من البداية إلى البداية

الرئيسية من البداية إلى البداية

لينا داود*

عمل بعنوان " اسم إمك" من معرض " اليد الثالثة" / قلقيلية 2017 القطان.

 

كنت أعتقد أن لكل بداية نهاية، ولكن انخراطي في هذا المشروع أتاح لي أن أبدأ بالحياة بطريقة مختلفة.  كنت ضمن مجموعة الأمهات اللواتي يبحثن عن قضايا المجتمع ومشاكله، وعندما راقت لي الفكرة، قمت بالانخراط ضمن مجموعة المتطوعين الذين عملوا على المشروع.

 

كان هناك بعض من التردد، فبعض الأعضاء انسحبوا من المشروع في بداياته؛ بسبب الخوف من المجتمع، وربما هو خوف من التفكير بطرق مختلفة، وكأن هناك العديد من الأسئلة حول الفن وكيف سيعكس قضايا المجتمع؟ وهل سيكون مغايراً لمعايير المجتمع السائدة؟ وما هو رأي المجتمع؟ وهل سيتقبل الفن؟

أكاد أذكر المواقف وكأنها تحدث الآن.  قبل أربع سنوات كان اللقاء الأول مع الفنانين والمشرفين في مشروع "الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية" من مؤسسة عبد المحسن القطان، قال لنا مالك الريماوي، مدير مسار اللغات والعلوم الاجتماعية في برنامج البحث والتطوير التربوي: "أمامكم بالون وعصي من الخشب، كيف من الممكن أن أدخل هذه العصا في البالون دون أن تنفجر؟".  وكان التحدي ضرباً من الجنون، فكلنا نعرف أن البالون سرعان ما سينفجر، ولكن حاولنا، ومن ثم وقف مالك وبكل بساطة وسهولة وأدخل العصا في البالون، ولم ينفجر.  ومن هنا بدأ السؤال الأول: كيف حصل؟ وما الهدف من هذا التمرين؟ أجابنا أنه يعلم ما هو مصدر القوة في البالون، في نهايته هناك بقعة سميكة، أدخل العصا من خلالها بكل هدوء وفعلاً لم ينفجر.  أما عن سؤال ما الهدف من التمرين؟ قال هكذا تماماً: المجتمع إذا قمنا بدراسته وعلمنا مصادر قوته وضعفه، حتماً سننجح في فهمه ومعرفته وتمرير المعلومات له.

كان هذا الدرس الأول، ولم يكن الأخير، فعلى خارطة كبيرة لمدينة قلقيلية، قمنا بوضع أكثر المشاكل التي تعاني منها قلقيلية من وجهة نظرنا كأبناء لهذا البلد الذي نعيش فيه منذ سنوات، والطريف في الأمر أننا نرى الآن ما لم نكن نراه سابقاً، وليس العيب في عيوننا، ولكننا لم نكن نفتح العين الثالثة، وهي في رأسنا، كنا نمر مروراً على كل ما يحدث، تدرجنا في المشاكل من العام إلى الخاص، ووجدنا الكثير من المشكلات التي تخص مدينتنا بشكل خاص، وقلقيلية كانت ثوباً أبيض، ولكن فيه القليل من البقع التي تفسده، أو لا تنسجم معه، والأغرب هو أن مهمتنا لم تكن بنقع البقع وغسلها، بل كانت بكيف نرى هذه البقع؟ وكيف نجعل المجتمع يراها؟ ولكن بطرق وأدوات جديدة لم نستخدمها من قبل.

كان هذا اليوم الأول الذي كان بمثابة صفعة لي وكأنها -رغم ألمها- علمتني أن أنظر أمامي وداخلي وهنا، بدأت رحلتي ولم تنتهِ إلى الآن.

بعد البحث في قضايا قلقيلية، أخذت أفكار وأسئلة تدور في رأسي، وما زالت، حول الأمور التي نسلم بها، ولا نلقي لها بالاً فقط من أجل أنها أصبحت عادة، وننظر لها على أنها أمر اعتيادي، ولكن الآن مهمتنا أن نعيش الأشياء ونحسها ونفهمها ونسلط الضوء عليها.

أذكر في لقاء لنا مع مالك الريماوي والفنانين، دخلنا القاعة لنجد غسالة ملابس مستخدمة في وسط القاعة، وهنا بدأنا بعيون دائرية ننظر إلى بعضنا، وضحكنا وسألنا ما هذا؟ وماذا سنفعل بهذا؟

والسؤال للمجموعة من الفنانين كان ماذا يمكنكم أن تفعلوا بهذه القطعة؟ وسرعان ما بدأت الأفكار تطرح في القاعة، وهنا سنعيد استخدام هذا الغرض ونحيك قصة جديدة له.

