الكتابة تحملني ضيفاً على الأطفال في بيوتهم

الرئيسية الكتابة تحملني ضيفاً على الأطفال في بيوتهم

أحلام بشارات*

زيارات المدارس لمؤسسة عبد المحسن القطان ومشاركتهم في عروض أفلام وورشات فنية، كانون الثاني 2020.

 

دواء لعدم الخروج من البيت

بدأت تجربة "كتابي الأول"، الذي تصدره مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، منذ العام 2011، وتكللت التجربة بخمس نسخ متسلسلة من هذا الكتاب، كان آخرها العام 2015، وفي أيار من العام 2020 أعادت المؤسسة إطلاق هذه التجربة مستجيبة للحاجة التي خلفها كوفيد-19، حيث أصبح الأطفال والمعلمون والأهل في البيت، وتوقف الأطفال عن الذهاب إلى المدارس، وأصبحت العملية التعليمية مرهونة بوسائل تحاول مقاربة اللقاء الحقيقي، الذي كان يحدثه استيقاظ الأطفال كل صباح، وحملهم لحقائبهم، وتوجههم إلى المدارس.

لقد أصبح فعل الخروج من البيت، حتى وإن كانت غايته الذهاب إلى المدرسة، مطلباً واحتياجاً معاً، وقد حاول الجميع، ممن لم يكن يرى فعل الخروج على حقيقته، البحث عن حلول أو بدائل بشكل متوازٍ مع فعل البقاء نفسه، ففي حين كان الأهل وأولادهم محشورين في البيوت لحماية صحتهم من مرض، ما زالت الإشاعات المرتبطة به أكثر من الحقائق التي تم إثباتها حوله، كان هناك الأطباء وكانت المؤسسات الصحية والتعليمية والحكومية والمجتمعية، في العالم كله، تجتهد في البحث لإيجاد دواء لعدم الخروج من البيت: فكيف بالإمكان مداواة هؤلاء الأطفال الذين اعتادوا أن يسحبوا من فراشهم سحباً، ويأكلوا طعامهم وعيونهم مغمضة، ويفرشي بعضهم، وليس كلهم، أسنانهم، بالإجبار، ويدرسون "بالعافية"! ما هو العلاج لغياب كل هذه الأفعال التي كان الأطفال يؤدّونها مجبرين في أغلب الأحيان؟ لقد كان علاجاً ضرورياً لمرض جديد، يشبه كوفيد-19، وهو مرض "غياب الإجبار".

في المقابل، إن كان فعل القيام بأي شيء، من داخل البيت، هو النقيض لفعل الإجبار كما هو متعارف عليه سابقاً، فإن لفعل "البقاء في البيت"، بعد الجائحة، وما أحدثه من هالة في البداية، بعضَ أعراض فعل الإجبار نفسه، وقد تم استخلاص هذا الاستنتاج سريعاً، فاللقاءات التي تطورت عبر وسائل التواصل من خلال البرامج، صارت تُقابِل، من الأطفال أنفسهم، بدفع الأطفال أمام الشاشات، مع مواجهتها بالمعارضة، لم يكن التوقيت هو السبب، فلم نعد نتحدث عن الصحو باكراً على الساعة السادسة أو السادسة والنصف أو السابعة صباحاً، بل صرنا نتحدث عن الساعة الحادية عشرة صباحاً، وعن الساعة الرابعة مساء.  إنها أوقات لا تنام فيها، كما يقول المثل، حتى القرود، بل تكون قد استيقظت لتناول الموز في الغابات.

لقد أقبل الأولاد على الشاشات أول الأمر بكل حب واندهاش، عندما وجدوا أن المدرسة، التي لا تربطهم بها علاقة أليفة، تدخل لتقيم في جهاز يجدون فيه التسلية، ويهربون إليه منها، فراحوا يصارعون ليصبحوا بعيدين عن هذه الأجهزة! إلا أن هذا لم يجعل الأطفال يأخذون موقفاً من هذه الأجهزة، فهم أذكياء جداً، ويعرفون مصلحتهم، ويعرّفونها، بعيداً عن عالم الكبار وإرادتهم، فظلوا يحاولون البحث عن تسلية وسط أجهزة "الموبايلات" و"الآيابادات" و"اللاب توب"، كانت تلك طريقة قديمة، واحتياجاً عرفوا جيداً كيف يلبونه، من قبل، ولن يعاقبوا جهازاً جامداً لأنه أصبح يقوم بدور آخر، ربما عتبوا عليه قليلاً، لكنهم لم يقطعوا علاقتهم به.  لكن دراسة! وعن بعد؟ وعبر وسيلة تسليتهم، والآباء حولهم، وفي البيت! كان هذا كثيراً على الأطفال، فلم يعطوا تجربة التعليم عن بعد فرصة أطول لاختبارها، سيما أن محاولات الكبار للتعامل مع هذه التجربة الجديدة بدا مرتبكاً، لقد انكشف الكبار أمام الصغار، وظنوا أن أمر انكشافهم سيمر مروراً عادياً! لقد شاهد هؤلاء الأطفال ارتباك الكبار، وربما ضحكوا في دواخلهم، وربما سخروا فيما بينهم بصوتٍ عال، ولقد سجل البعض أشكالاً مختلفة للمخبّأ والظاهر من ردود أفعال الأطفال على إخفاقات الكبار وهم يحاولون على مرأى من الجميع، وفي العالم كله، فرض سيطرتهم، باختصار، ففي هذه التجربة الأخيرة، التي عاشها العالم مع مرض الكورونا، سيطرت الحيوانات على مراكز المدن التي صارت فارغة بفعل الجائحة، وفرض الأطفال قوانينهم على الأسر في البيوت، والأسر التعليمية في المدارس.

