نحو تمويل مستدام للثقافة!

الرئيسية في القطان الأخبار نحو تمويل مستدام للثقافة!

زياد خلف

مدير عام مؤسسة عبد المحسن القطان

 

قُدمت هذه الورقة في المؤتمر السنوي لمؤسسة الدراسات الفلسطينية "الثقافة الفلسطينية إلى أين؟"، الذي احتضنته جامعة بيرزيت خلال الفترة بين 28-30 تشرين الأول 2016.

 

 

نحو تمويل مستدام للثقافة!

 

زياد خلف

مدير عام مؤسسة عبد المحسن القطان

 

هناكَ دراستانِ أُعدتَا لصالحِ مؤسسةِ عبد المحسنِ القطان؛ الأولى تناولتْ تحديدَ مصادر وحجم التمويل لحقلي الفنون البصرية والفنون الأدائية، وصدرت مع نهاية العام 2012، والثانية تم الانتهاء من إعدادِها مع بداية هذا العام، وركزت على مسح لمصادر تمويل حقل الفنون الأدائية، وفحصِ استعدادِها للاستمرارِ في ذلك، وللتعرف على مصادر أخرى محتملة لدعم هذا الحقل.  ومع أن أياً من هاتين الدراستين لا تعتبر شاملة، ومع التباعد الزمني بينهما، والظروف والتحولات التي طرأت خلال الأعوام الثلاثة التي تفصل بينهما، أكان ذلك على المستوى المحلي أم الإقليمي أم الدولي، والتي -لا شك- تركت الأثرَ على المعونات الخارجية لفلسطين، وعلى تمويل الفعلِ الثقافي بشكل عام - فإنَّ عدداً من الاستنتاجات التي تشتركُ بها الدراستان، إضافة إلى تجربِتِنَا في مؤسسة عبد المحسن القطان على مدى الثماني عشرةَ سنةً الماضية، تشكلُ مصدرَ معلوماتٍ ومؤشرات مهمة حول التمويل للثقافة، التي يمكن الاسترشاد بها لوضع تصور من شأنه أن يساعد في تحقيق تمويل أكثر استدامة لهذا القطاع الحيوي.

 

لذلك، لا بد، بداية، من استعراضِ الجهات الأكثر إسهاماً في دعمِ وتمويل الثقافة، التي يمكن تصنيفُهَا حسبَ وضعِهَا القانوني على النحو التالي:

 

أولاً. المؤسساتُ الحكومية ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية

وأهمُّها، وزارة الثقافة، واللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم.

 

ثانياً. مؤسسات حكومية دولية

وأهمها الاتحادُ الأوروبي، والقنصلية السويدية؛ من خلال الوكالة السويدية للتنمية الدولية، والممثلية السويسرية؛ من خلال الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون، والممثلية النرويجية، والممثلية الهولندية، والقنصلية الفرنسية، والمجلس الثقافي البريطاني.

 

ومن خلالِ مراجعةِ استراتيجيات المؤسسات الحكومية الدولية هذه، وغيرِها، نرى أن بعضَها يُعنى، بشكل أساسي، بالتبادلِ الثقافي والتعريف بثقافة بلدانها، وأن الغالبيةَ منها ليس لديها برامجُ مختصة بدعم الثقافة، وأن تمويلَهَا للنشاطات والفعاليات الثقافية يأتي تحت إطار برامجِها الأخرى لتحقيقِ أهدافِ تلك البرامج، فعلى سبيل المثال، إحدى هذه المؤسسات تدعمُ مشروعات ثقافية ضمن برنامج تعزيزِ الحكم المحلي، وأخرى تحت إطار برنامج حقوقِ الإنسان.

 

ونلاحظ، أيضاً، أن أغلبَ المؤسساتِ الحكوميةِ الدوليةِ، تقومُ بمراجعة استراتيجياتها كلَّ ثلاث إلى خمس سنوات، وأن ذلك عادةً ما يؤدي إلى تغيير في مجالاتِ عملها، وهناك عددٌ من الحالات خلال السنوات القليلة الماضية، ألغت فيها مؤسسات حكومية دولية دعمَهَا المباشر للثقافة.  فقبل سنواتٍ عدة، ألغت بلجيكا برنامَجَها الثقافي، وعند تولي الحكومة اليمينية سِدَةَ الحكم في الدنمارك، قامت، العام الماضي، بإلغاء دعمِها لبرنامج الثقافة الذي كانت تمولُه.

