"كورونا" .. حقيقة أغرب من الخيال!

الرئيسية "كورونا" .. حقيقة أغرب من الخيال!

تغريد النجار*

فعاليَّة "بيت ميس"، قدّمتها إلهام أبو حميدة، ضمن نشاطات مكتبة ليلى المقدادي القطّان، شباط 2020.

 

قد يبدو لنا أن ما يحدث في مجتمعاتنا منذ أشهر بسبب فيروس كورونا ضرباً من الخيال العلمي المخيف.  فيروس لا يرى بالعين المجردة يتحكم في الأرض ويضع سكانها تحت سطوته.  يحبسنا في البيوت ويمنع أطفالنا عن مقاعد الدراسة، ويقتل دون رحمة عدداً لا يستهان به من سكان الأرض.

ولكن ...  مع الأسف، فإن ما يحدث لنا ليس حلماً مزعجاً ولا فيلماً، ولكنّه حقيقة مرعبة له تداعيات خطيرة على كل نواحي حياتنا، وحتى هذه اللحظة لا نعرف متى سنتغلب على هذا الفيروس، ولا كيف سنتعايش معه بأقل الخسائر.

سأتكلم عن تجربتي الشخصية في التعامل مع تبعات هذا الوباء كعائلة وكاتبة وناشرة.

في بادئ الأمر، ظل زوجي -الذي يحب الخيال العلمي- يقول لي ممازحاً أن ما يحصل ما هو إلا تجربة اجتماعية تقوم بها مخلوقات فضائية على سكان كوكب الأرض، ما يعني أننا نحن أنفسنا أصبحنا فئران تجارب دون أن يكون لنا علم بذلك.

وطبعاً، فإنَّ نظرية زوجي الخيالية ما هي إلا واحدة من نظريات عديدة خرجت علينا لترجع سبب هذه الجائحة إلى نظرية المؤامرة أو الخديعة.  كنت أضحك وأقول له إن نظريته مناسبة لرواية خيال علمي قد أكتبها يوماً ما.

في بداية أيام الحظر التام في الأردن، لم أتضايق، بل قررت أن أعتبرها فرصة ذهبية لي ككاتبة كي أتفرغ لكتابة العديد من القصص دون أي مقاطعة أو إلهاء تسبّبه مشاغل الحياة اليومية العادية.

ولكن -للأسف- لم تتحقق توقعاتي، فقد وجدت أنني غير مستعدة نفسياً للكتابة، وبخاصة لأنني أتوجه بكتاباتي للأطفال واليافعين، هذا النوع من الكتابة يحتاج إلى السكينة والصفاء الذهني.  لاحقاً، اكتشفت أنّ كثيراً من الكتّاب مروا بنفس التجربة، واكتشفوا أن هناك حاجزاً نفسياً يمنعهم من الكتابة.

كان على الجميع أن يتأقلموا مع الواقع الجديد، كل حسب ظروفه الشخصية.  وأكبر تحدٍّ واجه معظم العائلات كان ملء أوقات أطفالهم بكلّ ما هو مفيد من أنشطة ممتعة وخلاقة داخل البيت، إضافة الى متابعة تعليمهم عن بعد.

وعلى نطاق مهني، كان علينا كدار نشر أن نتفاعل مع متابعينا بشكل أكبر حتى نساند الأهل بأنشطة ثقافية تمتع أطفالهم.

حاولنا قدر المستطاع أن نشجع الأطفال على القراءة في أوقات الحجر التام، وذلك لأننا نؤمن أن القراءة هي أفضل الحلول لتخطي هذه الفترة الحرجة من حياتنا.  فقراءة القصص تسلي وتفرح الأطفال وتقلل من قلقهم، وتزيد من معرفتهم، وتساعدهم على قضاء الوقت كما تبعدهم عن الأجهزة الإلكترونية.  قد يقول البعض: ولكن ما الفرق بين قراءة القصة ومشاهدة فيلم على التلفاز؟ الفرق ببساطة هو كيفية تحليل الدماغ للتجربة؛ فعند المشاهدة على التلفاز أو الأجهزة الإلكترونية، يكون العقل متلقيّاً، ولكن عند قراءة القصص والروايات يكون الدماغ نشطاً ومتفاعلاً، يحلل ويتخيل ويتصور المادة التي يقرأها.

