 

مقدّمة

إذا أردت أن تقوض أي عمل إبداعي فضعه في قالب.  لأنك عندما تكون بداخله كل ما تستطيع رؤيته هو شكل القالب وحدوده.  وكثيرة هي القوالب التي نواجهها بدءاً من القوالب المدرسية وصولاً إلى القوالب المجتمعية.  وإذا أردنا الخروج عن المألوف، فكل ما نحتاجه أن نحطم هذه القوالب لنتحرر من جدرانها، ونرى كل ما يمكن رؤيته خارجها.  عندما يتعلم الطلبة ضمن صيغة المشروع، فإننا نمكنهم من الانتقال إلى الحياة خارج تلك القوالب عبر مشروع الفعل الثقافي والتربوي، مشروع الجماعة الذي تتجلى فيه مساهمة الفرد في الإنتاج الجماعي والانخراط مع البيئة المحيطة لجعله أكثر وعياً بها.

 

بداية سأتناول الطريقة التي تم بها بناء منظور المشروع تدريجياً كتجربة مغايرة في الحقل التعليمي، حيث تقوم فكرة المشروع على انخراط الطلبة والمعلمين والناس مع فنانين في إعادة إنتاج قضاياهم المجتمعية عبر توظيف الفنون، وإعادة النظر في دور المثقف، عبر مشاركة الفرد والجماعة؛ لفتح التجربة نحو الاجتماعي والإنساني معاً.

 

وفي البحث حول دور المدرسة في التكوين المجتمعي، وممكنات بناء سياقات، وأدوار مختلفة للمتعلم للانخراط في المجتمع دون النظر لمفهومنا النمطي للتحصيل العلمي، وبعيداً عن النظريات والفلسفات التربوية والتوجهات الفكرية التي شغلت حيزاً واسعاً في الموروث التربوي والفكري، وبغض النظر عن تأييدها أو معارضتها، كل ما سأركز عليه هو ربط فكرة المشروع ونتاجاته والتأمل في مدلولاته للإجابة عن الأسئلة التي يتمحور حولها المشروع كفعل ثقافي واجتماعي، فأي حوار مجتمعي ذلك الذي نريده؟ وما هو دور الفن في إعادة إنتاج الثقافة وخلق حالة الوعي في المجتمع؟ وأي أثر للتعليم المسند بالفنون على المنخرطين في التجربة؟

 

المثقف ... الذي نريد

يعرف عابد الجابري المثقفين بأنهم "هؤلاء الذين يعرفون ويتكلمون، يتكلمون ليقولوا ما يعرفون...".  والمثقف حسب الجابري: "هو ذلك الذي يلتصق بهموم وطنه وبهموم الطبقات الكادحة، إنه "المثقف العضوي" الذي يضع نفسه في خدمة المجتمع ويواجه تحدياته المختلفة".

 

ويقول غرامشي في تعريفه للمثقف العضوي: "جميع الناس مثقفون ... لكن وظيفة "المثقف" في المجتمع لا يقوم بها كل الناس".  فالمثقف بالنسبة له ناقدٌ اجتماعيٌّ، يعمل في مجال الإنتاج الثقافي، ويكرس نفسه لخدمة القضايا الاجتماعية الحيوية في المجتمع، ويعمل على بناء نظامٍ فكري مؤنسن ومعقلن في اتجاه تطوير المجتمع والنهوض به.  وبالعودة إلى غرامشي نستطيع القول إن جميع الناس مثقفون بطريقة أو أخرى، وهذا ينسحب على جميع الفئات الاجتماعية من معلمين وفلاحين وعمال وحرفيين وموظفين.

 

وفي السياق ذاته، يرى المفكر الفرنسي سارتر أن "المثقف" الحقيقي ليس هو ذلك الذي يقف عند حدود الكشف عن مختلف التناقضات القائمة في المجتمع، بل هو الذي يعمل على تغييرها وتوجيهها ويعلن مسؤوليته الثقافية في مواجهتها.

