لطالما سمعتُ أن أريحا "مدينة ملعونة ويجب عبورها بسرعة وعدم الإقامة فيها"، ولم يحدث أن فكرت ذات مرة في ما يُحسه أبناء أريحا وبناتها عندما يسمعون مثل هذه المقولات عن مدينتهم، وهم المقيمون فيها وينتمون لها، وقد عاد هذا السؤال إلى ذهني عندما طُرِح -إلى جانب قصص كثيرة- في مسرحية "افتح الحقيبة" التي نفذها فتيةٌ وفتياتٌ من المدينة، في إطار مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية، وهو من مشاريع مؤسسة عبد المحسن القطان، بتمويل مشارك من الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون.
المشروع الذي تم تنفيذه على مدار أربع سنوات (2016 - 2019) في مواقع عدة بالضفة الغربية وقطاع غزة: نعلين، قطنة، قلقيلية، أريحا، تجمع أبو النوار، دير الغصون، عنبتا، قرى الخليل، الجفتلك، غزة، بيت لاهيا، عبسان، الزوايدة، خان يونس، استطاع أن يُحقق تدخلاً فنياً في مجتمع ما زال الفن قاصراً وثانوياً أو تجميلياً وربما عبئاً أو مُحرّماً في نظره، وهو ما ظهر بوضوح في تعامل سكان كثير من هذه المناطق مع باحثي القطان في قطنة وقلقيلية على سبيل المثال، قبل أن تنقلب الصورة تماماً في ختام السنوات الأربعة، وهو ما يظهر بوضوح في المنتجات التي ليست مسرحية "افتح الحقيبة" إلا مثالاً عليها، وقد تحدث عن ذلك الباحثون في يوم دراسي استضافته مؤسسة القطان في الطيرة، يوم السبت 14 كانون الأول/ديسمبر 2019.
في أريحا، فتحت فتياتٌ وفتيةٌ حقيبة الواقع المسكوت عنه عبر مسرحيتهم "افتح الحقيبة"، وهي التي تم عرضها مرتين على مسرح في المدينة، وحظيت بترحيب كبير يُمكن ملاحظته في التصفيق الحار والتفاعل الذي رافق العرض، وقالت رحيق يماني، البطلة في المسرحية، إنها لمسته حينها في الثناء الذي استمعت إليه.
أخرج أبطال "افتح الحقيبة" من حقيبتهم معاناة خاصة بهم كأبناء أريحا، في مدينتهم التي بدأوا لا يُصدّقون دعاية أنها المدينة الصناعية الزراعية، فهم لا يجدون فرص عمل، والأجور عندهم أقل، ورحيق اضطرت لأن تعمل في مستوطنة وتتعرض للتحرش من صاحب العمل (الإسرائيلي) هناك.
مسرحية "افتح الحقيبة" تبعتها مسرحية أخرى أُنتجت في إطار مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية، وهي "خارج السيطرة"، وتتحدث عن التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل، وخلالها انضم 6 فتية وفتيات آخرين إلى المجموعة الأولى، وسيواصلون عملهم بعد أن طلبت من مؤسسة عبد المحسن القطان تقديم مبادرتهم بأنفسهم لدعمها.
المعبر في أريحا الذي يُشكل نافذة الضفة الغربية وأحياناً قطاع غزة إلى العالم، لم يكن محورياً أو فاصلاً في بعض القصص التي عرضتها مسرحية "افتح الحقيبة"، لكن المعبر في نعلين الذي يُعد نافذة قسمٍ من الفلسطينيين في الضفة إلى الخط الأخضر، كان محورياً في كثير من القصص التي تخص بلدة نعلين، وهو ما استطاع أن يجمعه فيلم المعبر للمخرج بسام الجرباوي في 25 دقيقة، ففي نعلين حاجزٌ يفصل بين الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر، ويُسمى المعبر، وبسببه انتشرت السيارات المشطوبة (غير القانونية) في نعلين، والأسواق والورشات التي يزورها المستوطنون، إضافة إلى المواجهات والدكان الذي أقامه رجالٌ وفتية من نعلين عند المعبر لبيع المواد الغذائية للعمال الذين يستخدمون المعبر.
أحدث الفيلم في نعلين ثم عند عرضه في مؤسسة عبد المحسن القطان نقاشاً ساخناً حول ما يحدث في البلدة من متغيرات، وما يدخل إليها من عادات وظروف لا تُشبه أهلها ولا تتناسب مع نضالاتها لسنوات طويلة كما يقولون.
كما استطاع المتطوعون في نعلين توقيع وثيقة ضد استخدام السيارات المشطوبة في القرية، وهو أحد جزأين من العمل الفني تحت الشطب الذي أنتجه المتطوعون في نعلين، وفي شقه الآخر تم تركيب مرآة من نمر السيارات.