 

ومما لا شك فيه، أن الأزماتِ التي تمر بها المنطقة، والعدوان الإسرائيلي والحصار المتواصل على قطاع غزة، أدَّيا إلى تحول معظم الممولين نحو الدعم الإغاثي ودعم الطوارئ على حساب القطاعات الأخرى، وبالأخص القطاع الثقافي، الذي يُنظر إليه كترفٍ في ظل هذه الأزمات.

 

بناءً عليه، يمكن الاستنتاجُ أن استراتيجيات المؤسسات الحكومية الدولية المهتمة بدعم الثقافة، وعددُها محدود، شديدةُ التأثر بالتغيرات التي قد تحدث، وأن عدَدَها وتمويلَها لقطاع الثقافة مُعرَّض للانخفاض.

 

ثالثاً. صناديق ومؤسسات عربية ودولية

وأهمُّها الصندوق العربي للثقافة والفنون، ومكتبُ تنسيق الصناديق العربية، وصندوقُ الأمير كلاوس، وصندوقُ أوبيك للتنمية العالمية، ومؤسسةُ دروسوس، و"كي أن كي" اليابان، ومؤسسةُ إنقاذ الطفل، وتحالفُ أطفال الشرق الأوسط، ومؤسسةُ السلام الإيطالية.

 

وفي مراجعةٍ لاستراتيجيات وبرامج هذه المؤسسات وغيرِها، نلاحظ، أيضاً، أن القليلَ منها لديه برامجُ مختصة في تمويل الثقافة، وأن دعمَ الأغلبية منها للثقافة يأتي في إطار تحقيق أهداف برامجِهَا الأخرى، وبخاصةٍ تلك في مجال الطفولة.  وحتى تلك الجهات التي لديها برامج مختصة في تمويل الثقافة، مثل الصندوق العربي للثقافة والفنون، الذي يعمل على مستوى العالم العربي، فإن تمويلَهُ للثقافة في فلسطين، مع أهميتِهِ، يُعتبرُ محدوداً جداً.

 

رابعاً. مؤسسات داعمة فلسطينية

وأهمها مؤسسةُ التعاون، ومؤسسةُ منيب رشيد المصري، ومؤسسةُ عبد المحسن القطان.

 

لعبتْ هذه المؤسسات، ولا زالت، وبخاصةٍ مؤسسةَ عبد المحسن القطان، ومؤسسة التعاون، دوراً محورياً في تمويل الثقافة، من خلال برامج ثقافية مختصة ومستمرة، شكلت نماذجَ يُحتذى بها لبعض المؤسسات العربية الداعمة لقطاع الثقافة، وللمقتدرين الفلسطينيين في الداخل والخارج.

 

وبخصوصِ مؤسسة عبد المحسن القطان، التي تركّز عملها في قطاعي الثقافة والتربية، فقد بلغَ إنفاقُها الفعليُّ منذ انطلاقِ عملها في فلسطين العام 1998، أكثرَ من 63 مليون دولار، منها 14,7 مليون دولار من مصادر خارجية، وحوالي 49 مليون دولار من صندوق القطان الخيري وعائلة القطان.  وخلال هذه الفترة، وفّر برنامجُ المؤسسة للثقافة والفنون، في حقول الفنون الأدائية، والبصرية، والأدب، والمرئي والمسموع، منحاً في الدراسات العليا لـ 134 طالباً، و112 منحةَ إنتاج، و365 منحةً لدعم أنشطة ومشاركات، و35 منحةً لدعم مهرجانات، و48 منحةً لدعم إقامات فنية في الخارج، وَدَعَمَ مشاركة 192 فناناً وكاتباً في المدرسةِ الصيفية للفنون الأدائية، ومسابقةِ الفنان الشاب، ومسابقةِ الكاتب الشاب، كما نشرت المؤسسةُ 85 إصداراً، و52 عدداً من مجلة رؤى تربوية، ودعمتْ نشرَ 21 إصداراً لمؤسسات أخرى، وشاركَ آلافٌ عدة من المعلمين والطلبة في أنشطة وفعاليات برنامج البحث والتطوير التربوي.  وخلال العام الماضي فقط، شارك أكثرُ من 46 ألف طفل في النشاطات الثقافية لمركز الطفل في غزة.  واستفاد العشراتُ من الفنانين والمبدعين الفلسطينيين واللبنانيين من منح مشروع صلات الذي تنفذه المؤسسة في لبنان، وقام عشرات الآلاف بحضور الفعاليات الثقافية التي تنظمها قاعات الموزاييك في لندن منذ انطلاق عملها في العام 2008، وتهدف قاعات الموزاييك إلى تعريف الجمهور في بريطانيا بالخطاب والإنتاج الثقافي والعربي والفلسطيني المعاصر.