 

بينما يرى إدوارد سعيد أن المثقفين يشكلون شريحة اجتماعية بأبعاد طبقية، وتكمن وظيفتهم في إنتاج الأيديولوجيات والأفكار والتصورات الثقافية والمعرفية.  ويوافق إدوارد سعيد غرامشي وسارتر في تعريف "المثقف العضوي" من منطلق دوره الحيوي النقدي في معارضة السلطة والتيارات الأيديولوجية السائدة ومواجهة تحدياتها.  ويؤيد فكرة أن معظم المثقفين يؤدون الدور الاجتماعي الذي وصفه غرامشي.  فالمثقف الحقيقي بالنسبة له يمتلك دوره الفاعل في المجتمع، لأن المثقف يجب أن يكون صاحب رسالة، مطالباً بتجسيد مواقف فكرية وفلسفية من مختلف القضايا الوجودية والحيوية في المجتمع.

 

وينطلق في رأيه هذا من فكرة جوهرية قوامها: أن "المثقف الحقيقي" يوظف ثقافته وموهبته في اتخاذ المواقف النقدية وفي مواجهة تحديات السلطة، وهذا كله يفرض عليه أن يطرح أكثر الأسئلة المربكة الحرجة، حيث تكمن وظيفته الأساسية في التعبير عن قضايا المجتمع وهموم الناس وتطلعاتهم.[1]

 

طرح المشروع تساؤلاً حول أي مثقف ذلك الذي نريده؟ عمل المشروع على خلق دور للفرد في المجتمع من خلال الورش المجتمعية التفاعلية، ليتخذ موقفاً يتيح له المساحة الحرة كي يعبر عن قضاياه بطريقة تمكنه من إعادة الرؤية في المجتمع ومكوناته.  ولأن الثقافة هي جل ما نحتاجه لنكون قادرين على التفكير النقدي في حياتنا كأفراد وجماعات، ليس ذلك وحسب، بل ولأننا، أيضاً، بحاجة ماسة لإعادة النظر في دور المثقف الذي نطمح له، شكل مسار العمل على مدار عام ونصف من التجربة والتفاعل المستمر مع شرائح المجتمع بكل اختلافاته وتعقيداته عبر منهجية تجريبية ترتكز على توظيف أدوات الفن والثقافة مع مجموعة من الطلبة اليافعين في مدينة خان يونس بقطاع غزة، لتمتد رقعة المشاركة فيما بعد لجميع الناس من (معلمين-فنانين-مزارعين-نساء-ناشطين شبابيين ... إلخ) نحو حوار مجتمعي يشتغل في منطقة الوعي الإنساني للفرد، ويعيد النظر في القضايا والإشكاليات التي تواجه المجتمع، وتطرق العديد من التساؤلات حول الفرد وعلاقته بمجتمعه في محاولة لتحريك الماء الراكد، فنحن لسنا بحاجة للمثقف الذي يعرف ويتكلم ويقول ما يعرف، ما نحتاجه أن يكون جميع الناس مثقفين بطريقة أو أخرى.  إذاً، فنحن نحتاج للمعلم المثقف، والفنان المثقف، والكل المثقف.

 

المشروع في سياقات تعلمية

عمل مسح البنية الاجتماعية لواقع المدينة في خان يونس على اختيار اليافعين من مدارس مختلفة ومتباعدة بواقع 40 طالباً وطالبة للانخراط بمشروع يطور دور المدرسة ويربطها بالمجتمع بهدف تعزيز الدور المجتمعي للمتعلم.

 

بداية، يقول أرسطو "الاندهاش أساس المعرفة"، هذا الاندهاش بدا واضحاً على وجوه الطلبة خلال انخراطهم في سياق تخيلي درامي، جسد المدينة وخلق حالة من التساؤلات لديهم كان الطلبة يفكرون "ماذا يحدث؟"، "ما الذي يدور هنا؟"، "أي دور سيكون لنا؟".  المشروع بدأ خطوطاً على خريطة، ثم ألواناً وأشكالاً ورسوماتٍ لشخصيات تخيلية، ثم بناء لمشاهد وأحداث، وصولاً إلى مفاهيم وقيم في العقل الجمعي وفي سلوك الأفراد.  تمركزت عمليات المشروع حول القضايا الاجتماعية التي تعاني منها المدينة، وعاد المشاركون بمهمة جديدة تركز على البحث والاستكشاف في تلك القضايا الاجتماعية التي رصدوها حول عمالة الأطفال، والنفايات داخل المدينة، والأماكن الأثرية، وجودة المنتجات الوطنية، والتمييز القائم على النوع الاجتماعي، والتلوث.