لذلك، فكرنا بإطلاق مسابقة لحث الأطفال على القراءة، وبسبب ظروف الحجر طلبنا منهم قراءة الكتب المتوفرة في البيت، أو عن طريق منصات القراءة التي يتابعونها.

قمنا بإطلاق مسابقة "تحدي القراءة مع دار السلوى"، وكان المطلوب قراءة 30 كتاباً على الأقل بأي لغة، ولأي دار نشر، على أن يفوز معنا أول 10 أطفال يرسلوا لنا قوائم الكتب التي قرأوها.

وقد تفاعل معنا عدد لا بأس به من العائلات والأطفال.  أرسلوا لنا قوائم الكتب التي قرأوها مرفقة بصور وفيديوهات لأطفالهم وهم يقرأون.

أما المسابقة الثانية التي أطلقناها كانت تشجع على التفريغ النفسي لخوف الأطفال وقلقهم من "الكورونا"، فطلبنا منهم كتابة ورسم قصص يتخيلون فيها الكورونا كوحش، ويصفون لنا كيف يمكن أن نتغلب على هذا الوحش.  كانت الفكرة أن الكتابة والرسم ومناقشة الموضوع مع أهاليهم سيخفف من حدة القلق الناتج عن المجهول، وفي الوقت نفسه سيفتح المجال للأسئلة ولتمرير المعلومات عن المرض.

قمنا أيضاً بحملات موجهة على منصات التواصل الاجتماعي نشجع فيها على القراءة والأشغال الفنية ونقترح على الأهالي طرقاً مختلفة لتسلية أطفالهم وإشغال أوقاتهم.

فعاليَّة "بيت ميس"، ضمن نشاطات مكتبة ليلى المقدادي القطّان، شباط 2020.
 

وككاتبة، طلب مني أن أشارك في ندوات وفي لقاءات عن بعد مع الأطفال لقراءة القصص.  والحق يقال إن علينا أن نشكر التكنولوجيا التي وفرت لنا هذه الفرص للتقارب، ولكنّي افتقدت بشدة وجود الأطفال من حولي بعيونهم الكبيرة المتابعة لأحداث القصة، ولضحكاتهم، وتفاعلهم.  في الحقيقة، لا شيء يعوض عن ذلك.

وفي هذه الفترة، ازدادت القراءات القصصية على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل العديد من الكتاب والمربين والمهتمين، وقد تقدم الكثير منهم بطلب الإذن من الدار لقراءة قصصنا.  شعرنا خلال فترة الإغلاق أن هذا واجب علينا؛ لذا أعطينا الإذن لكثير من الأفراد وبعض المؤسسات التي تتوجه إلى الأطفال وتعنى بهم.  ولكن بعد أن استقر الوضع، وجدنا أنه من الأفضل لنا تحديد هذه القراءات حفاظاً على حقوق الملكية لدار النشر وللكاتب.

في الحقيقة، كان لهذه الجائحة جانب اجتماعي إيجابي يحتاج إلى دراسة علمية وتوثيقية من علماء الاجتماع، إضافة إلى الجانب السلبي الذي نعرفه جميعاً.

هذا الجانب الإيجابي، أظهر مقدرة الإنسان على التكيف مع الظروف الاجتماعية الجديدة بطرق خلاقة وإبداعية.  فمثلاً، من ناحية إيجابية، قرر الكثير من الناس أن يكتشفوا مواهبهم الفنية والموسيقية الدفينة، فمنهم من بدأ الرسم والفن لأول مرة، ومنهم من عاد للفن بعد انقطاع طويل.

