مفتتح: الأزمة وتحدياتها الثقافية والتربوية

الرئيسية مفتتح: الأزمة وتحدياتها الثقافية والتربوية

قد يتمكن إنسان ما من عزل نفسه ليكون في مأمن من مخاطر الوباء، لكن لا أحد يمكنه الاعتزال والاحتماء من آثارها الثقافية والاجتماعية، هذا ليس أحد دروس الأزمة التي نعيشها، بل يمكننا أن نراه عنوانها الأول، حيث لا يوجد شعب أو جماعة أو فرد لم تصله تبعاتها وتؤثر في حياته؛ نمط عيشه، عاداته، عمله، طريقة إشغاله لوقته، طريقة تعلمه ... فقد عبرت حياة المجتمعات بلا تمييز وولجت إلى الحيز الشخصي للجميع، ووضعت التحديات أمام كل البشر بكل أدوارهم الاجتماعية.

إن ظاهرة بهذا الحجم من الاتساع والشمول، استحقت وتسحق أن نتأملها من موقعنا وخصوصيتنا كشعب وأفراد، لنكتشف ونفكر في آثارها ونتائجها في حياتنا ومجالات عملنا وتفكيرنا، نبحث عما تركت من آثار وما تتطلب مواجهتها من فعل، حيث أفضت ببساطة إلى كشف ضرورة إعادة صياغة الكثير من الأشياء؛ بدءاً بطرق التفكير والتأمل وانتهاء بأشكال العمل وإدارة الحياة.

وقد ظهر بوضوح ضرورة أن نعيد النظر في (طرق البحث والكتابة وإنتاج المعرفة) كما في طرق تعليمها ونقلها، وكذلك في طرق رؤيتنا ونضالنا وكفاحنا، فقد بات واضحاً ضرورة أن نعمل معاً، ونفكر معاً، كشكل من أشكال الكفاح الجماعي والفردي، حيث أثبتت الأزمة أن لا فكاك بين الخلاص الفردي والجماعي، فلن تحيا وحدك أبداً.

في هذا السياق الكوني الذي طغت عليه الأزمة وأسئلتها، حيث لا يمكننا في سياقنا الفلسطيني والعربي إلا أن نراها منظوراً مكثِّفاً لوضع إشكالي حتى قبل الأزمة، حيث ثمة أسئلة في التعليم والثقافة والسياسة هي أسئلة ملحة وضرورية وخطرة بمستوى خطورة الوباء، وتحتاج لمواجهة بأهمية مواجهة الأزمة نفسها، أسئلة التحرر الوطني والانعتاق من الاستعمار والديكتاتورية، وأسئلة انعتاق الثقافة والتربية من أسر التقليد والأيديولوجيا، وأسئلة الفن والإبداع والنزوع نحو الخلق والتغيير والكفاح.

ضمن هذه السياقات المتشابكة سياسياً وثقافياً والمكثفة في منظور الأزمة وضرورة مواجهتها، مواجهة تولد الأسئلة كما تولد التحديات والحاجات، فلا يمكن (سياسياً) مواجهة مشكلات أو حاجات غير مكتشفة أو معرفة غير محددة في أسئلة معرفية تأخذ عبر البحث والكتابة شكلاً وجودياً في حقلي المعرفة والثقافة، ضمن هذه السياقات، وفي ضوء هذه الأسئلة، وفي محاولة مواجهتها والبحث عن أجوبة وحلول، يأتي هذا العدد من مجلة رؤى تربوية ليشكل مدخلاً لحوار ثقافي وتربوي، ويقدم جزءاً من خبرة الفاعلين في الحقول التربوية والثقافية قبل الأزمة وأثناءها.

ضمن هذا المسار، بدأ العمل على هذا العدد خلال أزمة كورونا، وقررنا أن نقدم للقارئ شكلاً جديداً، يمكّنه من الوصول إلى محتوياتها رقمياً (ديجتال)، لتشكل أيضاً مرحلة جديدة من تحول المجلة إلى الشكل الرقمي التفاعلي، ما يمكننا من تقديم منتجات تفاعلية رقمية متنوعة للجمهور.