 

وبدأ الفريق بطرح تساؤل: كيف سنشارك المجتمع؟ وعبر أي أدوات؟ ولماذا؟ وعندما سنشارك المجتمع، ما الذي نحتاجه لنشارك ونتشارك هذه القضايا؟ عبرت الطالبة إسراء كلخ قائلة "لطالما كنت أحلم أن أغير في تفكير مجتمعي، وأخيراً سأواجه المجتمع وجهاً لوجه لنعمل معاً على التغيير".

 

جرى الكثير من الحوار والنقاشات التي كانت تدور عبر "الفعل"، بعيداً عن فكرة الخطاب السلطوي في تلقي المعرفة لدى الطلبة والناس لتطوير حوار ينطلق من المساواة والأخلاق نحو الحرية العدالة.

 

عبر المعلم والمنسق في المشروع محمد شبير عن تجربته في مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية، قائلاً: "أن تكون معلماً في مشروع، ستكتشف أنك تمتلك أدوات كفيلة بتغيير واقعك، وفكرك، ونظرتك، وعلاقاتك، كل هذا يحدث في حالة حراك ديناميكي مفعمة بالنشاط والتعاون، وفي حالة اندماج بين المعرفة والفعل.  وفي سياق التعلم عبر المشروع تستكشف ذاتك، ووعيك وتبني حريتك، بل ستكون أنت صانعاً لها، بعيداً عن التنميط المدرسي والصفي والقوالب الجاهزة".

 

التعليم .. فعلاً تحررياً

التعليم عند فريري سبيل إلى الحرية، ومنهجه في تحقيق ذلك يرتكز على "الحوار" الذي يتبادل فيه المعلم والمتعلم أدوارهما؛ فيتعلم كل منهما من الآخر، وفيه يركز المعلم والطالب، بشكل مشترك، على الواقع، فكلاهما "فاعل"، ليس فقط في مهمة اكتشاف ذلك الواقع، ومن ثم التوصل إلى فهمه بشكل انتقادي، ولكن في مهمة إعادة خلق المعرفة، وعندما يحصلون على هذه المعرفة للواقع عبر التفكير والعمل المشتركين، يكتشفون أنفسهم بأنهم من يعيد خلقه باستمرار.  وهذا المنهج مناقض للمنهج الذي أسماه فريري بـ"التعليم البنكي الذي يقوم فيه المعلم بإيداع المعلومات التي تحتويها المقررات في أدمغة المتعلمين، الذين يقتصر دورهم على التلقي، ومن شأن ذلك التعليم البنكي أن يخرج قوالب مكررة من البشر، تساهم في تكريس الوضع القائم، ولا تسعى إلى تغييره".[2]  تجلى ذلك واضحاً خلال تجربة العمل مع الطلبة الذين ما زالوا يتعلمون داخل الغرف الصفية بتلك الطريقة البنكية التي ذكرها فريري، وكان الغريب في الأمر بالنسبة لي هو مقاومة الطلبة في بداية انخراطهم لفكرة المشروع الخروج من الأسوار، وهذا ما كان يردده الكثير من الطلبة "ما الذي تريدوننا فعله؟"، نريد أن ترسموا لنا مسار المشروع مثل مشاريعنا المدرسية التي غالباً ما نشارك فيها، وتكون كل خطوة جاهزة بالنسبة لنا!" كتب محمد صليح في أحد تأملاته "في هذا المشروع كنا قادة حقيقيين، لم نجد أحداً يملي علينا ما نفعله، كان المعلمون موجهين لنا، وهذا فرق كبير بالنسبة للمشاريع السابقة، كان يملي علينا فيها ما الذي يجب أن نفعله، وكيف سنفعله.  اليوم نحن نقرر معاً، نتشاور ونتشارك كل خطوة، ونشعر بالحرية في الاختيار والقرار، ونعمل كفريق على الرغم من كل اختلافاتنا".

 

يؤكد فريري على أهمية المنهج الحواري في خلق حالة من "الوعي النقدي"، مشكلاً قلب منهج التعليم التحرري، الذي يتميز بالعمق في تفسير المشكلات التي يعيشها الفرد، التي ربما يكون الفرد ذاته جزءاً متآلفاً ومتعايشاً معها، بل ومبرِّراً لها.  وهو وعي يُبني من خلال كفاح المجموع ومراجعاتهم الدائمة لأعمالهم وأفكارهم من خلال خلق حالة حوارية دائمة ومتصلة.  وهذا الوعي يجعلهم ينتفضون على واقع "ثقافة الصمت".  ويهدف فريري من إكسابهم الوعي النقدي إلى بث الثقة في نفوسهم وتعليمهم الأمل بقدرتهم على الفعل الإيجابي لتغيير الواقع الذي يعيشونه.[3]

