عندما تخرج السيارة عن الطريق المعبدة إلى طرق ترابية تسير فيها الدراجات النارية وعربات "التوك توك"، تعلم أنك في منطقة زراعية في المناطق الشرقية لقطاع غزة. شوارع مستقيمة تحيط بها الأشجار الخضراء والمزروعات الموسمية. يبدو هذا الجمال الطبيعي وكأنه لم يشهد حروباً.
حي المنارة التابع لبلدة "معن" شرق خان يونس، هو حي زراعي تعتاش الغالبية العظمى من سكانه الـ 13 ألفاً على الزراعة والرعي، والقليل من سكانه موظفون، فمعظم السكان منهمكون في زراعة الخضروات والحمضيات والزيتون، في منطقة تجمع ما بين العمل كزراعة والبداوة كمجتمع.
وقعت المنطقة في مرمى نيران الاحتلال الإسرائيلي خلال أكثر من عدوان إسرائيلي منذ العام 2008. فخلال العدوان الأخير، كان حي المنارة من المناطق الساخنة جداً، وقد تركز القصف في المناطق الزراعية بشكل مكثف، ما أدى إلى نزوح سكانها كافة.
منطقة بلا بنية تحتية
يفتقر الحي إلى البنية التحتية، فالشوارع ترابية، تنقصها المواصلات المنتظمة، وكحال قطاع غزة عموماً، فإن انقطاع الكهرباء هنا أمر روتيني، أما الماء فيستخرج من الآبار الارتوازية، ولكل بيت حفرة امتصاصية خاصة به. لكن الواقع الحالي قد يكون أفضل مما سيأتي، فقد أدى عدم وجود شبكة صرف صحي في قطاع غزة إلى تلويث المياه الجوفية، بحيث أصبحت غير قابلة للشرب.
أما المدارس، فهي بعيدة نسبياً وتخدم تجمعات سكانية متباعدة، ما يضطر الأطفال إلى المشي لعدة كيلومترات يومياً على طرق ترابية طينية شتاء، ومغبرة صيفاً، من أجل الوصول إلى مدارسهم الموزّعة في كل الاتجاهات حول الحي.
لا تصادف إلا القليل من الناس في طرقات الحي المترامي الأطراف، الذي لا يشكل صورة عن أحياء مدن قطاع غزة المكتظة، فهذا الحي البعيد عن حياة المدينة، له طابعه الخاص، حتى أن العائلات التي تقطنه هي عائلات قليلة، ولكن ممتدة، زد على ذلك أن الحي بكامله احتفل، مؤخراً، بزواج أحد شبابه.
المفارقة أن احتفال الحيّ بكامله بالزفاف لا يعني أن هناك قبولاً من السكان لفكرة التضامن في إطار عمل مشترك، فهناك عزوف عن الاجتماعات والمبادرات التي تحتاج إلى مساهمة جماعية.
تقول رئيسة جمعية تنمية المرأة الريفية في الحي صالحة سرحان (أم محمد): "لا يحبذ الرجال الاجتماعات، ولا حتى تحمل جزء من مسؤولية تطوير المجتمع".
لكن موقف الرجال ليس آخر المطاف، فقد أخذت "أم محمد" على عاتقها أمر التطوير بمساعدة نساء الحي. الخطوة الأولى جاءت من خلال تأسيس النساء العام 2003 للجمعية النسوية التي دأبت على تنظيم ورش في التصنيع الغذائي والتوعية الصحية والاجتماعية. ورعت الجمعية روضة أطفال تطوعت للعمل فيها شابات من الحي بأجور رمزية.
"أم محمد" رئيسة الجمعية وصاحبة المبادرة، بلباسها البدوي وكلماتها القوية، تقول: "عندما أغلقوا مقر الجمعية فتحت بيتي للنساء لنكمل عمل الجمعية، نحن لدينا احتياجات متفاقمة، ونريد أن نلبيها من أجل مصلحة الناس"، وفعلاً تم نقل الروضة، حيث خصصت لها غرفة من بيتها مع مدخل منفصل.
تدخل مركز الطفل-غزة
مع نهاية العام 2014، توجه فريق من مركز الطفل في غزة التابع لمؤسسة عبد المحسن القطان إلى المنطقة لدراسة الاحتياجات المتعلقة بالأطفال في معن، وحي المنارة تحديداً.
