بعد اختتام مشروع "عنقاء تتكلم"، كنا نستذكره كواحد من أبرز إنجازات مبادرات العمل التطوعيّ، ونتوقع له مستقبلاً واعداً، فقد كان مشروعاً مبشراً، وذا توسع سريع ومتعاظم، وكان قائماً على تعزيز مفهوم المشاركة المجتمعيّة والعمل التطوعيّ، بالتركيز على تفعيل دور فئة الشباب من الخريجين والخريجات الجدد (25-30 عاماً) لإنتاج مبادرات مجتمعيّة مستخدمين الفنّ وسيلة لذلك، في سبيل التغيير المجتمعيّ.
وكان المشروع قد استند إلى ثمانية فرق من المبادرين والمبادرات الذين عملوا على التفكير في مشاكل مجتمعاتهم والبحث في طرق حلّها، وقد رآهم المشروع "أمل الأمة ووقود نهضتها".
استطاع المشروع تشكيل 8 فرق شبابيّة في كلّ منها 10 فاعلين ومشاركين، موزعينّ في 4 مناطق، وبخاصّة المخيمات، إذ تعدّ هذه المناطق مهملة كما أنها بعيدة عن الخدمات الأساسيّة. هذا وقد نفّذ كلّ فريق مبادرة واحدة، بواقع مبادرتين في كلّ منطقة، ما بين معارض فنيّة ومخيّمات صيفيّة، ومبادرات وفّرت أدوات بسيطة لتسهيل عمل أو خلق فرص عمل انتقلت من كونها مبادرة لتصبح أسلوب حياة، بمساعدة ودعم الجهات المحليّة والجمعيّات والمراكز والأهالي. وقد سعى المبادرون والمبادرات من خلال عملهم إلى التغيير والتأثير على المجالس المحليّة والمنظمات الأهليّة وأصحاب القرار.
هدفت المبادرات إلى إشراك المجالس المحليّة والجمعيّات والمنظمات الأهليّة في عمليات إنتاج المبادرات، من خلال اللقاءات الأوليّة معهم، وحتى مراحل التنفيذ، الأمر الذي بدا جلياً في استجابتهم، إذ وفّرت جمعية براعم الأمل والمحبّة بالتعاون مع مبادرة "ليبارتنغو" في مخيم المغازي، مساحة أو حاضنة للأطفال والشباب في المنطقة، تمثّلت في غرفة لمكتبة عامّة وغرفة لإقامة النشاطات الفنيّة كمكان دائم، وتبرّعت بدورها مؤسسة تامر للتعليم المجتمعيّ ومؤسسات أخرى بالكتب. وفي مخيم البريج، وعد المجلس المحليّ إلى جانب البلديّة بتخصيص مساحة ثقافيّة في المخيم، للمحافظة على إرث المنطقة داخل المخيّم، وتوفير مركز لتنظيم الأنشطة الثقافيّة.
وفي حين كنا نتمنّى أن تستمر بعض هذه المبادرات حتى اليوم، فإن مخرجات المشروع والمبادرات قد سُويّت بالأرض، فعلياً ومجازياً بفعل العدوان الإسرائيلي المستمّر على قطاع غزّة، واضطرار أهالي الكثير من المناطق إلى ترك بيوتهم والنزوح نحو رفح، أو استشهاد الكثير منهم، فالاحتلال يهدف إلى التدمير الشامل والإبادة الفعليّة للبشر والحجر.
ركز مشروع "عنقاء تتكلم" على التدخّلات الفنيّة كوسيلة لإنتاج المبادرات المجتمعيّة، بدءاً بورشات الباروميتر لدراسة أولويات الشباب وقضاياهم، ومن ثمّ توظيف فن الدراما في تشجيعهم على سرد قصصهم وهمومهن، بما يساهم، أيضاً، في تعزيز التواصل بينهم ومع مجتمعهم بمكنوناته المختلفة، مروراً بالتدرّب على مهارات تصميم المبادرات المجتمعيّة وإنتاجها، الذي يسعى إلى تعزيز المشاركة المجتمعيّة وإبراز الدور الذي يمكن للثقافة والفنون أن تلعبه في تقوية التماسك الاجتماعيّ وتطوير المجتمع.
في منطقة البريج، نُفِّذت المبادرتان "الطفل الفنّان" و "طلّ القمر"، اللتان استهدفتا فئة الأطفال (بين 11-14 عاماً، والطلاب المبدعين من 15-25 عاماً)، وأدرجت فنون الرسم والتصوير كأداةٍ للتفريغ وقراءة مشاكل التوتّر لدى الأطفال الناجمة عن وجود الاحتلال وتضييقه على سكان القطاع، فيما اختتمت الفعاليات بمعارض فنيّة، في مدارس الذكور والإناث الإعداديّة في المنطقة، حضرها ما يقارب الـ 200 شخص.