يضم هذا الملف إنتاجات مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية من أشكال فنيّة متنوّعة، تتضمن معارض فنيّة بصريّة، وأعمالاً فنيّة في الحيّز العام، وأفلاماً ومسرحيّات؛ تأتي كلّها كنتاجٍ لعمليّة بحثٍ مجتمعيّ وورشاتِ عملٍ مع طلبة وأمّهات وفنّانين ومعلّمين.

يأتي هذا العدد متضمناً أربعة ملفات رئيسية وهي "الفن في المجتمع"، و"علوم ومتاحف"، و"تأملات في زمن الجائحة"، و"وسائط العدد".  يضم ملف "الفن في المجتمع" مقالات بحثية قدمها باحثون وباحثات مجتمعين حول منتجات مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية من معارض ومسرحيات وأفلام، التي عكست سيرورة العمل المجتمعي الفني والتفاعلي مع الناس في مواقعهم وبلداتهم، إضافة إلى تحليل الأعمال الفنية ضمن سياق إنتاجها وإخراجها.

أما ملف "علوم ومتاحف" من إعداد فريق استديو العلوم في مؤسسة عبد المحسن القطان، فقد ركز على الرؤية النقدية في مجال عمل المتاحف العلمية كفضاءات تفاعلية تشارك جمهورها في التفكير التصميمي.  وقدمت المقالات حالات دراسية لمعارض نفذها وصممها فريق الاستديو مثل معرض صدى، إضافة إلى أفكار مغايرة حول دمج التكنولوجيا الرقمية في التعليم.  وارتأينا نشر هذا الملف لإعادة الاعتبار لدور المتاحف، لاسيما أنها تشهد تحديات وأسئلة كبيرة في ظل أزمة الجائحة، وكيف بإمكانها أن تستمر برغم التحديات.

وفي ملف "تأملات في زمن الجائحة"، فقد تم التواصل مع مجموعة من التربويين والمهتمين بالثقافة والشأن العام لنشر تجاربهم الشخصية والمهنية ومدخلاتهم في ظل الأزمة وحولها، وحول ديناميكيات الحياة اليومية وتأثيراتها على التعليم والعلاقات المجتمعية وأنماط الحياة.  ووفرنا في ملف "وسائط العدد" نتاجات مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية الذي ينفذه برنامج البحث والتطوير التربوي/مؤسسة عبد المحسن القطان بدعم مشارك من الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون (SDC)، عبر عمليات بحث اجتماعي وحوارات فكرية ومعالجات فنية لإنتاج مضمون الأعمال الثقافي وشكلها الفني، وقد شارك في هذه العمليات مجموعات من الطلاب والشباب والشابات والمعلمين والمعلمات والنشطاء المجتمعيين في مواقع متعددة.  ويتضمن ملف "وسائط العدد" ندوات رقمية في مجال التربية نظمها برنامج البحث، وشارك فيها معلمون ومربيات رياض أطفال وباحثون، وتناولت الأسئلة الملحة حول شكل التعليم والمدرسة والروضة والإدارة التربوية في ظل جائحة كورونا.

وقد أخترنا هذا الشكل من النشر لوضع هذه المنتجات والمقالات ضمن الحيز الرقمي الاجتماعي لضمان وصولها إلى أوسع مساحة ممكنة وتحقيق أعلى تفاعل مع القراء والمتلقين بشكل يخترق حالة الحجر وينسجم مع قواعد السلامة، ويتجاوب مع التوجه باتجاه التفاعل الرقمي مع تأكيدنا على أن العمل مستمر على تطوير هذا الشكل الجديد ليحقق أوسع انتشار وأعمق تفاعل في ضوء تقييمنا الذي سيبنى على ملاحظاتكم والحوار معكم، بوصفها مجلتكم شكلاً وغايةً ومضموناً.

وختاماً، نوجه تحياتنا وشكرنا لزميلنا ورئيس هيئة تحرير رؤى تربوية السابق وسيم الكردي الذي شارك في تأسيسها وإطلاقها وأدارها منذ نشأتها، ومن ثم أصبح رئيساً لتحريرها (2010–2020)، وساهم في جميع أعدادها، وقدم إسهامات نوعية للمجلة تجلت في النتاجات الفكرية والمقترحات التربوية والثقافية التي رفعت مستوى الحوار والنقاش المجتمعي في هذا المجال.

 

هيئة تحرير رؤى تربوية

>>> إلى الصفحة الرئيسية