تعليم عن بعد أم بعد عن التعليم؟!

الرئيسية تعليم عن بعد أم بعد عن التعليم؟!

هدى أبو الحلاوة*

ورشة الأنيميشين للتعبير عن قضايا اجتماعية مع طلاب مدرسة الرجاء الانجيلية اللوثرية والانجليزية في رام الله ضمن مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية، القطان تشرين أول وثاني 2020.
 

هل نحن نتعلم؟ تفاجئني أحاديث وحوارات أتبادلها مع من هم حولي، كنا نتجاذب أطراف الحديث أنا وصبية أقبلت على الحياة في زمن سرعة المعلومات والتطور التكنولوجي المتسارع، كنت أشكوها بعض الألم الذي أحسه، وكانت تبادلني شكواها، فإذا بها تجيبني مقتنعة قناعة تامة بالغيبيات كطريقة علاج، واستفاضت شرحاً عن الجان والمعالجين بالسحر، الأمر الذي لفتني، لافتراضي المسبق أن سنوات التعليم كفيلة بتعزيز النهج العلمي المؤمن بالسبب والنتيجة، إذ بالضرورة أن الشعور بالألم يعكس حالة مرضية لها مسبباتها المادية، وأنه إذا وجد ذلك الكائن الحي الدقيق، فقد يكون هو المسبب، وأنه قطعاً لن يكون الجان أو السحر قد سبب لها المرض.  أذهلني حديثها جداً، وأثار تساؤلاتي حول ماهية التعليم وأهميته، ولماذا لا ينعكس هذا التعليم على حياتنا اليومية كممارسات؟ لماذا يتم التصفيق لنا عندما نحفظ جدول الضرب دون أن نفهم مفهوم عملية الضرب؟ ولماذا يتم التصفيق عندما نتلو قصيدة حفظناها عن ظهر قلب، في الوقت الذي نحن أحوج فيه إلى فهم القصيدة وتفسيرها وتأويل معانيها وإسقاطها على حياتنا اليومية، أم أننا بحاجة إلى التعلم كي تكتمل المهمة على وجه أكمل؟

 

عشرون عاماً تراوحت بين التعليم والتعلم أثناء عملي في الحقل التعليمي الجامعي، وربما كانت من أغنى سنوات الخبرة لدي، إذ كانت أميل نحو التعلم مما هو التعليم.  عندما انخرطت في هذا المضمار تخوفت كثيراً من كل ما قيل ويقال عن النظام التعليمي التقليدي، حيث من الممكن أن يتحول دوري كمعلمة إلى مجرد تأدية لدور ينتهي بانتهاء دقائق اللقاء، ويتم تقييم الأداء بعدد ساعات اللقاء وعدد الصفحات المقطوعة من المقررات.  لقد خضت غمار هذه التجربة، واستدعاني كثير من التراخي والانجراف مع التيار، ولكني لم أكن أشعر بالرضا، وتحادثني نفسي دوماً إلى تفاعل نشط ربما يرفع من نسبة الأدرينالين أو السيروتونين كمادة منشطة في الدم ترتفع عند الانفعال، وبالتالي الشعور ببعض الرضا والسعادة لدي، إذ نحتاج جميعنا دوماً إلى بعض من هذا وذاك.

 

ولقناعتي التامة بأهمية دوري في التعليم ونقل المعرفة، وبالتالي التعلم، فكرت في بعض الأنشطة التفاعلية التي من الممكن أن تؤتي ثمارها في عملية التعليم.

لم أكن في لحظات رضى أكثر من تلك التي تشاركت فيها مع الطلبة في بعض الأنشطة اللامنهجية كاللعب والتفاعل الاجتماعي الذي يتخلله تبادل الأحاديث في الحياة اليومية، وتناول الطعام، أو احتساء بعض الأشربة في مطعم الجامعة، تيقنت من ذلك أن طلبتنا لطالما يتوقون إلى التفاعل الاجتماعي الذي يقرب المسافات ويجعل المعلم مقبولاً لديهم وقريباً منهم، الأمر الذي يجعل المتعلم ينتمي ذاتياً لعملية التعليم، إيماناً مني أن التشارك بين المعلم والمتعلم وخلق روح الانتماء نحو الفريق الاجتماعي المتكون، يُشعر المتعلم بمزيد من المسؤولية الذاتية ويعزز الدافعية والروح التنافسية الإيجابية.

 

صحيح أن ذلك التفاعل الاجتماعي قد يقصر المسافات ويزيل بعض الحواجز التي تجعل من الطلبة أكثر ثقة وإقبالاً على طرح الأسئلة، وبالتالي أكثر فعالية لعملية التعلم، لكن الإدراك بأن العملية التعليمية تحتاج إلى إعمال العقل في التفكير والتحليل والاستنباط، ما زال يقرع الجرس لدي، ما دفعني إلى التفكير في مزيد من الخروج عما هو نمطي ومألوف.