عندما نزلنا جولة إلى الشارع، اختلفت نظرتنا إلى الأشياء، فلم تكن كما نظرنا لها في القاعة، فعند رؤية الناس والتفاعل معهم والقصص التي يعرفونها عن هذه الأدوات، تبادر إلى أذهاننا لو أن الأدوات تتكلم، فما هي قصتها الأولى؟ وكيف وصلت إلى هنا؟ وكيف كانت رحلتها؟

هناك أفكار بدأت من القاعة وتطورت عند نزولنا إلى الجولة الميدانية، وهناك أفكار تولدت بعد الجولة الميدانية؛ فاختلفت نظرتنا للأدوات والأثاث الموجود، كما اختلفت نظرتنا لذواتنا، فنحن في قوقعتنا وزاويتنا الآمنة الشخصية، ننظر إلى الأمور بطريقة مختلفة عما ننظر لها، ونحن في مكان عام، يتيح لنا التفاعل مع الأشخاص والأدوات ونسمع قصصاً جديدة غير التي في رؤوسنا.

من النظر للأمور في قاعة، إلى رؤيتها في حيزها العام، إلى المناقشة في القاعة، ومن ثم عرض المشروع أمام أشخاص مهتمين في قضايا مدنهم ومنخرطين في المشروع من محافظات مختلفة، فتم العرض في أريحا وفي رام الله، وسمعنا وجهات النظر المختلفة حول الأفكار التي حملناها معنا، كان الأمر يتطور، كما نتطور نحن، ففي كل موقع يظهر جانب جديد منا، ونرى أنفسنا في أدوار مختلفة، وكأننا نكتشف جوانب جديدة في ذواتنا مع اكتشاف قضايا المجتمع وانخراطنا معه.

جولة في سوق الأثاث المستخدم خلال المشروع، جعلتنا نتعرف على بلدنا للمرة الأولى، قمنا بتصوير كل ما نراه ونركز على ما يلفتنا ويثير التساؤل فينا خلال جولتنا، قمنا بتصوير الكراسي والعربات والدراجات والمغاسل والساعات والأحذية والكثير من القطع المتناثرة هنا وهناك على أرصفة الطرق، وأدخل المحلات التجارية الخاصة بها والساحات التي كانت تعج بالقطع المستخدمة.  وللحظة، وقفت أمام بحر من الدراجات، وهنا أصبت بالذهول من كميتها وألوانها وتداخلها، ولكن ما أثار ذهولي وفضولي، ما هي القصص التي تحتويها هذه القطع عندما تنتقل من شخص لشخص، ومن زمان لزمان، ومن مكان لمكان، وحتماً من قصة لقصة، فهي تحمل الكثير من الذكريات والقصص التي لا نعرف بداياتها، ولكن نعرف أنها الآن أمامها، ولا نعرف إلى أين ستؤول.

قمت بالتصوير، وأكثر ما لفتني هو الإكسسوار الخاص بالسيدات والعديد من الأساور، وتحديداً الأساور التي لم أعرف لماذا تلفتني؟ وأنا لا أحبها ولا أستخدمها بكثرة، ولكنها أثارت فضولي.  العديد من الأساور الملونة، هناك ما هو لامع، وهناك ما هو مطفي، وهناك ما هو عريض، وهناك الرفيع منها.  وفجأة خطر برأسي سؤال: ما هذه الأصفاد التي تلبسها المرأة! ولماذا؟ وفجأة، انفجرت قنبلة موقوتة لم أكن أعي، هل هذه أنا أم أن هذا تأثير كل ما شاهدت وقفت وقلت: لحظة يا جماعة ما هذه القيود؟ ولمَ على المرأة ارتداؤها؟ ولماذا يقبل المجتمع الرجل كما هو ولكن المرأة يجب أن تلبس هذه الأصفاد؟ ولماذا نقبل محمد وحسن وإبراهيم وسعيد كما هم ولكن المرأة عليها أن تكون (مليكان) لتعرض هذه الخردوات من خلالها؟ لماذا يجب أن نكون مقيدات ومبهرجات بالألوان والسلاسل؟ ولماذا لا يكتب اسمنا على كرت العرس لما يكتب كريمته؟ وهل يقبل الرجل أن نكتب كريمها وأن نضع اسم العروس بشكل صريح؟

من هنا بدأت أول فكرتين؛ الأولى اسم الفتاة في كرت العرس، حيث بدأت في القاعة وتطورت في الجولة، والثانية من الجولة تولدت الفكرة وهي أن تكون المرأة حرة ولا تسمح لأي أحد أن يقيدنا، فالحرية أكبر وأعمق من سلاسل وألوان، الحرية هي أن نكون نحن كما نحن، وأن يقبلنا المجتمع هكذا، نعم كوني حرة واخلعي عنك هذه السلاسل والقيود، فأنت نصف المجتمع، وأنت التي تلد وتربي النصف الآخر؛ أي إنك مجتمع متكامل، ولست بحاجة لبهارج لتكملك، إنك القائدة والأم والمعلمة والقوية والحرة.