واللافت في نعلين كثرة مخرجات المشروع وتنوعها بدءاً من استعادة الذاكرة في عمل طريق الصدى الذي دفع الناس إلى استرجاع ذكرياتهم مع باص نعلين الوحيد في القرن الماضي، إلى الحريات التي سلبها الاحتلال وناقشها فيلم المعبر، والمجتمع من خلال تقاليده التي ناقشها الفيلم القصير بنت وبسكليت بعرضه حكاية بنت تُحرم من اللعب على الدراجة الهوائية في الشارع، ويُسمح لها باللعب بها فوق سطح المنزل محدود المساحة رغم الخطورة على حياتها.
ومن جميل مخرجات نعلين أيضاً كان مشروع "نوافذ للسقف"، وفيه تم نقل السجون إلى نعلين، ونقل نعلين إلى السجون، ففي سجون الاحتلال توضع الأسرّة فوق بعضها فيكون لكل سرير سقفٌ يضع الأسير فيه صوراً تخصه. وفي مشروع نوافذ للسقف التقط المتطوعون صوراً طلبها الأسرى وأرسلوها لهم، كما وضعوا أسرّة على طريقة ما يحدث في السجون، وتوافد الناس لتجربتها بأنفسهم واستحضار تجربة الأسرى ومشاعرهم.
وإن كان المعبر أساسياً في حكايات أريحا ونعلين، فإن البحر هو القصة في منطقة الزوايدة وسط قطاع غزة التي احتضنت حملة "البحر إلنا" بكثير من الإبداع الذي جسّده 30 شاباً وشابة هم في الأساس فنانون في المسرح والغناء والرسم، واستطاعوا أن يُحققوا حواراً جعل رئيس بلدية الزوايدة يأتي مع أعضائها لمشاهدة عرض الحكواتي الذي قدمته فنانتان من الفريق بالثوب الفلسطيني، وتخلله غناء، في منطقة قال منسق المشروع الفنان والمخرج علي مهنا إنها لم تكن تقبل على الإطلاق وقوف شابة على المسرح، أو عمل مجموعة مشتركة (مختلطة) من الذكور والإناث.
في "البحر إلنا"، استطاع الفريق أن يستخرج من نفوس الأطفال والمواطنين فكرة أن البحر للبلدية أو للاحتلال، ليُحلَّ بدلاً منها فكرة أن البحر لهم، ومن هنا انطلق الجميع في تنظيف الشاطئ على قاعدة أن البحر الجميل النظيف الذي يعطينا كل الخير، يجب أن يُقابله شاطئ نظيف، وأن هذا المكان ملكي مثل قميصي الخاص الذي لا أُحب أن يتسخ أو يتمزق ويجب أن أُحافظ عليه.
خلال أسبوعين استطاع الفريق أن يبني موقعاً خاصاً تحول بعدها ولشهور، إلى مزار سياحي يقصده أهل المنطقة ويصفونه بأنه مريح وممتع، كما أصبح مقراً لأنشطة الفريق وعروضهم المسرحية والغنائية، إضافة إلى عرض الحكواتي والمبحراتي الذي ابتدعه الفريق، وهو على غرار المسحراتي، لكن باستخدام كلمات تخص البحر.
وتمكن الفريق من الحصول على إذن من بلدية الزوايدة، لإنشاء موقعهم عليه وتنفيذ أنشطتهم فيه، وقد أنشأوه من جذع النخيل وسعفه، فأقاموا غرفة ليجلس الجمهور فيها تحت الظل، وفيها مقاعد من جذع النخيل أيضاً.
المهمة في أريحا ونعلين وربما الزوايدة أيضاً كانت أسهل منها في قلقيلية، وهي المحافظة التي كما يقول مالك الريماوي، الباحث الرئيسي في برنامج التكون المهني للمعلمين في مؤسسة عبد المحسن القطان، كانت تضم ثلاث مرجعياتٍ عند اتخاذ القرار بالعمل فيها، ثم قبل أن يُنهي المشروع عمله كان الفن هو المرجعية الرابعة فيها.
والصعوبة في هذا المشروع لم تكن في إدخال الفن فحسب، بل في نقاشٍ موضوع مثل تحرير المرأة، بدءاً من البحث في أسباب منع كتابة اسمها على بطاقة الدعوة للزفاف، وصولاً إلى أن تخلع المرأة السلاسل والقيود وتعيش فكرة أنها نصف المجتمع بكل ما تعنيه المقولة.
أنتج الفنانون والمتطوعون في مشروع الثقافة والفنون - قلقيلية معرضاً يقوم على أن يكتب الزوار أسماء أمهاتهم وأخواتهم وبناتهم وزوجاتهم مع جُملة ما، وكانت النتيجة أنهم كتبوا الأسماء ومعها عبارةٌ تتضمن الفخر بهن.