 

الاكتشاف: ما داويت به نفسي

بداية تجربتي مع الكتابة لليافعين التي بدأت العام 2009 برواية اسمي الحركي فراشة، عندما قررت أن أبدأ بكتابة هذه الرواية، كنت قد اكتشفت وحدي أن كتابتي أقرب لليافعين منها للأطفال، على الأقل اللغة التي أستعملها تستطيع أن تخبرني بذلك، وما كان فوزي لعامين متتالين بإحدى الجوائز المحلية في كتابة قصة الأطفال ليضلّلني، ولم أكن حينها قد بدأت أشير إلى الرقمين صفر وثمانية عشر، على أنهما مؤشران يحددان المساحة التي سأتحرك فيها، وأنا أكتب لهذه المرحلة من العمر، والبعض يقسمها إلى مراحل أخرى، لما لكل تقسيم من احتياجات وصفات، فيسمي المرحلة من 9 – 12 مرحلة الطفولة المتوسطة، ويصفها بمرحلة المغامرة والبطولة، ويسمي المرحلة التالية بمرحلة المثالية، ويحددها بالعمر من 12- 18.  عندما بدأت أكتب للأطفال كانت مؤشرات العداد في رأسي، غير مرتبطة بأرقام، وكانت حركتي لا يحدها مكان أو زمان أقرأ ملامحه هنا وهناك.  لم يصبح الأمر أسوأ لاحقاً عندما بدأت أعرف بهذه الأرقام، بل أصبح هناك مكان مرئي، وأصبحت هناك أرقام منتبه إليها، لكني واصلت طريقتي التلقائية فيما أفعله، وضعت الأرقام في قعر رأسي، وعدت إليها عندما أحب وأحتاج، وأما الحاجة، فهو أمر شخصي كونته عبر الخبرة والتجربة.

لقد جربت الكتابة للفئة العمرية الأصغر سناً من عمر اثني عشر عاماً، بمجموعة من القصص، وظللت أفكر أن الجهد الذي يوضع في هذه الكتب هو جهد جماعي لا ينفرد به الكاتب وحده، وبالتالي لم تؤخرني اللغة ولا الأرقام عن المغامرة أكثر فأكثر في الكتابة لهذه الفئة، بل صعوبة هذا التشارك ثلاثي الأبعاد بين الكاتب والرسام والناشر الذي يجعل من هذا العمل يتحول إلى صناعة غرضها وضع أرض للوقوف عليها، عندما نقدم عملاً فنياً أو تربوياً، لهؤلاء الأطفال الذين تقدر نسبتهم 28% من نسبة سكان الوطن العربي، الذين بلغ تعدادهم بحسب صندوق الأمم المتحدة للإسكان للعام 2015، بـ377 مليون نسمة.

أصبح فعل الكتابة منذ تعرفي على جهاز الكمبيوتر لصيقاً بفعل الكتابة، فكل ما كتبته كنت أكتبه مباشرة على شاشة الحاسوب بفتح ملف جديد، بعض الملفات ما زالت متروكة لسبب أو لآخر، بدلت أربعة أجهزة، وهذا رقم جيد مقابل رقم اثنين وعشرين عاماً، لقد وفرت لي شاشة الحاسوب فرصة عظيمة، إنها توفر لي مزايا أخرى لم يوفرها القلم الذي تغزل فيه كثيرون كثيراً، فعل المحو والتصحيح فعلان سريعان في الكمبيوتر، والأفكار في رأسي كانت مستعجلة على الدوام، لطالما حلمت بجهاز تسجيل بجانب رأسي يسجل ما يدور فيه، لقد ظننت طويلاً أن ما في رؤوس الناس يشكل مادة أساسية للكتابة، وربما في بعض الأحيان لا تحتاج إلى تعديل.  ولا أعرف إن اكتشف ذلك الجهاز، وتم استخدامه لتلك الغاية، ما الشكل الذي سيأخذه مستقبل الكتابة، وعما إذا كانت ستتطور أجناس أدبية أخرى جديدة، ربما تكون بداية التغيير هو تفكير الإنسان بتلقائية خالياً من القيود، فنحن لا نفكر خاضعين للمنطق، فما دام لا أحد يسمع ما يدور في رؤوسنا سوف نسب براحتنا، وسوف نقول الكلام خالياً من التنميق، وربما نكون، والحال كذلك، في طريقنا لإنتاج كتابة تخصصية في مجالي الكتابة الساخرة وكتابة الأطفال أكثر من أي شكل آخر.  إن الكتابة تستحق هذه الفرصة الجديدة، ولقد وفّر لي جهاز الحاسوب مبدئياً شكلاً بدائياً من الكتابة، أن أكتب وأمسح ما كتبته وأصلحه دون أن يكتشف أحد ذلك، وربما سأنسى أنا شخصياً حجم التعديل الذي فعلته، إذا لم احتفظ بمسودة لكل كلمة صححتها، ولن يسيل عن طرفي الحاسوب بقايا نثارة المحو، وعلى الرغم من أنني من جيل دفاتر النسخ، ودفاتر الخط الجميلة، فإنني انخرطت في خيانة عظمى للقلم، ورحت أضغط على أزرار شاشة الحاسوب بالإصبع الشاهد، بيدي اليمين، غير مستفيدة من نصيحة استخدام أكثر من أصبع، وباليدين الاثنتين.