بينما أطّلت علينا مبادرة "سكوبي دو" في منطقة المغازي من قلب المخيم بفعاليات وأنشطة ثقافيّة، ضمن مخيّم صيفيّ للأطفال، تهدف، بشكل أساسي، إلى دمج الأطفال من ذوي الإعاقة السمعيّة مع زملائهم، حيث استمّرت فعاليات هذا المخيم على مدار 13 يوماً بمشاركة 27 طفلاً، منهم 17 من الصمّ، تراوحت أعمارهم بين 9-14 سنة. واشتملت الأنشطة على تعلم رقص الدبكة، وإنتاج المسرحيات والرسم.
ومع تركيز بعض المبادرات على نوعية المشاركين/ات والمستفيدين/ات، حاولت أخرى التركيز على القضايا المجتمعيّة البارزة، ففي مبادرة "أعطيها فلاش"، حاولت المبادرة قياس أثر وسائل التواصل الاجتماعيّ على العائلات والمجتمعات في منطقة المغازي، حيث تعاني هذه المنطقة من بُعدها عن مركز المدينة جغرافياً، ما أدى إلى انقطاع أهاليها عن محيطهم الأوسع، إلا من خلال الهواتف النقّالة ووسائل التواصل الاجتماعي. وقد قدمت مسرحيّة "راوتر" معالجة لتأثير مواقع التواصل الاجتماعيّ على أهالي المنطقة، متيحة الفرصة لتبادل الأفكار مع الجمهور، وعُرضت المسرحيّة 4 مراتٍ أمام الأطفال وأهاليهم وصنّاع القرار في المنطقة، حضرها حوالي 312 فرداً.
اختلطت المبادرات بالمشهد المجتمعي، فقد ساهم المشروع بتعزيز مبادئ العمل التطوعيّ القائمة على بذل الجهد والوقت في خدمة القضايا الجمعيّة لبناء مجتمع أفضل، عبر مساهمات مختلفة في مجال الإنتاج والفنون والبيئة، لتستمر مبادرات "إللي منا إلك، واللي منك لغيرك" و"حبكة وضحكة"، في منطقة ومخيّم النصيرات، من خلال توفير معدات بسيطة للأهالي والسيدات في المخيم القديم والجديد في المنطقة، لصنع خبزهم ومأكولاتهم وملبوساتهم، إذ تعاني المنطقة من التهميش والوضع الاقتصاديّ الصعب.
وفّرت مبادرة " إللي منا إلك، واللي منك لغيرك" لأهالي مخيّم النصيرات، أفراناً مصنوعة من براميل حديديّة، بأيادي المبادرين والمبادِرات، حيث أصبحت مصدر دخل للعديد من العائلات الفقيرة، ومن خلالها، استطاع الحيّ إعداد الخبز والمعجنات يومياً، واستعمالها لغايات التدفئة في فصل الشتاء. فيما استطاعت مبادرة "حبكة وضحكة" توفير آلات خياطة، اثنتان منها للسيدات في المجتمع المحليّ، يتناوبنَ عليها لصنع ملبوسات عوائلهنّ، وما استطعن لبيعه وكسب قوتهّن، حيث قامت سيدة من المنطقة بتقديم دورات خياطة وتصميم للسيدات، إضافة إلى تقديم آلاتها لمساعدتّهن في العمل.
وقريباً منها، ننتقل إلى منطقة دير البلح، فشكّلت مبادرة "حصان على الإتيكيت" نقلةً نوعيّة لساكنيها، من خلال ابتكار "حفّاظة" جلديّة تُربط للأحصنة التي تجّر عربات النقل أو البضائع، وحيث إن المنطقة تحوي عدداً قليلاً من اللاجئين، فإن الخدمات المقدّمة للمخيّم قليلة، ولذلك فإن المخيّم يعاني من مشاكل بيئيّة نتيجة روث وفضلات الأحصنة على الطرق والأرصفة، ومن هنا جاءت فكرة المبادرة، التي وفّرت "الحفّاظة" لـ 15 عربة، الأمر الذي شجّع البلديّة والمجلس المحليّ على تبّني الفكرة وتوفير الخامة والمساعدة في تصنيعها وإعدادها كجزء من أدوات الحفاظ على البيئة، فيما تتّم إعادة تدوير الفضلات الناتجة كسمادٍ ووقود طبيعيّ.
يُذكر أن مشروع "عنقاء تتكلّم" يُنفّذ من قبل جمعية مسرح بذور للثقافة والفنون ضمن مسار المنح التابع لمشروع "الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية" في دورته السابعة للعام 2022، وبتمويل مشارك من الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون (SDC). وقد تم تدمير معظم إنجازاته المادية خلال العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023.