 

من هذا المنطلق، تبادرت لي فكرة القراءة مع الراغبين من الطلبة، لما لها من عوائد إيجابية غير محصورة، حيث تشجع الطلبة على الالتزام بمسؤولية ذاتية معينة، كما أن روح الانتماء تتنامى بين المتعلم والمعلم، إضافة إلى رفع المستوى الثقافي التوعوي لدى الفريق وتقبل الآخر، وغير ذلك الكثير الكثير من الفوائد، أما ما كان يشغلني على وجه الخصوص، فهو كيفية محاولة المساهمة في تحفيز وتوجيه الطلبة نحو استنهاض القدرات الكامنة لديهم في التفكير والتعود على التحليل واستخدام التحليل كمنهج لدراسة كافة الظواهر الاجتماعية، وحتى العلمية، وتقليب المعلومات من زوايا ورؤيا مختلفة وقراءة النصوص والمعلومات بأوجه متنوعة، لقد آمنت واقتنعت دوما أن هناك الكثير من القدرات الكامنة والمخزونة لدى مجتمع التعليم، التي تحتاج إلى التنقيب عنها وبلورتها إلى ما نصبو إليه.

 

لربما قناعتي الراسخة المستمدة من شعاري الدائم المتمثل بأن لكل فرد منا فردانيته وقدراته الخاصة، ومساحته التي يمكن أن يشغلها الحافز الأساسي لاستمراريتي حين يدق جرس التراجع والتراخي لدي، الأمر الذي دفعني إلى تأسيس وحدة قراءة للتبادل المعرفي وتحليل المقروء ضمن بيئة تعليمية تخلو من أي تكاليف كالخوف والتهديد من إمكانية النجاح، أو تحصيل العلامات، أو كالخوف من انطباعات المعلم، وغيرها من الأمور التي قد تشكل عائقاً أمام تحرير العقل وأمام الاندفاع والانطلاق.  وكأي بداية، كنت مدفوعة بكثير من الشغف، وتغمرني الكثير من الأفكار للبحث عن التنوع بهدف خلق فضاءات أوسع للتعلم، فضاءات تتيح التحليق والتفكير واستنباط المعرفة، فضاءات تعزز حب المعرفة والاطلاع والقضاء على الروتين والملل.  عقدنا الاجتماعات وقرأنا الكتب اللامنهجية، وزاد في الأمر أن سعيت إلى تثبيت وتطوير الفكرة.  حصلت على بعض الدعم المعنوي من إدارة الجامعة فتشجعت أكثر، وعندما توسعت الفكرة قليلاً ونجحت إلى حد ما، وبدأت الأسئلة في الممنوع، شعرت أن البعض يتخوف من النقاش المفتوح والخارج عن الإطار التقليدي، وأخذت المساعي تشتد من حولي لتضييق الخناق عليّ، وحرف المشروع عن المسار المرجو منه، وتحويله إلى نشاط سطحي وشكلي يهدف إلى التسلية.

 

لماذا التخوف من المعرفة؟ ولماذا التخوف من الفهم والتحليل والتفكير؟ أهو تخوف أم أننا اعتدنا على أن العلم هو واجب نؤديه لنحصل على وظيفة؟ لماذا لا يشعر طلابنا بالمتعة في التعلم؟ لماذا لا يشعرون بالشغف للمعرفة، لماذا تصبح المحاضرة ساعة ننتظر متى ستنتهي؟ لماذا يصبح الواجب أو التقرير أو أي ورقة بحثية عبئاً يثقل كاهل الطالب، أصبت بالإحباط والتراجع، وزادني ذلك شعوراً بالتراخي، وعدلت عن فكرتي ثم عدت أدراجي إلى حيث القيام بواجبي ومسؤوليتي بشكلها الروتيني.

ورشة الأنيميشين للتعبير عن قضايا اجتماعية مع طلاب مدرسة الرجاء الانجيلية اللوثرية والانجليزية في رام الله ضمن مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية، القطان تشرين أول وثاني 2020.
 

مؤخراً، اجتاح الوباء هذا البلد كباقي بلدان العالم، مشاعر ومخاوف كثيرة اجتاحتني، المزيد من الغموض والالتباس في نواحي حياتنا اليومية كافة، تأثر قطاع التعليم بذلك كغيره من القطاعات، وكان لا بد من تجاوز المرحلة بأقل الخسائر، فبدأت مرحلة التعليم عن بعد، وخضعنا جميعاً مرغمين للإغلاق ومنعنا من الحركة، وقد خضعت كغيري لذلك أيضاً، ومن بين المشاكل التي طفت على السطح، كانت مشكلة الانقطاع عن التعليم، فكان الحل الأمثل التوجه إلى التعليم عن بعد، وذلك بفعل توافر الوسائل التكنولوجية التي تنقل الحيز المكاني الافتراضي إلى بيتك، إلا أنها افتراضية.  فرحنا جميعا بذلك، إذ شعرنا أن الحياة لم تتوقف وأن من الممكن المضي قدماً والاستمرار في التفاعل الاجتماعي والعمل، ولكن التساؤل الذي بقي مطروحاً هو: هل من الممكن أن نحقق التعلم افتراضياً في حين لم يكن يحقق سوى نجاح نسبي في التعليم الوجاهي؟ بالنسبة لي فأنا ما زلت في حالة تساؤل.