أما عن فكرة كرت العرس، فكانت لها قصة طويلة قمنا بالبحث عنها كفريق لنعرف لماذا ومن يفرض وينسق هذا الكرت؟ ولماذا يطمس اسم الفتاة فيه؟ ومن المسؤول؟ الدين؟ العادات والتقاليد؟ الرجل؟ المرأة؟

لمعرفة إجابات كل هذه التساؤلات، قمنا بمشاركة المجتمع في بحثنا عن الحقيقة، أو ما يخفي المجتمع، فنزلنا إلى الشارع وسألنا سؤالنا الذي يخفي خلفة توجهات المجتمع، وسؤالنا كان: لو قمنا بإعطائك هذه الورقة وطلبنا منك كتابة اسم أمك أو أختك أو زوجتك فهل تفعل؟

ذهبنا برحلة في المجتمع محملين بسؤال، تجولنا في أماكن عدة؛ منها الشوارع والمقاهي والمؤسسات والمحال التجارية، قمنا بجمع 1000 بطاقة، والمثير للاهتمام أننا بعد أن قمنا بجمع البطاقات وفرزها، وجدنا أن الأغلبية ليس لديهم أي مشكلة في كتابة الاسم، وعدد قليل جداً لم يكن يرغب ولا يوجد أساس منطقي للموافقة أو الرفض، فلم تغلب فئة عمرية مثلاً للرافضين، أو حسب العمل، أو التعليم، أو الدين.

وهنا نعود مجدداً للسؤال بما أن الدين لا يعارض كتابة اسم الفتاة، بل بالعكس، فهو من شروط الزواج الإشهار، وبما أن العادات لا تعارض وفقاً للعدد الكبير الذي وافق، إذاً، لمَ يعتاد المجتمع على أمر معين دون مرجعية واضحة؟ هل هو الاعتياد؟ هل هي فكرة فردية ومن ثم أصبحت عامة؟ والسؤال الأكبر لماذا يرضى أفراد المجتمع المضي قدماً على مبدأ المثل الشعبي (حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس) على الرغم من وجود تنوع في المجتمع، ولكن لم يغير عادات ليس لها أصل واضح ولا سبب حقيقي.  وتعلمت أن لا أكون شخصاً عادياً أو نسخة مكررة.

على الرغم من أننا كمجموعة من المجتمع لم نتفق مع الفنانين في الشكل النهائي للعمل، وإلى آخر لحظة بقينا نناقش حتى قبل الافتتاح بدقيقة، كان العمل النهائي لهذه الفكرة هو أن يقوم زوار المعرض بأخذ صورة لهم والكتابة تحتها أسماء الإناث في حياته: الأم، الأخت، الزوجة، الابنة، ويكتب عبارة بعدها، وكانت في غالب الأحيان أنا فخور بها.

وهنا تعلمت أمراً جديداً هي أن الفكرة بقيت كما هي، وإن اختلف المُخرَج النهائي، وعند تفاعل الزوار أيقنت أن الفكرة كانت وما زالت وإن اختلفت المُخرَج.

أمور كنت أعتقد أنها عقبات، وفيما بعد اكتشفت أنها المحرك الأساسي للعمل، ربما اعتدت على ما هو سهل ومتاح، ولكن الفنانين كان هدفهم ما هو أعمق وما هو أبعد، على سبيل المثال: عند طرحي موضوع كرت العرس واسم العروس، كانت البداية هي أن نذكر أسماء النساء أو صورهن وأن نكتب عنها، وبعد ذلك تغير المخطط، ومن ثم فكرنا، لو أن نستبدل اسم العريس بكريمها، وهنا ذكر الفنانين أننا نسلط الضوء على المشكلة ولا نقوم بمحاربة أحد أو إثارة الاستياء.  استمر العمل، وكان المطلوبَ تفكير بعمق، وتوليد أفكار نشارك بها المجتمع ولا نحارب المجتمع.

كان هذا كله، ضمن المعرض الأول "اليد الثالثة"، الذي تم إنتاجه ضمن مشروع "الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية" من قبل مجموعة من النشطاء والباحثين والفنانين في قلقيلية، وهم: سلام أبو لبدة، مها عتماوي، منار زيد، عصمت زيد، سعيد خضر، صهيب منصور، عبير عودة، محمد أبو عباة، لميس تركي، وسام شريم، لينا داود، وبإشراف وإنتاج من الفنان التشكيلي رأفت أسعد، والفنان التشكيلي بشار خلف، والمخرج المسرحي عيد عزيز، والمخرج بلال الخطيب، وباحثين من "القطان": مالك الريماوي، عبد الكريم حسين، يوسف كراجة، فيفيان طنوس.