مع الإغلاق الذي بدأ نهاية نهار يوم الأحد 22 آذار، 2020 بدأت البحث عن أمور كثيرة أفعلها، فأحياناً يضطر الإنسان أن يفكر بالزمن كمادة خام، وربما كأداة، فيسأل نفسه، مثلما يسأل، وهو يلوّح بمغرفة مزخرفة، ماذا أفعل بهذه، هل أعلقها على الحائط كزينة، أم أغرف بها الطعام للضيوف؟ الزمن أيضاً، سيما عندما تفيض مادته، يسأل الإنسان بشأنه السؤال ذاته، ولو بشكل ضمني، أو غير مترجم لغوياً، إلى الآن لم يجرب أحد أن يطبخ الزمن فوق النار، لكن الجميع تحرك داخل الزمن، وطبخ، وهذا شيء فعلته، فلمدة ستة عشر يوماً، كل يوم طبخة جديدة، مع أغنية جديدة، من ثقافة معينة، تناسب نوع الطبخة، وكله عرضته للجمهور دون مقابل، على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، لقد أغريت الجميع عبر الطبخ والأغاني والأجواء التي صنعتها، مع قليل من خيال المتلقي، بتقديم طلبات للإقامة معي، في البيت! لقد تحول البيت، بفضل الطبخ داخل الزمن، إلى مكان مشتهى لطلبات الاستضافة.

كما أني جربت قراءة قصصي وتسجيلها، لقد سمحت لنفسي فحاولت استخدام جهاز الحاسوب بأمر آخر غير الكتابة والفرجة، وكانت هذه المرة الأولى التي أقوم فيها بتسجيل واحدة من قصصي، وهي قصة سرير جدي الصادرة عن مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، العام 2018، لقد بدا اكتشافاً مذهلاً؛ إنني أستطيع أن أقرأ قصصاً للأطفال فأكون قريبة منهم، إنني أقرأ بحب ومرح.  فجأة اكتشفت أن اليافعين سرقوني من الأطفال، وأن حجة غياب الشراكة الثلاثية نجحت في خداعي، وأن قلة صبري على التشارك بإنتاج كتب لهذه الفئة العمرية أتت بنتيجتها، فانشغلت بحب للكتابة للفئة الأكبر سناً، وكان بالإمكان أن أفعل أموراً كثيرة مع هؤلاء الصغار، كنت سأغامر مثلما فعلت وغامرت في مشروع الكتابة لليافعين، وكنت سأستدل على طرق جديدة لا بد.  قرأت قصتين أخريين من قصصي، هما قصتا: قصر الأميرة بهرج من منشورات ورشة فلسطين للكتابة، وقصة فتوشة ومنقوشة من منشورات دار البحيرة، ولم يقلّ فرحي بهما عن الأولى، ولم يقل التفاعل معهما عن التفاعل مع الأولى، على الرغم من أن التصوير في المرات الثلاث ظل مرهوناً بقدرتي على تثبيت الهاتف المحمول في مكانه، والبحث عن موسيقى مناسبة مصاحبة للنصوص، وقراءة نص خال من الأخطاء، ثم يصبح الحكم على قربي من الأطفال، وجودة القراءة، أموراً أخرى متروكة لحكم الجمهور.

لقد اكتشفت من خلال هذه التجربة أننا نستمر في حياتنا بناء على توقعات أو اكتشافات لمعطيات معينة، بحيث نبني توقعاً ما على معطيات تجربة أخرى، لقد بدا هذا الاكتشاف مذهلاً، لطالما اعتبرت نفسي بأني لا أستطيع التواصل سوى مع اليافعين، وربما أسقطت على المحيطين بي هذا الاعتقاد، وربما في الحقيقة كنت أنا مصدره الوحيد، وأن الذي حصل كان معاكساً، قلت أنا أصلح للكتابة والتواصل مع اليافعين، وهكذا اعتقد الجميع ما اعتقدت عن نفسي ولم يناقشوني به، وعليه وجهت كتاباتي لليافعين، وكذلك أنشطتي، إنني أستطيع إذن أن أنفذ أنشطة مع الأطفال، لكن: الآن، وهم مجبرون على المكوث في البيت.

العالم مغلق، الكل مرتعب، الأطفال وآباؤهم في محنة، المؤسسات تحاول أن تضع عينات وتحاول اختبارها، فهل هذا زمن خطأ؟ ما هو الزمن الخطأ؟ وما هو الزمن الصواب؟ من أطلق هذه الصفات على الزمن؟ ولماذا نخضع لاستنتاجات الآخرين، لو كان الآخرون فعلاً من قالوا ذلك ولم نكن نحن؟!