 

وعبر التجربة الحقيقة داخل المشروع التي شكلت فعلاً تحريرياً نوعياً، انطلق في البداية من مجموعة المتعلمين أنفسهم ووصولاً إلى مرحلة مشاركة الطلبة للناس في مجتمعهم، وساهم في خلق حوار مجتمعي متمركز في رفض الكثير من الممارسات والسلوكيات التي نقوم بها كأفراد ومسؤولين تجاه العديد من القضايا المجتمعية الملحة، والبحث عن حلول ممكنة، والتي تتعلق على سبيل المثال بـ: قضية النفايات، الصرف الصحي التي رصدها الطلبة في الجولات الميدانية من خلال فيديو مرحلي يوثق المقابلات التي أجروها مع الصيادين والسائقين والمزارعين، وتحليلها، وطرح الأسئلة الاستكشافية والبحثية حول مسببات القضايا وممكناتها، حيث تم توظيف منتجات المرحلة في خان يونس من كتابات وصور وأفلام ورسومات كمصدر لعملية تشاركيّة مع المجتمع، تضمنت سلسلة من اللقاءات، مع مجموعة من النشطاء الشبابيين، والنساء، والمعلمين، وصناع القرار.

 

استطاع المنخرطون في المشروع عبر الورش التي قادوها مع المجتمع من خلخلة الوعي السائد لدى المواطن، الذي يتمثل بالقول "وأنا مالي!"، وإعادة تشكيل مفاهيمنا لما حولنا.  قالت الطالبة فتحية شراب: "كسرت حاجز الخوف من مواجهة الناس، وأصبحت أكثر جرأة من خلال الوقوف أمامهم، وتوجيه الأسئلة لهم، في محاولة لمحاكمة ممارساتنا".  الناشطة المجتمعية مروة النجار علقت في ورشة مجتمعية ضمت الطلبة والشباب الناشطين: "الفيديو الذي أنتجه الطلبة بمثابة مسح شامل لقضايا خان يونس وما يثير دهشتنا أن يكون هذا العمل بأيدي طلاب، وسنكون داعمين لهم بكل قوة، ولن نتركهم وحيدين في طرق هذه الأسئلة الكبيرة التي تهمنا جميعاً".  وتضيف الفنانة دعاء شراب "لم نرَ في خان يونس مشروعاً بهذا العمق يربط الطلبة بمجتمعهم، ويوظف الفنون بطريقة نقدية جمعية".

 

 

 

 

شكل (1): أشكال التعلم الذي حدث خلال المشروع

 

الناس شركاء نحو وعي نقدي

هل أنا هو أنا؟ أم أن المجتمع هو الذي خلق الشخص الذي أنا عليه؟ هذا السؤال الذي طرقه فرانس كافكا كان تساؤلاً جوهرياً للطلبة والناس خلال الورش والمقابلات في المشروع، فما الذي يجعلنا -على سبيل المثال- ندعو إلى قيم النظافة والجمال في المدرسة والبيت وفي كل مكان؟ في مقابلة أجراها الطلبة عبر بحثهم مع البلدية حول هذه القضية، فإن البلدية، كما أوردت، تبدي اهتماماً واسعاً، وتخصص ميزانيات كبيرة ينصب جلها في خلق بيئة نظيفة جميلة للمدينة، ولكننا في الواقع نواجه أكواماً ضخمة من النفايات في كل مكان، فهل نحن كمواطنين وأفراد نمارس الخطأ أم أن المجتمع من يدفعنا لذلك؟ البلدية ترى أن المواطن يتحمل جزءاً من المسؤولية وعلى النقيض تماماً فالكل يرى أن البلدية هي من لا يقوم بدوره.

 

هذا الحوار الذي يبرز جميع الأصوات بكل اختلافاتها وتناقضاتها كان رداً على أننا نحتاج فعلاً لنعيد التفكير ومن كل الزوايا في هذه القضايا، وأن نتوقف لرؤية الأشياء على حقيقتها.