عمل بعنوان " كوني حرة" للينا داود، من معرض " اليد الثالثة"، قلقيلية 2017 القطان.

 

شهد معرض "اليد الثالثة" تجربةً جماعيّة، بحيث يتم إنتاج الأعمال الفنية بصورة جماعية، في حين المرحلة الثانية من المشروع، عمل الفريقُ على نماذج مستقلة، نابعة من التجربة الذاتية كنموذجٍ يحاكي المجتمع بوجهةِ نظرٍ شخصيّة، مشيراً إلى أنّ هذا التفرّد لم يشكل انسلاخاً عن مفهوم العمل الجماعيّ، وتم إنتاج معرض "بروفايلات: سيرة مدينة" من قبل مجموعةٍ أوسع من النشطاء المجتمعيين، منهم وسام شريم، ودولة زيد، وإسراء أبو لبدة، وغادة أبو لبدة، وذلك بإشراف الفنانين بشار خلف، ورأفت أسعد، وعيد عزيز، وبلال الخطيب، ومن "القطان" كل من مالك الريماوي، وعبد الكريم حسين، وسماح الخواجا.

قدمت عملاً أدائيّاً، أجلسُ فيه على طاولةٍ صغيرة مربعة وأمامها مقعد فارغ، ليجلسَ أيٌّ من زوار المعرض، بهدف "التواصل"، إنّه مثل الماء والهواء، دونه نتحوّل إلى سكون، لكي نستعيد الروح والحضور والقدرة على احتمال الحياة، يجب أن نتحدث، يجب أن نرى، حدثني حتى أراك، انظر لي كي أسمعك.

 

فكرة عمل "التواصل"

فيما يتعلق بفكرة التواصل، قمت بالعديد من التجارب لأصل إلى الشكل النهائي.  لا شك أني كنت أرغب في طاولة وكرسيين في الشارع، ولكن لا يمكن التحكم في المحيط، ما قد يعرض العمل للفشل.

لو تسلسلت في التجارب فكانت هكذا، بدأت بفكرة التواصل وأهميتها، ومن ثم الملاحظة التي استغرقت وقتاً، فمن ملاحظة العائلة وزميلاتي في العمل لملاحظة جارتي وهي تغرق رأسها في جوالها إلى مرحلة البحث، ومن ثم جربت النزول إلى الشارع والتواصل مع الناس من مختلف الفئات، كما جربت أن أسمع بعض الأشخاص أصوات تصدرها التطبيقات الإلكترونية الخاصة بالتواصل، وطلبت منهم أن يغمضوا عيونهم، وأدركوا كم هي مزعجة ولم يسمعوها من قبل؛ لأن دماغهم مشغول.  كانت هذه التجربة مع مجموعات من المتطوعين المنخرطين في مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية من محافظات عدة.

بعد المشروع، كنت أعتقد أني بحاجة لأن يستمر أكثر، وكان بداخلي رفض أن ينتهي المشروع، ولكن الحقيقة هي الحقيقة فما المهم الآن، ما أثر هذا المشروع على شخصيتي وعلى من حولي وفي عملي؟ وهنا أيقنت أني أصبحت أتعامل مع الأمور بطريقة مختلفة، وكأن المشروع تحول إلى شخص يتجول في المجتمع، والآن أعمل مع الطالبات على مشاريع تشجعهن على المسؤولية المجتمعية بعيداً عن الكتابة ومجلات الحائط.  واحد من المشاريع هو "لك عيني"، حيث نقوم بتحميل كتب صوتية وسنرسلها إلى جمعية المكفوفين في قلقيلية، وهناك مشروع آخر قمت باستخدام الأدوات والفن فيه، وهو رحلة لمدة يوم واحد في حياة معلمة.

كل ما على الطالبات فعله هو وضع السماعات ليسمعن الرحلة من بداية اليوم إلى نهايته، ليستطعن أن يشعرن من خلال الصوت، بما تمر به المعلمة والأدوار المختلفة لها، وهذا باعتقادي، سيجعل الطالبات أكثر فهماً للدور الذي تقوم به المعلمة، وربما يؤثر على طريقتهن في التعامل مع المعلمة.  والشيء الذي بقي داخلي من المشروع هو السؤال، حيث أربط كل معلومة أسمعها أو حدث بأسئلة، وأعمق ذلك بالبحث، فتوقفت عن أخذ الأمور كمسلمات.

 

*مرشدة تربوية - مدرسة إناث قلقيلية الشرعية الثانوية