والكثير عادوا إلى القراءة وأنا واحدة منهم.  فقد استفدت من هذه الفرصة لأقرأ كتباً كثيرة تجمعت عندي كنت قد اشتريتها من معارض الكتب، ولم تسنح لي الفرصة لقراءتها من قبل.

وقراءة الكتب ساعدتني على العودة إلى الكتابة؛ فبدأت أكتب رواية جديدة، وطبعاً تفتقت الكثير من المواهب الأخرى عند الناس مثل الرياضة والرقص ولكن أكثرها ممارسة ومتعة كان فن الطبخ، حيث شارك فيه جميع أفراد الأسر.

كما قدر الناس قيمة توفر الطعام خلال الإغلاق التام، وأدركوا أهمية الأمن الغذائي لتوفير الأساسيات لعائلاتهم، فاتجه الكثير للزراعة الغذائية في حدائقهم وعلى الأسطح والشرفات.

واقعنا الجديد مع الجائحة، جعلنا ندرك بوضوح كم أنّ العالم الذي نعيش فيه صار صغيراً ومتشابهاً في خصائصه الإنسانية.  شاهدنا كيف يعاني الآخر في إيطاليا وإسبانيا، ولاحقاً في البرازيل وغيرها من الدول من هذا الوباء بأم أعيننا، وشعرنا أننا نشترك معهم ومع شعوب العالم بهذا الألم والمعاناة.  تفاعلنا مع العائلات المحبوسة في بيوتها، ومع محاولاتهم الترفيه عن أنفسهم والتقارب عن طريق عزف الموسيقى من شرفات منازلهم.

تفاعلنا، أيضاً، مع بطولات الناس الفردية في بلدان مختلفة، وأكثرهم من موظفي الصحة الذين وجدوا أنفسهم في خط الدفاع الأول عن المجتمع، وما أكثر من أصيب منهم بالعدوى وفقد حياته.

تفاعلنا أيضاً مع الإحصائيات والأخبار عن زيادة العنف المنزلي ونسب الطلاق في المجتمعات في أنحاء العالم.  وللأسف، لا غرابة في مثل هذه الأخبار، حيث وجدت بعض العائلات نفسها في وضع جديد، ترزح فيه تحت ضغوطات عليهم التأقلم معها.

كثير من الآباء والأمهات الذين كانوا يشكون من ضيق الوقت الذي يقضونه مع عائلاتهم بسبب العمل وكثرة السفر وجدوا فجأة أن عندهم كل ساعات النهار والليل ليقضوها مع عائلاتهم.

في بادئ الأمر كان هذا شيئاً جميلاً، وفرصة للتواصل الحميم مع أفراد العائلة، ولكن مع طول مدة الحجر، تحول هذا التقارب غير المسبوق إلى سبب للمشاكل، حيث كان لكل فرد مطالب وحاجات قد تتعارض مع مطالب الآخر واحتياجاته.  كانت المشاكل مشتركة عند كل العائلات، ولكن بنسب مختلفة، حيث لعب العامل الاقتصادي دوراً في عدم تكافؤ الفرص والحلول.  فكان الوضع أسوأ بمراحل بالنسبة للعائلات الأفقر التي لم تتوفر لديها الأجهزة الإلكترونية الذكية لمتابعة الدراسة عن بعد، أو لإشغال وقت الأطفال.  وأحياناً لم يكن لديهم اشتراك بإنترنت قوي.  كان همهم منصباً على تحقيق الاحتياجات المعيشية الأساسية فقط.

كذلك ظهرت مشكلة اجتماعية نفسية وهي الحصول على بعض الخصوصية التي يحتاجها كل إنسان؛ فقد كان هذا الأمر صعب المنال عند أفراد بعض العائلات الأقل حظاً؛ بسبب كثرة عددهم وصغر مساحة منازلهم، وعدم تمكنهم أو أطفالهم من قضاء بعض الوقت خارج البيت بسبب الحجر الكامل، وكان هذا سبباً رئيساً لازدياد العنف المنزلي.