 

يقول الطالب عبد الله زعرب في إحدى الورش التي قادها مع المجتمع: "نحن لا نرى الأشياء كما هي، بل نراها كما نحن، وفي مشروعنا أصبحت أرى المجتمع جيداً، كم نحن سلبيون تجاه كل هذه القضايا، بدأت أشعر بمعاناة الناس بطريقة مختلفة، ويجب أن لا نكتفي بالشعور فقط".

 

وفي محاولة لخلق فضاء حواري واسع، وإيجاد دور تشاركي فاعل للبلدية في خان يونس، نظّم فريق المشروع ورشة عمل حول تطوير دور الأفراد وتعزيز مشاركتهم المجتمعية وإيجاد صيغة لرؤية مدينة خان يونس بغرض فهم الواقع بكل تحدياته، حيث شارك الطلبة صناع القرار عبر توظيف الصورة والفيديو الذي أنتجوه بصدد توثيق ورصد القضايا المجتمعية التي يعانيها السكان بالمدينة، حيث عمل الطلبة، خلال مرحلة البحث والتقصي، على تبئير تلك القضايا التي تمحورت حول العشوائيات السكنية، والصرف الصحي، ونقص المياه والمساحات الخضراء.

 

وهدفت الورشة إلى التأمل الذاتي للطلبة والناس في الممارسات التي نقوم بها تجاه هذه القضايا الملحة، وإعادة إنتاج الثقافة المجتمعية، وكيفية تطوير دور المدارس في المجتمعات المحلية، ودور البلدية في خلق مساحة من الحوار والتعرف على التحديات التي تواجهها البلديات، إضافة إلى الدور الثقافي والتوعوي والإنساني لها لتحسين واقع الخدمات في المدينة.

 

تقول الطالبة سجود يوسف: "استطعنا استكشاف خان يونس بعيون جديدة عبر توظيف الفنون كأداة للتعبير والتفكير العميق لنبني أدوار جديدة لنا كأفراد، ومن المهم أن نتحول من دور المساءلة إلى الشراكة لخلق المسؤولية الجماعية".

 

شكلت الجلسة الحوارية ما بين الطلبة والبلدية مرحلة جديدة في التحدي لديهم في المشروع، ما زاد إرادتهم على الاستمرار في طرح ومناقشة كل تلك القضايا ومعالجتها، بطريقة فنية تتيح للمتلقي والمشاهد فرصة المشاركة في التعبير ليكونوا أصواتاً لأنفسهم وللآخرين، وربما كانت تلك العبارة التي تركتها المرأة البدوية في الفيديو الذي وثقه الطلبة خلال زياراتهم الاستكشافية للقرية البدوية: "إحنا بخان يونس ما حدا سامع صوتنا!"، كان لهذه الكلمات وقعٌ مختلفٌ على الطلبة ليتبنوا صوتها، ويعملوا على إيصاله، "فكل ما لا يرى في هذه المدينة سنعمل على جعل الكل يراه، وكل ما لا يسمع هنا في هذا الفضاء المترامي، سنجعله صورة وصوتاً"، هذا ما قاله الطالب عمر الجبور في تلك اللحظة.

 

 

شكل (2) يوضح العلاقة التفاعلية خلال الورش التشاركية بالمشروع.

 

الكاميرا كعين ثالثة

كان الطلبة قد تلقوا تدريباً مكثفاً خلال منتجهم المرحلي لاكتساب مهارات التصوير وكيفية توظيف الصورة كأداة للبحث والاستقصاء مع مدرب مختص لتوثيق المقابلات في منتجهم المرحلي خلال تجربته مع الطلبة.  يقول أحمد حمد: "لا أصدق أن مشاريع كهذه تحدث مع طلبة خارج سور المدرسة، وبهذا العمق وهنا، تحديداً، في خان يونس هذه المرة الأولى التي أعمل فيها مع طلاب يافعين، لكني تفاعلت بطريقة جديدة؛ نقاشات، وحوارات، وتفاعل، وتدريب، والحقيقة الوحيدة أن طلابنا رائعون، ويستحقون كل فرصة للتعلم الحقيقي".  وعندما قرر هؤلاء الطلبة التعمق في توظيف الفن كأداة لإعادة إنتاج القضايا التي عملوا على تبئيرها في خمس قضايا جدلية أرادوا التعبير عنها من خلال السينما وصناعة الأفلام، بدأ الفريق مرحلة الانخراط مع مخرجين ليمكنوا الطلبة من إنتاج فيلم يوثق نتاجات بحثهم مع المجتمع، من خلال بناء سيناريو يوثق تجربتهم، ويمكنهم من إعادة قراءة الصورة التي عملوا على رصدها بعدسة الكاميرا لتصبح عيناً أخرى للبحث والاستقصاء، ليس في واقع خان يونس فحسب، بل في ذواتهم أيضاً، لمعايشة حالة من التحرر، وللخروج من القوالب ليكون الفيلم طريقاً لفهم ما نعيشه أولاً، ثم كطريقة مغايرة لتصويره والتعبير عنه.

