هل تستطيع اللوحات الفنية داخل المعرض أن تتحدث مع بعضها؟
"عند دخولي قاعة المعرض الفني شعرت أني انتقل إلى عالم آخر؛ عالم كنت فيه مسرعة ومنشغلة، ولدي العديد من الأشياء، أما في المعرض، فهناك حالة من الهدوء والصمت، احتجت إلى وقت لكي أنتقل من العالم السريع إلى تلك الحالة التي شعرت بها داخل المعرض الفني" ... هذا ما عبرت عنه إحدى المشاركات في مجموعة "عين وبصر" عند سؤالها عن شعورها داخل المعرض الفني في مؤسسة عبد المحسن القطّان، للاطلاع على مجموعة من الأعمال الفنية الخاصة بالمؤسسة، حيث طُلب من المجموعة أن ينظروا إلى المعرض ويتجولوا بين اللوحات، وأن ينتقي كل منهم اللوحة التي لفتت انتباهه من أجل كتابة قصة هذه اللوحة من منظوره الخاص، من دون معرفة اسم الفنان أو اللوحة.
جلس المشاركون يكتبون تأملاتهم حول اللوحة التي اختاروها في الحديقة الداخلية المقابلة للمعرض الفني في مبنى مؤسسة عبد المحسن القطان في رام الله، لأنهم ملّوا الغرف والأمكنة المغلقة التي فرضتها جائحة كورونا.
تعتبر الحدائق الداخلية في المبنى من الفضاءات المفتوحة للفعاليات واللقاءات، واستمدت وحي تصميمها من الحدائق في المدن الفلسطينية أوائل القرن العشرين. الحدائق زُرعت بالأشجار المثمرة ونباتات الزينة، إضافة إلى النباتات العطرية التي ارتبطت بثقافة الفلسطينيين وذائقتهم في الشعر والأغاني والثقافة الشعبية كالياسمين، والفل، والورود.
اختارت هبة عاصي (15 عاماً) الجلوس على المقعد الحجري بجانب نبتة الخبيزة، وهذا ما كتبته حول اللوحة التي اختارتها للفنان وفا الحوراني؛ اللوحة التي بلا عنوان:
"لو كانت عائلتي كعكة، لكنت أنا الفتات المهجور. بقايا من لذة كعكة كاملة أقبع في ظلها. في وسط الاحتفال والسعادة. لا أقارن بالكرزة الجالسة بالقمة. عيناي كانت كاسرة الجليد في أحاديثي مع جدتي، "لديك عيون جدك فتحي رحمه الله، هل أخبرتك عن مفاجأته لي بيوم خطوبتنا؟". أشرد في أفكاري بينما تعيد هي شريط ذكريات حدثت ولن تعود. أقرع الطبول لتغطية صوت أفكاري، بينما تتهامس الأمهات كيف أن لدي أذن أبي الموسيقية. نذير شؤم للموت، لا أريد أن ينتهي أمري بقبر مثله، فأترك العصاة تتدحرج لمصيرها وأتبع رائحة اللبن بالجميد القادمة من المطبخ. "رحم الله عمك، لقد كانت لديه حاسة شم قوية مثلك". أتجنب النظر بالمرآة بينما أغسل أسنان خالي الأكبر، مستخدماً يد جدتي لمسح القطع التي لا تنتمي لي، قطع أعطيت لي دون أن أطلبها.
أحيانا أتساءل، ماذا سيحدث لو أزلتها؟ أذهب للنوم فأحلم بأنني فراغ، خال من التفاصيل. فأتشبث بتلك القطع، فأنا أفضل أن أكون لوحة قبور حية، مثبتة بصخرة أخذت من أرض لا أملكها على أن أكون لا شيء. أفضل أن تعمى عيون جدي من "فلاش" هاتف فتاة ترتدي سترة حمراء. أتمنى من قلبي أنني أستطيع أن أناديها بصوتي لأطلب منها أن تجد لي قطعي، كي أخرج من هذه الغرفة السوداء".
أما سحر أبو ريدة (12 عاماً)، فقد اختارت لوحة للفنانة رقية اللولو بعنوان "بورتريه فادي" وكتبت حولها:
"طفل يغطي جسمه بعض القماش داخل مخيم مليء بالألوان الداكنة كألوان قلوب من داخله، فقلوبهم مليئة بالحزن والألم، فقد شردوا من أرضهم، وأجبروا على ترك منازلهم، فلجأوا للمخيم، فلا مأوى لهم سواه، يفعلون ما بوسعهم لإسعاد أطفالهم، ففيما كل شخص يتفاخر ببيته وطعامه، ويبدأ بالتقاط الصور للأطباق الفاخرة، فلا بد من أشخاص يتمنون الحصول على رغيف خبز وقطعة من الجبن. التقطوا صوراً كما ترغبون، ولكن لا تتفاخروا فتذكروا أن اليوم معكم، وغداً لا شيء".