لقد بدأت أشك بما توصلت إليه عن علاقتي مع الفئة العمرية الأصغر سناً، من سن تسع سنوات فما دون، وعلى الرغم من انشغالي بأمور كثيرة، حتى أني صرت منشغلة أكثر مما كنت لو كنت أخرج خارج البيت، فقد أوليت أموراً صغيرة، كتسجيل ثلاث قصص عبر الموبايل، اهتماماً كبيراً، فاعتبرت تعاملي مع هذه التجربة تجربة تعلمية أردت إخبار الجميع عنها، وكانت الطريقة الوحيدة لذلك الإخبار هي عرض هذه الفيديوهات ومراقبة التفاعل معها، لو كان لدي غرفة تصوير مجهزة، وأوليت هذا الأمر كل عنايتي ووقتي، لربما أنجزت غرفة صوتية كاملة، مكدسة بتسجيلات مختلفة، حتى لخشيت على نفسي كالجاحظ بأن أموت في هذه العزلة وقد سقط صوتي فوقي؛ امرأة تفنى تحت ثقل أصوات مختلفة سقطت مجتمعة فوقها، في غرفة ضيقة ومزدحمة، وكانت كفيلة بجدرانها العازلة أن لا تنقل صرختها الأخيرة.  وربما صمتها الأخير! هذه نهاية مأساوية، لننساها سريعاً، لأنها تتنافى مع السياق، الذي أحاول الحديث عبره، كله، ولننطلق للحديث في أمر أكثر حيوية، عن التدريب على الكتابة الإبداعية للأطفال عبر تقنيّة "زووم".

زيارات المدارس لمؤسسة عبد المحسن القطان ومشاركتهم في عروض أفلام وورشات فنية، كانون الثاني 2020.

 

بيت الكتابة الإبداعية

تقدّم للمسابقة التي أعلنت عنها مؤسسة تامر، للمشاركة في "كتابي الأول"، خمسون مشاركاً ومشاركة، تتراوح أعمارهم بين تسعة أعوام إلى خمسة عشر عاماً، من محافظات غزة ونابلس وجنين والخليل وبيت لحم.  كان هذا التدريب الثاني للكتابة الذي أقوم به عبر تقنية زوم، منذ بدء حالة الإغلاق، وبعد الانقطاع عن التواصل المباشر أصبحت هذه اللقاءات تتيح فرصاً للقاءات غير مباشرة مكثّفة، فبدأتُ تدريب الكتابة في "كتابي الأول" بعد تدريبات على الكتابة مع فريق يراعات، وهو الفريق الذي تم تشكيله حديثاً كي يتسلم مهام فريق يراعات السابق، وواحدة من هذه المهام تحرير ملحق يراعات الذي يصدر مع صحيفة الأيام، تمّ ترتيب أمور التواصل من خلال خضر سلامة، مدير وحدة النشر، وهبة سعيدة منسقة المؤسسة في رام الله، قبل أن يأتيني الأولاد والبنات على طبق من ذهب لتدريبهم.

تحدثنا كثيراً أنا وخضر قبل البدء بالتدريبات، أتذكر جيداً أني قلت له إنّ الأطفال في المرحلة العمرية حتى سن الثانية عشرة، إذا أعطيتهم التمارين المناسبة، فإنهم سيكتبون كتابة ستفاجئك، هنا لن يكون تمايزهم من بعضهم البعض مستنداً إلا على الدخول في التمرين نفسه، الذي لم أكن حتى ذلك الوقت قد حددت ما هو، وعليه فقد طلبت أن يشارك الجميع، ممن قبلت المؤسسة نصوصهم للنشر، ومن لم تقبل نصوصهم للنشر، واقترحت أن يتم تقسيمهم إلى مجموعتين، حتى أستطيع التعامل مع العدد، ومن ناحية أخرى، لِمَ لا، من كانت نصوصهم التي قدمت للمشاركة مميزة، لنضعهم في مجموعة واحدة، لكن، أكدت مرة أخرى، الجميع سيكتب كتابة جميلة، وسنتفاجأ جميعاً، كما أننا لم نضع نجوماً للبعض ونحرم الآخرين منها، لقد كانت المجموعتان بالنسبة للأطفال مجرد مجموعتين، وكان الاختلاف في الزمن مجرد أرقام لتحديد مواعيد مختلفة.

فكان اللقاء الأول، مع المجموعة الأولى، يوم الخميس بتاريخ 9 تموز 2020، وكنت حتى ذلك التاريخ قد فكرت بما أن الجميع في البيت، لماذا لا يصبح البيت هو نفسه مادة الكتابة، بما فيه من عناصر، من جماد وكائنات حيّة؟ لذلك فقد أطلقت على تلك التدريبات عنوان: بيت الكتابة الإبداعية، فإلى أي مكان سينظر هؤلاء الأطفال، الذين تراوحت أعمارهم بين ثماني سنوات إلى خمس عشرة سنة، سيجدون مواد كتابتهم، ولو فتشوا في أنفسهم فسوف يجدون مواد أخرى، لاحقاً عندما ختمت بلقاء مدته ساعة مع الأمهات من الفريقين، بعد ثلاثين ساعة تدريبية، بواقع 15 ساعة لكل فريق، موزعة على ثلاث ساعات في كل لقاء، حظيت بهذا الاعتراف من السيدة كوثر سلامة من غزة، والدة الطفلة لمى: لم تكن كتابة صعبة، فقد كانت عناصرها بين الأطفال أو حولهم، أول مرة تصبح الكتابة سهلة.