 

عبرت الطالبة علا العديني خلال التدريب "لم أكن أعلم أن الصورة قادرة على أن تحرك المشاعر، بهذا الشكل الكاميرا أصبحت كصديق جديد بالنسبة لي".

 

شكلت المرحلة الجديدة في الانخراط مع الفنانين منطقة ثرية للتعلم؛ بهدف تمكينهم من تجسيد رحلتهم البحثية عبر منتج، يوثق قصة المشروع فيهم وقصصهم داخله، وتوزع الطلبة في المشروع إلى خمس فرق يعملون معاً برفقة المخرجين عبد حسين، ومنتصر السبع، لإعادة إنتاج الأشياء من منظورهم، ومن وجهة نظر الآخر أيضاً.

 

تلقى الطلبة خلال هذه المرحلة تدريباً نظرياً حول الفن السينمائي وأساسيات التصوير والمونتاج وكتابة السيناريو، لينطلقوا عبر جولات ميدانية تمركزت في مناطق البدو والعشوائيات، وشاطئ البحر، ومكبات الصرف الصحي، وسور القلعة الأثرية، والمناطق الخضراء.  كان النقاش بينهم يدور حول ما الذي يمكننا رؤيته في بيت صفيح بمنطقة عشوائية، أو بجوار سور القلعة المتآكل، أو ربما في حياة امرأة بدوية، أو في حقيبة طفل يمر في طريق مدرسته ببركة كبيرة للصرف الصحي.  الزوايا، الأحجام، حركة الكاميرا، اصطياد اللحظة ومونتاج الصورة ليس كافياً لتنتج فيلماً يحكي ما لا يرى، ويرى ما لا يحكى، لأنك بحاجة، أيضاً، لقصة تربطهم جميعاً، لتستطيع إيصال رسالة للمشاهد.

 

قد بُني السياق الفيلمي على مفهوم أن الطلبة هم كتاب السيناريو، والباحثون، والكاميرا عين للبحث، من خلال الصورة نرصد دورهم في المشروع وبحثهم عن القضايا، من جهة، ومن جهة أخرى، تكشف الكاميرا القضايا المجتمعية في مدينة خان يونس.  الكاميرا هي العين الثالثة لهؤلاء الطلبة، ليس فقط للبحث والاستكشاف، وإنما لمحاكمة الممارسات والنظر فيها، حدثت عملية التصوير في ضوء فلسفة المتناقضات للمشاهد، وبالتالي يشتبك الجمهور، فيما بعد مع الفيلم.  حالة الاشتباك باتت، أيضاً، مع تفكيرهم، فالعديد من التساؤلات تتولد معهم في كل لحظة، وهذا يمكنهم من التعمق في دورهم".  فيما عبر المخرج منتصر السبع عن دهشته من مستوى الوعي والمسؤولية الذي يظهرها الطلبة قائلاً: "كنت أعتقد أنني ذاهب إلى مجموعة من الطلبة أقاموا بتدريبهم حول الكاميرا وينتهي المشروع بالنسبة لي، وسأعطيهم بعض المعلومات لأنتج فيلماً عنهم.  اليوم أعمل أنا معهم وأشاركهم كل تفاصيل العمل لأخرج فيلماً معهم".



 

شكل (3) يوضح تطور عملية التعلم عبر توظيف الكاميرا

 

 

التعلم عبر الفنون

"الفن ليس مرآة تنظر بها لترى الواقع، بل مطرقة تستخدمها لتكوينه".