 

في مجتمعنا، وربما في مجتمعات أخرى أيضاً، تواجهنا بعض المعيقات الخاصة بثقافة مجتمعنا، قد ترفض بعض الطالبات استخدام تقنية الفيديو والإبقاء على الصوت بدون صورة، وذلك لاعتقادهن أن أحداً ما سوف يتمكن من رؤيتهن من خلال التسجيل على برنامج "زووم"، وقد ذكرن ذلك علانية وبوضوح لي، ما جعلني اضطرر لاستخدام حاسة السمع والتدقيق بنغمات الصوت والطلب منهن إعادة الحديث، وذلك كي أتمكن من حفظ نغمة الصوت وربطها بالاسم.

 

خضت هذه التجربة، وذلك لاستكمال ضرورات الحياة والعمل.  وبدأت أقوم بمسؤولياتي كما هو مطلوب مني، وكنت أشعر بأنني يجب أن أضاعف المجهود نظراً لأنني أعلّم عن بعد، فلا أرى عيون الطلبة، ولا أرى تفاعلهم، ولا أسمع ضحكاتهم ولا همساتهم بين بعض، لا أرى سوى أسمائهم وقلما أسمع صوتاً، سرعان ما أدركت أن التعلم لم يكن يحقق النتائج المرجوة بهذه الطريقة، وسرعان ما شعرت بالإحباط والملل وازدادت قناعتي بعدم أهلية طريقة معالجة الموضوع.  ففي التعليم عن بعد تبرز صعوبة تقييم وقياس مستوى التعلم، ففي الوقت الذي يقوم الطلبة بنسخ ولصق الإجابات الجاهزة وإرسالها إلكترونياً من خلال استخدام الصف الإلكتروني، وبالتالي تقييمها رقمياً، لا يستطيع المعلم سوى اعتماد التقييم الرقمي دون اللجوء إلى كثير من وسائل التعليم والتعلم كالعصف الذهني والنقاش المفتوح، الذي من خلاله يمكن تفحص الوجوه وتلمس التعبيرات والإيماءات الجسدية التي يميز المعلم من خلالها الفرق بين ما يقال وما يفهم.  ناهيك عن عوائق الاتصالات في بلدنا، وانقطاع الإنترنت، والإمكانيات المحدودة، والترسبات المجتمعية الموجودة التي ذكرتها سابقاً، فإذا كانت الطالبة وأنا أراها وجهاً لوجه تتكلم بصوت يكاد لا يخرج، من الخجل والحرج المفرط، من أزمة الثقة التي تربينا عليها، فكيف لها أن تتكلم عبر تقنية "زووم"، وإذا كان الطالب أو الطالبة يشعر بعبء المحاضرة وجاهياً، فهل يعقل بأنه يستمتع وهو مستمع للشاشة؟! من هنا أصبحت على يقين أن التعليم كالحياة يتجدد باستمرار، ولا بد بالضرورة أن تحيا طرق جديدة وتفنى أخرى، وربما تستحدث وتتحول إلى شكل آخر.  ولما كان العالم المتقدم سباقاً إلى ذلك، فقد كنا من اللاحقين والتابعين، وكان لا بد لنا من دخول هذا العالم.

 

أصبح سؤالي المطروح: هل ما نقوم به هو التعليم عن بعد أم البعد عن التعليم؟ وإلى أين نتجه؟ دفعني التفكير في الموضوع إلى طرح تساؤلاتي هذه على بعض الأصدقاء والمعارف، تراوحت ردود الفعل كثيراً حول الإحباط الشديد، فمنهم من قال بلغتنا العامية "إحنا رايحين لأيام سودا"، وإن القادم أخطر، وإننا ما دمنا على هذه الحال فسوف نكون بعيدين كل البعد عن التعليم.  وقد لام آخرون النظام التعليمي كثيراً وحملوه عبء الفشل في العملية التعليمية، وقد وصل الأمر إلى الاتهام باتباع سياسة تجهيل مدروسة، في حين قال آخرون إن النظام التعليمي ينقصه الكثير من الخبرات التي كان من المفروض أن تتوفر في الظروف العادية، الأمر الذي جعل الوضع كارثيا في ظروف الجائحة الاستثنائية، في حين رأى البعض أن الحصول على شيء أهون من لا شيء.  وفي الوقت ذاته، هناك من يحمل بصيصاً من الأمل، فمن ضمن الردود التي أضاءت لي الطريق بعض الشيء كانت لطالبة مجتهدة، وقد كتبت (إن الطالب المجتهد يظل مجتهداً سواء محاضرات أو أونلاين، وإن الأستاذ الشاطر يستطيع إيصال المعلومة بغض النظر عن الطريقة، وإن البلدان الأجنبية، على حد تعبيرها، كانوا يطبقون التعليم عن بعد بدون كورونا، وبذلك فهذا الشيء ليس بالمستحيل).  استلهمت مما ذكرته تلك الطالبة أن من الممكن توفر بعض الدافعية الذاتية للتعلم، فالأمر منوط بعض الشيء بنظرتنا نحو الأمور.

 

*محاضِرة في كلية المهن الصحية بجامعة القدس/أبو ديس