الفارق الذي أحدثه مشروع الثقافة والفنون يعزوه الريماوي إلى علاقة الشراكة التي أوجدها الباحثون مع المتطوعين والناس في المواقع المستهدفة، فهو يقول إن الناس تردد الخطاب الاجتماعي العادي خلال الحديث معها وطرح التساؤلات، وحتى نذهب إلى الحقيقة ولا يتعاملوا معنا كغرباء يجب أن نتعامل مع الناس كشركاء، وإذا لم يحدث ذلك سيتعاملون معنا كغرباء ويعطونا صورة محددة.
هذه الشراكة أثرت في الناس وتأثر بها الفنانون أيضاً، وهو ما أكده الفنان منذر جوابرة في حديثه عن قطنة بعد أن شارك مع الناس هناك في الرسم وإنتاج الجمال، هؤلاء الناس الذي قال جوابرة إنهم أغلقوا الأبواب في بداية الأمر ثم بعد أربعة أيام، وعندما شاهدوا الفن والرسومات الجميلة تبدّلت الأحوال وصاروا يشاركون ليس في العمل فحسب، بل في إعداد الشاي والطعام، أيضاً، وفتح بيوتهم، وهو ما أكدته، أيضاً، الباحثة ياسمين قاعود في قراءتها لمشروع الثقافة والفنون ومخرجاته، حيث أشارت إلى أن الناس الذين أغلقوا الأبواب في البداية هم أنفسهم من وضعوا أوراقاً تطلب من الزائرين عدم تخريب الرسومات.
في دير الغصون، بدأ العمل في الوقت الذي كانت فيه البلدية قد قررت هدم مبنى "عقد البد التاريخي" (وهو مبنى كبير وقديم جداً مرتبط تاريخياً بأحمد باشا الجزار) من أجل استغلال المساحة لعمل مواقف للسيارات، فكان العمل انطلاقاً من هذا القرار من أجل وقفه، وهو ما تمَّ بالفعل، بعد جمع تواقيع من أهل المنطقة تطالب بوقف هدمه.
أوقف النشطاء وأهل دير الغصون قرار الهدم، وأحدثوا التفافاً مجتمعياً ووعياً جماعياً حول ضرورة حماية الأماكن التاريخية وإحيائها، من خلال استخدامها للمصلحة العامة. ونتيجة ذلك، تم ترميم مبنى "عقد البد" وبات يشكل وجهة رئيسية لزوار دير الغصون، ويتم استخدامه للمناسبات الاجتماعية والثقافية.
واستلهاماً من تجربة "عقد البد"، قدّمت عائلاتٌ من دير الغصون أربعة بيوت تاريخية تملكها لتُصبح فضاءاتٍ مجتمعيةٍ وحاضناتٍ للثقافة والفن، أحدها تحول لاحقاً إلى مركز ثقافي مجتمعي. كما قدم الأهالي ستة بيوتٍ كانت مهجورة ومهملة في منطقة نائية بالقرب من وادي مصين، وقصدها فريق المشروع والمتطوعون والأهالي الذين تشجعوا للفكرة كل يوم جمعة ونظفوها من كافة النفايات البلاستيكية ومن الأشجار اليابسة، فتحولت المنطقة التي كانت أشبه بالغابة سابقاً إلى متحف في الحياة البرية.
وأضاف المتطوعون إلى هذه المنطقة -المتحف- مقاعد خشبية وأعمالاً فنية تركيبية من الخشب والحجارة، ونصبوا بوابة خشبية كبيرة، واستصلحوا بئراً للمياه، ووضعوا إشاراتٍ مكتوبٌ عليها اسم كل نبتة برية، حتى أصبح المكان مزاراً للعائلات التي تتوافد بشكل دائم وتحديداً في أيام الجمعة، كما صار أهل دير الغصون يعتبرون هذا المكان مقصدهم الأهم للترويح عن أنفسهم.
حاز مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية على موافقة الوكالة السويسرية بتجديد التمويل لأربع سنوات أخرى (2020 - 2023)، وفي المرحلة المقبلة سيعمل المشروع على تعزيز ما تم تنفيذه، إضافة إلى وضع الطاقة المتوفرة بين أيدي المعلمين وطلاب المدارس للعمل من خلالها.
وأكدت السيدة راغدة أنضوني مديرة البرامج الثقافية في مكتب التعاون السويسري في غزة والضفة الغربية أن هدف المشروع بالإضافة إلى تعزيز المشاركة والمساءلة المجتمعية هو تمكين أفراد المجتمع ليصبحوا وكلاء التغيير مما يؤدي إلى الاستدامة، "فنحن نريد مجتمعاً فاعلاً، كلٌ في موقعه، لقد وضعنا البذرة الأولى لإحداث تفاعل وحراك من أجل أن يقوم الناس أنفسهم بالتغيير".