فلاديمير مايا كوفسكي

 

طرح المشروع هذا التساؤل، وفحص مدى أهمية الفن في إعادة تشكيل الواقع وأثره على عمليات التعلم.  انطلاقاً من فكرة توظيف الفنون كأداة تعيد إنتاج الثقافة في المجتمع، وتخلق حراكاً مجتمعياً نشطاً لإثارة الوعي وتشكيل المستقبل من جهة، ومن جهة أخرى للبحث في ممكنات التعلم لننتج طالباً باحثاً وناشطاً باحثاً وفناناً باحثاً عبر مشروع مجتمعي، يعمل على تفكيك الواقع ويعيد إنتاجه.  وبالرجوع هنا إلى الموروث الفكري، فقد نظرت فلسفة "نيتشه" إلى الفن بأنه ليس تمثيلاً للحياة، بل هو الحياة، وبأنه يتعدى كونه مجرد نشاط خاص بالفنان، ليتحول على يديه إلى منظار للحياة، ويتبنى "نيتشه" مفهوماً للفن ليخرج من حدود الدائرة الجمالية، ويتحول إلى نشاط ميتافيزيقي أكثر منه نشاطاً خاصاً بالفنان وحده،[4] وهذا ما أكده "جون ديوي" أيضاً بضرورة ربط الفن بالتجربة؛ لتوثيق الصلة بين الفن الجميل والفن النافع.[5]

 

شكل (4): مرحلة انخراط الفنان في تجربة المشروع

 

وفي مرحلة انخراط الفنان داخل المشروع للعمل مع مجموعة من الطلبة لإنتاج فيلم حول رحلتهم البحثية لقضايا مجتمعهم، كانت البداية مربكة نظراً لطبيعة تدخل الفنان، ما استدعى طرح العديد من الأسئلة، فهل الفنان بحاجة لتوثيق رؤيته الشخصية ومعالجة الفكرة فنيا عبر منظوره

الفنان

الخاص لهذا القضايا؟ أم أنه يحتاج فعلاً ليتفاعل مع الطلبة والناس ويعمل معهم على إعادة إنتاج أفكارهم عبر الفن؟ وأي فن يحتاجه المشروع تحديداً؟ هل هو الفن الذي يركز على الصورة الجمالية لتمثيل الحياة أم لجعله حياة كما ذكر "نيتشه

الفنان"؟

 

إلا أن الفن داخل المشروع يتخطى بدوره حدود الرؤية، ويدفعنا إلى إعادة الرؤية في الرؤية لنطرق الواقع ونعيد تشكيله.  يقول الفنان المخرج منتصر السبع في تأمله لتجربة المجاورة مع الطلبة والناس: "ما معنى أن أكون في المجتمع؟ كيف أرى دوري؟ وكيف يكون المجتمع الذي أرى نفسي فيه مواطناً كاملاً؟ ببساطة بضع أسئلة صغيرة قام على أساسها مشروع نوعي عشت خلاله تجربة جميلة أعادت لي ذاكرتي مع المدرسة والمجتمع.  الفن الذي لا يكون إنسانياً ومجتمعياً لا قيمة له، وهذا تحديداً ما جعلني أعمل مع هؤلاء الطلبة بالشغف نفسه، والهدف الأساسي بالنسبة لي تمكنهم من أن يكونوا طلاباً غير عاديين في ظل منظومة تعليمية اعتيادية ونمطية، وتخلق نسخاً لما نريد في هذا المشروع، كانوا هم من يخلق ما يريد وليس نحن".

 

لم يكن انخراط الفنان مع الطلبة وحدهم، وإنما في كل جولة من جولات عرض الفيلم "كان في الخان" فيلم يعكس تجربة الطلبة في المشروع، ويبرز قضايا المجتمع عبر الطلبة أنفسهم.

 

فكل ما هو في الخان حاضر وبقوة.  تم عرض الفيلم كنتاج للطلبة في جميع مناطق قطاع غزة، في محاولة لمناقشة هذه القضايا من وجهات نظر مختلفة وعبر شرائح مجتمعية متنوعة.

 

علي البطة أحد المشاركين في ورش العروض يقول: "فيلم "كان في الخان" هو مواجهة مباشرة مع المجتمع بكل فئاته، أحدث استفزازاً لكل ما بداخلنا، حيث طرح الطلبة أسئلة كبيرة على المجتمع رغم أنهم صغار، إلا أن أسئلتهم كبيرة تحتاج لإجابات متعمقة.  الفيلم أنتج لنا طلبة مصورين وباحثين وكتاب سيناريو وقادرين على التعبير عن قضاياهم بقوة".