إذن الأطفال يعيشون في مكان أصبحوا الآن مضطرين لعدم الخروج منه، فهل جربوا أن ينظروا إلى الخارج من نافذة من نوافذ البيت فيتأملون ما يرونه؟ إذن في التمرين الأول، ليختاروا نافذة وليطلوا منها، وليصفوا لي ماذا رأوا بالتفصيل الممل، وماذا لو اختاروا من البيت مكاناً يخصهم بشكل شخصي وكتبوا عنه، الغرفة، الحمّام، المطبخ، البلكون؟ ثم إنهم يعيشون مع أشخاص، فهل فكر هؤلاء الأطفال، أو غيرهم، لمرة واحدة، عندما يؤرقهم البحث عن شخصية لكتابتهم، أن هذه الشخصية تعيش بينهم، إن لم يكن كلها، فبعض ملامحها، أو عاداتها، وقد تكون الأب أو الجدة، أو الأخت الصغيرة، أو الأخت التي تكبرهم، أو القطة التي تعيش معهم؟ وماذا عن أسمائهم، هل هناك اسم دون قصة، لكن هل سألوا عن قصته، بل هل أرادوا اسما غير هذا الاسم الذي يحملونه وقد أدركوا ذلك عندما كبروا، لكنهم لم يجرؤوا على البوح بذلك، وما هو اسم الدلع المشتق من هذا الاسم؟ وماذا عن أغراضهم الشخصية الأقرب إليهم، كدمية، أو دفتر مذكرات، أو قطعة ملابس، هل استخدموها في كتاباتهم؟ ثم كيف سأذهب بهم إلى الخيال؟ أليست الأحلام المكان الحر الذي يطلق العنان لهذا الخيال دون منطق يحكمه حتى منطق الكبار؟ إذن ارصدوا، أيها الأطفال، أحلامكم، ولا تعودوا في اللقاء القادم دون أن يكون لدى كل واحد حلم واحد على الأقل، أو حلمان أو أكثر، في شبكته.  أحلام قد اصطدتموها من الليل، فاستيقظتم، وأول ما استيقظتم، قبضتم على الأحلام، ووضعتموها في الشبكة؟

 

أين يقع بيت صديقي؟

المكان، الشخصيات، النوافذ، الأغراض الشخصية، الأسماء، الأحلام، لقد اخترت أن تكون هذه العناصر التي في متناول اليد هي مادة الكتابة، فلا يمكن لأي طفل أن يعيش خارج المكان، حتى لو في خياله، ولا أن يعيش وحيداً دون آخرين، وهذه الفرصة إذن كي يتأمل الطفلُ الآخرين الذين يعيش بينهم، بذكر أسمائهم أولاً، ثم أن يحدد لي إن كان والده بشنب، أو يضع نظارات فوق عينيه، أو ما هي نمرة حذائه، وكنت على يقين، مثلما قال الأطفال، أن لا أحد منهم وقف وراء النافذة في أي يوم من الأيام، فوصف ما يراه، فتحول ما يقع تحت نظره إلى مادة للكتابة، ولا أي منهم فكر، قبل هذه التدريبات، بجعل اسمه، أو أسماء من يحيطون به مادة للكتابة، ولقد كانت الأحلام، حتى ذلك الوقت، حرة طليقة، يكتفي كل طفل بالاحتفاظ بأحلامه لنفسه، أو إن أراد أن يتحدث عنها فأن يذكر بعض ما يجيء بها فقط، لكن ماذا لو تم اصطيادها كما هي، بشكلها غير المنظم، وباختراقها لقانون الواقع، فهذا بالضبط هو فضاء الكتابة، إنه عالم الأحلام الحر، الشاسع، الذي لا يتحكم به، حتى الأطفال أنفسهم، ولا آباؤهم.  ربما الذين نسوا من الأطفال أن يحلموا استطاعوا أن ينسجوا أحلامهم من الواقع، حاولوا إقناعي بمشروعية حلميتها، وقد اقتنعت دون أن أوهمهم بذلك، والذين ذهبوا بقرار مسبق أن يحلموا استطاعوا أن يحلموا فعلاً! الأحلام، إذن، ليست مستحيلة، وهي مادة أساسية للكتابة، ومادة خصبة للخيال، بحيث تصبح مفيدة في تأثيث العناصر الأخرى، ودعم حضورها.