 

وتعملُ المؤسسةُ حالياً على إنشاء مبنى جديد في رام الله، سيضمُ إضافةً إلى مساحات العمل، العديدَ من المرافق العامة، ويصاحب ذلك إطلاقُ البرنامج العام الذي سيعملُ على تصميمِ وتنفيذ برنامجٍ ثقافيٍّ متعددِ المحاور، مستخدماً هذه المرافق وفضاءات أخرى في أرجاء الوطن.  كما نعملُ، أيضاً، على إنشاء مشروع استوديو العلوم الذي يهدف إلى المساهمة في تطوير تعليم العلوم، ونشر الثقافة العلمية.

 

وتشكل وقفيةُ المؤسسة عِمادَ استدامتِهَا، وتنظر المؤسسة إلى توطيدِ الشراكات والإنتاجات المشتركة المحلية والخارجية، وإلى الرسومِ والرَّيعِ من الاشتراكات والنشاطات، وتأجير المعدات والمرافق، وإنشاء مشروعاتٍ مدرة للدخل، واستقطاب التمويل الخارجي المشارك غيرِ المشروط، والتعرف على ممولين جدد للثقافة في فلسطين، وتحفيز الأفراد والفرق المستفيدين من برامج المؤسسة على العطاء بالمقابل، كعوامل مهمة لضمان الاستدامة، مراعيةً أن لا تؤثر أيٌّ من هذه العواملِ سلباً على الفاعلين في القطاع الثقافي، أو أن تشكل عائقاً أمام المشاركة في نشاطات برامج المؤسسة.

 

وعلى مدارِ السنوات الخمسِ الماضية، أدارت المؤسسة منح برنامج شبكة الفنون الأدائية الفلسطينية، الذي تضمن توفيرَ 33 منحةً لإحدى عشرة مؤسسة شريكة بقيمة إجمالية بلغت 4,75 مليون دولار، وتمخَّض عن البرنامج تسجيل شبكة الفنون الأدائية الفلسطينية في شهر شباط من العام 2015، وبادرت الشبكةُ هذا العام إلى توسيع قاعدة عضويتِهَا، وعمل الشركاءُ على التشارك في الخبرات، وتنفيذ نشاطات مشتركة، وحملات الحشد والمناصرة للتأثير على المانحين الأجانب والمحليين، وعلى المؤسساتِ الحكومية والمجتمع المدني، وكلُّ ذلك بهدف وضع الفعل الثقافي، بشكل عام، والفنون الأدائية، بشكل خاص، على سُلَّم الأولوياتِ لتطويرِ العمل، وتحسين فرصِ استدامته.

 

ومن الواضح أن عددَ المؤسسات الفلسطينية الداعمة قليلٌ جداً، ولتحفيز إطلاق مؤسسات داعمة مثيلة، فعلى المؤسساتِ القائمةِ أن تَنشطَ في ترويج عملها، وإجراء دراسات لقياس أثر نشاطاتِهَا، وتعميمِهَا، ومن شأنِ وجود التشريعات والقوانين الخاصة بمؤسسات النفعِ العام، تحفيزُ تأسيسِ مثل هذه المؤسسات، وقد شاركنا، مؤخراً، في نقاش مسودة مشروع قانون مؤسسات النفع العام، الذي تعمل عليه كل من وزارتي العدل والمالية، ونعتقد أن إقرارَ مثل هذا القانون، سيكون له الأثر الإيجابي في ازدياد عدد المؤسسات الداعمة.