بالنسبة لنا كناشرين لا شيء يضاهي اللقاء الإنساني وجهاً لوجه، ولكن الكورونا تسببت بإلغاء معظم المعارض العربية والأجنبية وحتى المعارض التي ظلت قائمة، كان علينا كناشرين أن نقرر إذا كان من الحكمة المشاركة فيها أم لا.  قررنا أن نختار الحذر حتى لا نعرض موظفينا وأنفسنا للخطر.  بالنسبة لنا ولمعظم الناشرين، فإنّ الابتعاد عن المعارض يتسبب بخسارة مالية كبيرة؛ لأن المعارض تمثل جزءاً كبيراً من مبيعاتنا، وتوفر لنا فرص اللقاء بمتابعينا بشكل مباشر في كل بلد عربي.

ولكن بفضل التكنولوجيا الحديثة، وتنوع أدوات التواصل، تمكنا كناشرين وكتاب وناشطين أن نتواصل.  انضممت إلى منصات مختصة للناشرين والكتاب، وتعرفت على ناشرين من أنحاء العالم، وتابعت أخبارهم واهتماماتهم، حيث تبادلنا المشاكل والهموم والحلول أيضاً، وشعرت أن العالم صغير، وأن الكورونا باعدت وقاربت بيننا في الوقت نفسه.  وها أنا أستعد للمشاركة في ندوة بعنوان (Palestine Writes) كان من المفروض أن تقام في شهر أيار في نيويورك، ولكنها أجلت لشهر 12، وستقام عبر الوسائط الإلكترونية بسبب الكورونا، وسيشارك فيها كوكبة من الكتاب والنشطاء العرب والأجانب المؤمنين بالقضية الفلسطينية، وما يجمعهم في هذا المؤتمر العالمي هو حب الكتاب والثقافة وحب فلسطين.

كان الغموض مما يحمله المستقبل للناشرين سيد الموقف.  بعض الدول ساندت الناشرين مالياً كي لا يصلوا إلى الإفلاس والإغلاق، بينما اتجه الكثير من الناشرين إلى نشر الكتب الإلكترونية عوضاً عن الكتب الورقية.

وقد تبين من استبيان قام به اتحاد الناشرين العرب أن نسبة كبيرة من الناشرين العرب لم يكن عندهم معرفة كافية أو خطط للتوجه للنشر الإلكتروني.

بالنسبة لنا كدار نشر، كنا قد بدأنا بهذا المشروع، ولكن الجائحة جعلتنا ندرك أن علينا أن نعمل بسرعة وبجد على المنتج الإلكتروني إضافة إلى المنتج الورقي.

وعلى منصات التواصل العالمية للناشرين، كان هناك نقاش بين الناشرين على كيفية الاستمرار خلال الجائحة.  اختار بعض الناشرين أن يقللوا من الكتب التي كانت مقررة للطباعة في ذلك العام، بينما قرر آخرون أن ينشروا كتبهم إلكترونياً أولاً، وورقيّاً إذا سمحت الحالة الاقتصادية بذلك، فكثير من المكتبات تم إغلاقها، كما تقلصت ميزانية المدارس للكتب، وتحولت المدارس إلى الدراسة عن بعد وألغيت المعارض.

لم يكن الحال أفضل في عالمنا العربي، حيث كنا نعاني أصلاً من سوء التوزيع والقدرة الشرائية عند الجمهور وما زلنا نتلمس طريقنا حتى هذا اليوم، آملين أن نتغلب على المصاعب التي تواجهنا، وعلى هذا الوباء الشرس، ليزدهر العالم بالحياة من جديد.

 

*كاتبة قصص أطفال، ومؤسِّسة دار السلوى للنشر التوزيع - الأردن