فكرت وأنا أختار هذه العناصر، أنني غالباً كنت أنطلق، في واحد من تدريبات الكتابة الإبداعية وأولها، بالتأكيد على ضرورة الاحتفاء بالقصة الشخصية، وأن يعتقد الطفل أن لديه قصة، وأن هذه القصة قصته، وأنها تستحق أن تروى، لأنها قصته هو فقط، لكن إن أراد أن يرويها فكيف، لقد كانت التدريبات إذن ليس فقط ماذا أكتب، بل كيف أكتب عما اخترت أن أكتب عنه؟

ننشأ في مجتمعات نخجل فيها أن نتحدث بألسنتنا، معتقدين أنه ليس مهماً ما قد نرويه بهذا اللسان، أن يصحو الطفل من النوم، ويتناول فطوره، ويلبس قميصاً غير نظيف اليدين، وينتعل بوطه بسرعة دون أن يربط قيوده، وينسى كتابه المدرسي، أو لا يحل واجبه، أمور تحدث مع كل طفل، بالوتيرة نفسا التي قد تجعل الكبار يعتقدون أن هؤلاء الأطفال كلهم الطفل نفسه، وبالتالي يحملون القصة ذاتها، حتى لو صحا من النوم، ولم يتناول فطوره، ولبس قميصاً نصف كم، وانتعل كندرة، ولم ينس كتابه، وحل واجبه! إن لا أحد يعلم أن نسيان حل التمرين، أو نسيان الكتاب في البيت، قد تتحول إلى فيلم مدهش كما في الفيلم الإيراني، الذي يرصد بدقة تطور الخوف الذي يعانيه طفل احتفظ بدفتر زميله بالخطأ في حقيبته، كما في فيلم "أين يقع منزل صديقي؟"، للمخرج الإيراني عباس كيارستمي! يحصل حدث النسيان، القصير والتافه، واقعياً، في مدة ساعة وسبع وعشرين دقيقة سينمائياً، فأحمد، الطفل الذي يلعب دور الشخصية الرئيسة بإتقان، يبدأ برحلة للبحث عن منزل صديقه محمد رضا كي يعيد إليه دفتره حتى لا يتعرض محمد رضا للطرد من المدرسة، لأنه نسي حل واجبه، لو أعاد له أحمد الدفتر صباحاً، أو لو ذهب محمد رضا دون الدفتر في اليوم التالي، فوصل قبل أن يصل صديقه.  على الرغم من أن أحمد حسم الأمر أخيراً مقابل تهديد الأستاذ، الذي عندما حصل على الدفتر، وضع إشارة المشاهدة، في صفحة حل التمرين، دون تدقيق يذكر، فإن هذا الحسم لم يقدم حلاً نهائياً إلى الآن، ولا إلى مالا نهاية، للخطأ الكبير الذي يرتكبه الكبار في حق تقدير المشاعر الدقيقة للأطفال، فإلى ما لا نهاية سيظل هناك سوء فهم، بين الكبار والصغار، علينا جميعاً أن نسعى إلى تقليل مساحته، عبر وسائل عديدة - الفن واحد منها.

لذلك، فإنّ الاحتفاء بالعالم الداخلي للطفل عبر الكتابة، وكتابة الطفل نفسه عن عالمه، كانا من الأهداف المباشرة التي قد تبدو خفية في التدريب الذي هدفه المعلن إنتاج مواد يكتبها الأطفال تصلح للنشر، من مواد هي الأولى للأطفال في عالم الكتابة والنشر، فيكون هذا كتابهم الأول، هنا لم أتخلَّ عن دوري ككاتبة، مثلما أفعل عادة في دورات الكتابة، فأظل موجودة بنسبة ما، وبشكل ما، إنني موجودة في مكان ما، إنني أريد لهذه الكتابة، حتى وأنا لا أكتبها، أن تكشف عن أماكن سرية، موجعة، دقيقة، في حياة هؤلاء الأطفال، حتى لأبدو كأني فتشت معهم عنها، عن تفاصيل ما كتبوه وما عاشوه قبل أن يكتبوه.