وكتب حسام أبو عرة (14 عاماً) قصة حول اللوحة التي اختارها للفنان شعبان زكي بعنوان "شعبان 1936":
الريح قوية، واتجاه البحيرة يتغير، والقارب يتقلب على وشك أن يغرق بمن معه، ومن كانت معه فتاة اسمها ميري في سن التاسعة خائفة وتبكي من شدة الريح والعواصف والرعد والبرق، وتنادي بصوت عالٍ جداً: أبي ... أبي يا حبيبي أنقذني". قليلاً قليلاً هدأت العاصفة، ولكن ميري ما زالت قلقة لأن الغيوم ذات اللون الرمادي الداكن ما زالت في مكانها، وخافت من أن تبدأ العاصفة من جديد، فيغرق القارب. لم يكن أحد بصحبتها غير الله، وظلت تدعي أن تختفي الغيوم وتصل إلى وجهتها بأمان. شعرت أن الله استجاب لدعائها حينما انتهت العاصفة ووصلت إلى نهاية البحيرة، ولكن رحلتها لم تنتهِ هنا، فقد تاهت في الغابة بين الأشجار الكبيرة، واستسلمت للموت عندما غفت على الأعشاب الخضراء، حلمت بأبيها يقول لها: اركضي يا ميري فوزي في السباق، لا تستلمي، الاستسلام للضعفاء! استيقظت بسرعة، وظلت تركض وتركض وكلمات أبيها تترد في رأسها... .
واختارت لين نواهضة (13 عاماً) لوحة للفنان حسن الحوراني بعنوان "عصفور صغير وبيوت من زجاج" وكتبت حولها:
زحفتْ ظهراً على بطن، فتحتْ نافذة أعينها بهدوءٍ عارم ، كانت المدينة كالعادة تضج بالألوان والهمسات، قالت بتنهدٍ شديد: "سأشتاق لعبقك اللطيف" لم تلبث قليلاً إلا أن انطلقتْ في رحلة البحث عن الذات، بين أوراقِ الخريفِ المتساقطة، بين رفرفةِ العصافير الهادئة، حجزت مقعداً في القطار واختارتْ المقعد الذي تواسيه النوافذ بلذةِ الوصف في كل رحلة عليه، ودّعتْ الأشجار، الأحجار، والورود، ودّعتْ لحظات الأمل الصغيرة مُوقنةً أنَّ الكبيرَ في الطريق ... لم تستطع مقاومة سرب الطيور البيضاء المهاجرة، ولا مباني مدينتها الراحلة، وبشعرها البني المنسدل وأطراف أقدامها المتشبثة بحريتها، رفرفت كالطيور من فوقها وابتسمت لأملها الجديد، بأحرف النقاءِ والصفوةِ قالتْ: "ها أنا ذا قادمة إليك، يا روحي الجديدة" بأعين مغلقة ورموشٍ طويلة غردتْ لها بنهايةِ بدايةٍ بروحِ بسمة ربيعية من لُّجِ أعماق الحياةِ.
فيما اختارت حلا عايدية (13 عاماً) لوحة بلا عنوان للفنان محمد ضبوس، وكتبت:
"دبابة يقودها جندي اجتاحت قرية شارعها لا يسع كبر الدبابة، رافقتها أيام وساعات كئيبة كلون سمائها الداكن، لم تكن تعرف الدبابة شيئاً إلا تدمير بيوت من الطين والحجارة يعيشها أُناس أبرياء يحاولون البقاء في الأرض والبيت والقرية.
ربما جسد الرسام صورة عبقت في ذهنه عندما كان صغيراً أو رسم في مخيلته المشهد الذي رواه جده أو أبوه له في صغره، فنقله بألوان على قطعة قماش ليري العالم ما شعور الفلسطيني عندما يرى أرضه تسرق منه، وهو ليس معه شيء للدفاع عنها لا الحجر ولا اليد.
لون السماء الأسود، الأرض التي تحفرت من عجل الدبابة الضخم، يجسد مدى بشاعة المنظر والشعور الذي رآه وقتها في ذلك اليوم وتلك الساعة والدقيقة، ولربما أن هذا المشهد قد رآه العديد من الفلسطينيين إن لم يكن جميعهم في قريتهم، أو بجانب منزلهم عندما نظر إلى باب منزله ليرى ما سبب الضجة القادمة من عند باب القرية، أو حتى على شكل لوحة معلقة على حائط أسود، أو بغرفة مليئة باللوحات المعبرة عن شعور معين".
وأخيراً كتبت هبة أبو ريدة (14 عاماً) التي اختارت لوحة للفنان سهيل سالم بعنوان "مخيم الشاطئ":
"لقد اخترت هذه اللوحة من المعرض لأنني أحببت التفاصيل والأشكال التي فيها، شعرت عندما نظرت إليها وكأنها سفينة
في بحر مليء بالأسرار. أحببت كيف استخدم الفنان الذي صنعها الزيت ووسائط مختلفة على القماش. توحي اللوحة أن هناك الكثير من الأشخاص في السفينة، الملابس المعلقة في المخيمات على حبل الغسيل، والبحر المموج بالألوان وكأن هناك حكايات وأسرار مخبأة بداخله. كل مرة أنظر فيها إلى اللوحة/البحر، أجد شكلاً جديداً؛ فمثلا إن أمعنت النظر أستطيع أن أشاهد بذرة بداخله، السفينة بداخلها أبواب كثيرة، كل مرة أنظر فيها إلى اللوحة، سأتخيل الكثير من القصص المختلفة".واستكمل المشاركون في المجموعة تمريناً في الكتابة الإبداعية، حيث عمل كل اثنين على ابتكار حوار ثنائي مستوحى من اللوحة التي اختارها كل واحد منهما، وكأن اللوحتين تجريان حواراً مع بعضهما البعض.
مجموعة "عين وبصر" هي عبارة عن لقاءات فنية فكرية وجاهية/وعن بعد، تستهدف اليافعين (12-16 عاماً)، وتهدف إلى تدريب العين والبصر على التقاط ما يدور حولنا من ظواهر بصرية اجتماعية.