 

خامساً. القطاع الخاص

بيّنت الدراساتُ التي تم إجراؤُها أن هناك شركات، وضمن مخصصات المسؤولية الاجتماعية، لديها برامج خاصة بدعم الثقافة كبنك فلسطين، ومؤسسةِ مجموعة الاتصالات الفلسطينية، ومجموعةِ باديكو القابضة، والشركةِ العربيةِ الفلسطينية للاستثمار، والوطنيةِ موبايل، وشركةِ المشروبات الوطنية، وأن هناك شركاتٍ تهتم بدعم الثقافة، ولكن ليس لديها برامجُ ثقافية، وأخرى ذاتُ اهتمامٍ محدودٍ جداً بدعم الثقافة.

 

ونرى أن اهتمامَ شركات القطاع الخاص بالثقافة يتفاوت من شركةٍ إلى أخرى، وأن الدعمَ غالباً ما يتسمُ بعدم الانتظام، ولا ينطلقُ من منظور تنموي، وإنما للترويجِ لهذهِ الشركات، وللمساهمةِ في تسويق منتجاتِهَا وخدماتِهَا، حيث نلاحظ أن فرصَ التمويل للأنشطة الثقافية تزدادُ من شركات القطاع الخاص مع اتساع عددِ الجمهور، وقد تكون الملاحظةُ الأهم أن مساهمةَ القطاع الخاص في تمويل الثقافة محدودةٌ جداً، وبالتالي فإنها مرشحةٌ للازدياد.

 

وبالعودةِ إلى المؤسسات الحكومية، وعلى الرغم من عدمِ توفُّر بياناتٍ إحصائية دقيقة، فإن المعطيات، وبخاصةٍ النسبة الضئيلة جداً المخصصة لوزارة الثقافة في الموازنة العامة، تؤكد أن إسهامَ وزارة الثقافة في تمويل النشاط الثقافي هو الأقل، مقارنة بإسهام المانحين الأجانب والمؤسسات الداعمة الفلسطينية والقطاع الخاص.  والأخطر في ذلك، أنه مؤشر على أن الثقافة لا يُنظر إليها كقطاعٍ حيوي في عملية التنمية الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية من قِبَل صانعِ القرار الفلسطيني.

 

وفي ضوء الوضع السياسي والاقتصادي على المدى المنظور، الذي يعني حتمية استمرارِ اعتمادِ فلسطين على المعوناتِ الخارجية، فلا يُتوقع أيُّ تغييرٍ على الخلل في المخصصات لوزارة الثقافة في الوقت القريب، أو حتى المتوسط، غير أن هذا الواقع لا ينفي ما يُمكن عملُهُ لمعالجة هذا الخلل، فعلى العاملين في الحقل الثقافي، أفراداً ومؤسسات، والمهتمين بالشأن الثقافي من القطاع الخاص، الانخراطُ في حوارٍ مجتمعيٍّ واسع، يشملُ الحكومةَ ووزارةَ الثقافة على وجه الخصوص، لبلورةِ تصوراتٍ حول القوانين والتشريعات والاستراتيجيات، كالإعفاءِ الضريبي، التي من شأنها زيادةُ المخصصات لدعم الثقافة.  وعلمنا، مؤخراً، أن وزارةَ الثقافة تعملُ على إعدادِ مشروعِ قانونِ صندوقِ الثقافة، وأن مسودةَ القانونِ ستخضعُ لنقاشٍ واسعٍ لبلورةِ صيغةِ القانونِ النهائية، وسيكونُ لهذا الصندوقِ، في حالةِ إنشائه، أثرٌ كبيرٌ على استدامة قطاع الثقافة.

 

بقيَ أن نؤكد على أن الثقافة، وهي حقٌ للإنسانِ حسبَ المواثيقِ الدولية، تشكلُ حلقةً أساسيةً في عملية التنمية والدورة الاقتصادية، وأن العددَ الواسعَ من الناس المشاركَ في الفعل الثقافي والمستهلكَ لهُ، هو الأساسُ في ضمانِ استدامةِ هذا القطاع.

 

ولتحقيقِ ذلك، لا بد من إعادةِ النظر في سياسات ومناهج التعليم على المستويات كافة، بدءاً من مرحلة ما قبل المدرسة، وحتى الدراسات العليا، لتكونَ الفنونُ في صلبِ سياساتِ ومناهجِ التعليم، لما لها من قدرةٍ على تنشيطِ الخيال، وتحفيزِ الإبداع، وإغناءِ الحياةِ الرُّوحيةِ للفرد، وللمجتمعِ بشكل عام.