أحتفظ بنواياي في فعل كتابة المتدربين من الأطفال، إنهم يكتبون بلغتهم، وبأخطائهم، وبعد إعطاء الملاحظات على نصوصهم بداية كل لقاء، يتم العمل على هذه الملاحظات التي تم تلقيها من اللقاء السابق، وهكذا يعمل الأطفال أنفسهم على تحرير نصوصهم بأنفسهم، إنني موجودة بشكل ضئيل، ويكاد يكون وجودي خفياً، لكن نواياي معلنة: ليكتب هؤلاء الأطفال كتابة جميلة، لكن ليعثروا، وهم يكتبون، على بيوت أصدقائهم، ليعثروا على أمر ما منسي، قصة، فكرة، طريقة غير مجربة، ليعترفوا بأمر ما يخجلون من ذكره أو سر خائفين من إفشائه، كما اعترفت -مثلاً- (س) بأنها حلمت أن أخاها تدوسه إحدى السيارات في الحلم السابق، وعندما حاولت اصطياد حلمها كان أخوها قد سقط في شبكة الصيد ميتاً، بكت وهي تتحدث عن حلمها، وحين سألتها، إن كانت أخبرت أمها عن الحلم، أجابت أنها لم تفعل، قلت لها ربما تخافين على أخوك كثيراً، قالت إنه كان قد سقط على الأرض قبل أيام فخافت عليه كثيرا، فانتقل خوفها إلى حلمها.  لقد كان لتمرين الأحلام الكتابي دور مباشر في إطلاق سراح هذا الكابوس كي يطير بعيداً، فتتخلص (س) منه، لقد كان هذا إنجازاً عظيماً للكتابة، أن تحرر طفلة من نقطة سوداء ستنقط في داخلها، وستظل في داخلها حتى بعد أن تكبر وتصير أماً.  وعن المشهد الذي تطل عليه النافذة قالت (ب) إنها تطل دائماً دون أن ترى هذه التفاصيل التي رأتها هذه المرة، إنها تفاصيل كثيرة، تؤثث لنص كامل تجعله نابضاً بالحياة، بعد أن كانت تظن أن هذا المشهد ليس سوى مشهد ميت، تهزه فلا يتحرك.  وفي تمرين الأسماء لقد اعترفت (ب) و(ع) وهما من العائلة نفسها أنهما لا تحبان اسميهما.  قلت لهما ربما ذهب والداكما إلى مكان يغش بالأسماء، فطلبت منهما أن تختارا الاسمين اللذين لو أرادتا أن تسميا نفسيهما لاختارتاهما، وهكذا ناديناهما بهذين الاسمين الجديدين اللذين كما عرفت من متابعتي لقصة الاسمين عندما بدآ من الكتابة، ثم ذهبا في الحياة، أنهما أصبحا الاسمين المستعملين في البيت منذ الآن، منذ أن أصبحت الطفلتان فردين في عائلة بيت الكتابة الإبداعية.

 

طارق والآخرون

كان طارق، حتى التحاق حسن متأخراً بدورة الكتابة، الولد الوحيد في المجموعتين، وكان طارق أصغر المشاركين، ولداً مواظباً جداً، وأمه كانت أكثر مواظبة، وقد أبهرني لاحقاً بكتابته العفوية القريبة إلى القلب على الرغم من الأخطاء التي فيها، في اليوم الأول للتواصل مع المشاركين والمشاركات كان طارق يجلس مع والدته تحت شجرة في حاكورة البيت.  لقد أدركت منذ رؤيته إلى جانب والدته تحت الشجرة أن التدريب على الكتابة الإبداعية مع الأطفال من داخل بيوتهم، أمر مختلف عن الالتقاء بهم خارج بيوتهم، وقد قطعوا مسافات طويلة، وهم الآن في مكان بعيد عن البيت، وسوف يعملون حساباً، قد يقطع عليهم متعتهم وتركيزهم، لساعة العودة إلى البيت في الوقت المحدد! أما الآن، فنحن جميعاً في البيت، فماذا عن ظروف الأطفال العائلية، والاقتصادية، والنفسية؟ كل ذلك أصبح الآن على مرأى من عينيّ، يختار الأطفال بمساعدة ذويهم الذين اكتشفت لاحقاً أن معظمهم حضروا لقاءات الكتابة، مكاناً مناسباً من البيت، إما طاولة مغطاة بشرشف، أو كرسياً أمام المكتب، أو يختار الطفل أو الطفلة أن يجلسا فوق السرير في الغرفة المغلقة والمعزولة عن البيت، أو تحت شجرة، كما فعل طارق، أو مستعداً تمام الاستعداد كما فعلت سمية، أكثر المشاركين حماسة، حتى أننا كنا نضطر أن نضعها دائماً في غرفة الانتظار، عندما نجلس نهاية كل لقاء، نقيّم ما مررنا به.

لقد تحرجت مع أحد النصوص التي ركزت على تكرار ذكر الأم دون ذكر الأب أن أسأل عن الأب، هل هو حي أم ميت؟ هل الأبوان منفصلان؟ هل الأب مسافر؟ هل هو أسير؟ هل هو خارج البيت وقت كتابة النص، غير مكترث بفايروس كورونا؟ هل هو غائب حاضر في البيت؟ هل هو غائب من حياة طفلته؟ كل هذه الأسئلة طفت في رأسي لمجرد أن الأب اختفى من الكتابة، ثم لاحقاً عرفت أن غيابه حدث فقط لأن غرفة الأم كانت مكاناً أساسياً في حياة الطفلة، لكن لا يمنع، في حقيقة الأمر، أن هذه الغرفة فيها سرير، وأنه على الطرف الآخر من السرير يوجد أب، لكن الفتاة لم تذكره! فتساءلت: هل على المدرب عبر تقنية زوم، إذن، أن يتلقى وصفاً لظروف المتدربين العائلية والشخصية، من الأطفال والكبار، التي قد تقلل من الحساسية في التعامل؟

لم أطلب ولم أتوقع من المشاركين والمشاركات أكثر مما يستطيعون، كنت أطوف في بيوتهم لأطمئن أني لم أخترق خصوصيتها، وذهبت مع بعضهم في زياراتهم القليلة، والحذرة، ولم يسمعوا صوتي، فجلست مع لمى على الأرض، في المطبخ، في زيارة أحد الأقارب، ومع سعاد في غرفة الضيوف إلى جانب بنات خالها في بيت الجد.