 

بينما يرى المخرج عبد حسين أن الفيلم يعالج قضية الإنسان أكثر من القضايا المطروحة بالصورة نفسها.  ليشارك جميع الناس في حوار إنساني جمعي بعيداً عن فكرة الرأي الواحد وإعادة التفكير في أدوارنا أولاً، فقد لعب الطلبة في المشروع أدواراً جديدة لم نعتد عليها، وهذا خطوة في التغيير".

 

خلاصة

عندما يتعلم الطلبة في مشروع، فإنهم يخرجون من الحيز النمطي، لأن مسار المشروع يربطهم بواقعهم ومحيطهم فيصبح تعلما ذا معنى، ومغايراً لما يحدث داخل حدود الغرف الصفية الذي يكون فيه الطالب متلقياً وليس منتجاً للمعرفة.  وقد شكل مشروع المشاركة المجتمعية جسراً لخلق شراكات حقيقية مع البلديات ومؤسسات الحكم المحلي في عملية تشاركية ما بين الطلبة والناس، عبر تفاعل مجتمعي يحمل فكرة الشراكة "أنا والآخر"، لخلق أدوار مختلفة للفرد والجماعة، لاستكشاف قضايا اجتماعية، ولدمج الفن والثقافة في الممارسة الحياتية، ليس لأجل الناس، بل من خلال عمل الناس لأجل أنفسهم؛ والعمل ضمن منظوراتهم وحاجاتهم، وتوظيف الفن وأدواته كسياقات للرؤية والتعبير والتدخل، ليكون المنتج الفني هو نتاج لعمليّة بحثٍ مجتمعيّ، وورش عملٍ مع طلبة وأمّهات وفنّانين ومعلّمين لبناء صيرورة عبر الفعل الثقافي والفني، ليتحولوا من طلبة في مشروع إلى مشروع الطلبة أنفسهم، ويحمل أهمية وقيمة بالنسبة لهم، فيكون ملكاً للطلبة يدافعون عنه ويعملون على ديمومته، وحتى بانتهاء المشروع ذاته، سيبقى أثر التعلم موجوداً، وهنا تحديداً يمكننا أن نقول إنه تعلم حقيقي، يبني الآخر فينا ويبنينا مع الآخر في الوقت ذاته، عبر تجربة الانخراط والكتابة؛ تلك الكتابة التي تدفعنا إلى الانفتاح على كل الممكنات عبر الخاص والعام معاً، فيكتب الطلبة قصصهم في المشروع، وقصصهم عن المشروع، هذا النوع من الكتابة يجعل الطلبة في موقع المتأمل والمقيّم والمطور للتحديات التي تواجههم في تحقيق أهداف المشروع وأهدافهم كمتعلمين، فالذي كان يشكل حافزاً لتعلم الطلبة في المشروع، وسعيهم إلى اكتساب المعارف والمهارات والاتجاهات، هو الذي كان يعنيه هذا المشروع بالنسبة لهم.  إذاً، فنحن نحتاج للمزيد من هذه التجارب التعليمية المجتمعية داخل مدارسنا ومؤسساتنا التربوية سعياً إلى تحرير المتعلم ليكون اجتماعياً وإنسانياً، وليتمكن من توظيف خبراته في الحياة.

 

*نائب مدير مدرسة بنات المأمونية الإعدادية (أ)

 

 

الهوامش:

[1] علي أسعد وطفة.  "المثقف النقدي مفهوماً ودلالة"، قضايا راهنة، العدد 11، (المجلة الإلكترونية).

[2] حسام فتحي أبو جبارة.  "تربية الحرية عند باولو فريري: الأخلاق والديمقراطية والشجاعة المدنية"، نشرة كنعان الإلكترونية، السنة التاسعة، العدد 2112، 26/112/2009:

https://kanaanonline.org/2009/12/268

[3] ليلى حلاوة.  "تعليم المقهورين"... شرط الحرية والثورة"، ديسمبر 2014:

https://www.alaraby.co.uk/supplements/2014/12/3/9

[4] معزوز عبد العالي.  "فلسفة الفن عند نيتشه وهيدجر"، أنفاس، 27 تموز/يوليو 2008:

https://www.anfasse.org/2010-12-30-16-04-13/2010-12-05-17-29-12/2310-2010-07-04-16-34-46

[5] النظرية التجريدية: https://www.marefa.org/%D8%AC%D9%88%D9

     كفاح فني.  2016.  "التعليم في الفنون".  رؤى تربوية، عدد 51-52، رام الله: مؤسسة عبد المحسن القطَّان.