هكذا أصبحت أتنقل من بيت إلى بيت، فلم تقرّب الكاميرا المكان ولم تقلصه، ولا المربعات التي توفرها تقنية "زووم"، وعبر تمرين النافذة أطللت على المخيم في الدهيشة، وعلى بيوت جنين، وعلى ممرات نابلس، وعلى مدينة غزة، وعلى الشمس في الخليل، وعلى شارع صاخب بالمحلات في بيت لحم، ومن نافذة "رضا الرحمن"، في القدس، أطللت على مستعمرة، قالت "رضا الرحمن" إنهم صهاينة عندما سألتها من يسكن هناك؟ بالكتابة أصبحت الطريق إلى هناك ممكنة.  إلى كل مكان في فلسطين المحتلة.

 

الساعتان الأخيرتان

في الساعتين الأخيرتين، في لقاء الخاتمة، مع المجموعتين، وكان عن الأغراض الشخصية كموضوع للكتابة، خصصت الساعة الأخيرة مع كل مجموعة للالتقاء بممثلين عن الأهل، قالت إحدى الأمهات بينما ابنتها تدور حولها، إن هذه الدورة جعلتها تنتبه إلى تفاصيل لم تكن تنتبه إليها في تعاملها مع ابنتها، وأنها قبل هذه الدورة لم تكن تقدّر انتباه الأطفال إلى مثل هذه التفاصيل، وإن انتبهت إليها فلم تكن تمنحها كل تركيزها، وأرجعت الأمر للانشغالات الكثيرة التي تشغل بال الكبار، على الرغم أن تلك التفاصيل هي تفاصيل مهمة مهما صغرت، وأنها تؤثر على شخصية هؤلاء الأطفال، وتلعب دوراً مهماً في التأثير على إبداعهم، وعلى طرق تعبيرهم.  في هذا اللقاء روت لمى، الملقبة بالأميرة جوهرة، وصاحبة قناة يوتيوب تحمل اللقب نفسه، قصة أحد أغراضها الشخصية، بخفة دمها المتناهية، وهو كوبها الذي كان أزرق اللون ثم صار أبيض اللون، فهل تريدون أن تعرفوا كيف تغير لون هذا الكوب؟ انتظروا إذن صدور "كتابي الأول"، وحاولوا أن تحصلوا عليه.

لقد هدفت من إشراك الأهل، وهو اقتراح قدمته للمؤسسة فاستقبلته بترحاب كبير، أن أقيس مدى تأثير هذه اللقاءات على الأطفال، هل أكبستهم مهارات جديدة في التواصل مع البيت بمن فيه؟ هل أكبستهم مهارات جديدة في الكتابة والتعبير، هل أثرت على شخصياتهم؟ هل لمس الأهل ذلك التأثير؟ فتلقيت إجابات شافية كافية ومفرحة، ووجدت من خلال اللقاء مع الأمهات أن هذه اللقاءات أثرت على الأهل أنفسهم في علاقتهم مع أطفالهم، فمن خلال هذا اللقاء سردت أم سعاد كيف أنها عرفت أن ابنتها لا تحب اسمها، وأن هذه المعرفة فتحت حواراً طويلاً بين الطفلة وأبويها، ولم يكن لهذا الحوار أن يفتح بين أفراد العائلة، داخل البيت، لولا تدريبات الكتابة في بيت الكتابة، لقد شرح لها والداها أن اسمها جميل، واشترك الثلاثة معاً في هذا الاكتشاف، لقد أزالت الطفلة صخرة عن صدرها؛ سواء أحبت اسمها أو قبلته، فهي، على كل حال، قد وضعته في قصة، وفي رأس والديها واهتمامهما.

هناك نصيحة تربوية تطلب من الآباء والأمهات أن يلعبوا مع أطفالهم، أو أن يشاركوهم في مشاهدة فيلم يحبه هؤلاء الأطفال، أو يعد الجميع طعامهم سوية، في هذ الدورة لم نوجّه للأمهات والآباء مثل هذه النصائح، لقد قدناهم طواعية لممارستها، وعلى الرغم من أنني افتقدت الآباء الذين ألححت في طلبهم، لكنهم، من خلف الكاميرات، لم يغيبوا عن المشاركة في بعض التمارين، كما أن أحدهم كان جاهزاً كي يرسل إجابته عن تساؤلاته لابنته، في أحد التمارين، عبر الهاتف رغم أنه منشغل في عمله.

لم تكن الساعتان الأخيرتان هما المؤشر لما تم إنجازه في التدريب على الكتابة لـصالح" كتابي الأول"، لقد كانتا الوقت المخصص لتقاطع بهجة هذه التجربة التي وددت لو لم تنته لولا أنني شخص محدود تعيقه محدوديته، ويؤخره نقصانه، عن الحضور مع الأطفال في كل مكان وكل زمان!

 

 

*روائية وقاصّة وشاعرة فلسطينية، ومدرّبة متخصّصة في مجال الكتابة الإبداعيّة، وتعدّ من الأسماء المهمّة في الكتابة لروايات اليافعين في العالم العربيّ.  ترجمت كتاباتها إلى لغات أجنبية كالإيطالية والإنجليزية والألمانية، من رواياتها لليافعين: شجرة البونسيانا، جنجر، مصنع الذكريات.