ويقول ممدوح أبو كميل منسق أنشطة الخدمة الممتدة في المركز: "وجدنا الأطفال في هذه المنطقة المهمشة لا يجدون مكاناً للعب وممارسة الهوايات، ولا يستطيعون اللعب في المدارس بعد الدوام، نظراً إلى أن هذه المدارس تستقبل الطلاب على فترتين بسبب الاكتظاظ ودمار بعضها إثر العدوان الإسرائيلي الأخير".
وأضاف: بناء على دراسة الاحتياجات، قرر مركز الطفل التابع للمؤسسة أن يباشر العمل على تأسيس مركز للطفل في المنطقة، والتعاون مع جمعية السيدات التي تشجعت للفكرة.
وتابع: هذا التدخل من قبل مؤسسة عبد المحسن القطان لقي ترحاباً كبيراً، وبخاصة من "أم محمد" التي بادرت إلى تخصيص غرفتين إضافيتين من بيتها لاحتضان مركز للطفل قررت المؤسسة أن تنشئه وتشرف عليه. فتم تأهيل الغرفتين الإضافيتين بدعم من الوكالة السويسرية للتنمية، وتنفيذ مؤسسة عبد المحسن القطان، وبدأ العمل فيه مطلع العام 2016.
وحظى أطفال المنطقة لأول مرة بحيّز يقدم لهم فرصة الانخراط في نشاطات متعددة، ما بين الفنون والقراءة والمكتبة واللعب، لينقل نشاطات المركز بغزة إلى منطقة معن. "أردنا للمركز الجديد أن يعزز ثقافة الأطفال وإبداعاتهم واستكشاف وتقدير الذات" يقول أبو كميل، مضيفاً أن المركز "يوفر فضاء لأنشطة ثقافية وترفيهية ومعرفية في بيئة لم تحظَ بهذا الاهتمام من قبل".
ويعمل مركز الطفل-غزة مع هذا المركز بشكل مدروس خلال برنامج الخدمة الممتدة الذي خصص لإيصال خدمات مركز الطفل إلى الأماكن النائية. ويأتي المنشطون إلى هنا مرتين أسبوعياً لتنظيم نشاطات رياضية وفنية وترفيهية وثقافية، ويجددون الكتب في المكتبة.
بداية غير سهلة
يتفاعل الأطفال مع المنشطين بقوة، بل إنهم ينتظرون وصولهم بفارغ الصبر. عندما تراقب الأطفال وهم يعملون بشكل جماعي ويكونون الفرق ويتنافسون بروح رياضية، تدرك التغيير الإيجابي في التفكير والسلوك. فبعكس عزوف الكبار عن العمل الجماعي، وهو العزوف الذي ساهم في عدم تطور المجتمع المحلي، تجد الأطفال يخططون سوياً في ألعاب تتطلب روح الفريق، لدرجة أن العمل المشترك هو أساس الفوز في ألعابهم، وكأنه درس للكبير والصغير معاً. لكن الوصول إلى هذا المستوى من التعاون لم يكن سهلاً، إذ أن جمع الأطفال وجذبهم إلى المكان بحد ذاته كان تحدياً للمنشطين.
يبتسم المنشط سالم عوض الذي يمضي وقتاً طويلاً مع أطفال المنطقة عند الحديث عن كيفية إقناع هؤلاء الأطفال بالانضمام للمركز: "اضطررنا إلى السير في الشوارع وطرق أبواب البيوت في البداية. دعونا الأطفال إلى لعب كرة القدم، ولعبنا معهم في الشارع، ثم دعوناهم إلى المركز للتجمع قبل الانطلاق للعب، ثم قدمنا لهم بالتدريج برنامجاً منوعاً من النشاطات، واليوم يمكننا أن نفتخر بأن الأطفال المنخرطين في برامج المركز يستعيرون الكتب ليقرؤوها، ويستعيرونها أيضاً لأهلهم وأشقائهم الأكبر سناً".
"لم أعرف أن لدينا هذا العدد من الأطفال"
تتجول "أم محمد" في المكان بثقة، وتراقب نشاطات الأطفال، وتسأل عن الغائبين منهم. تقول وعلامات الرضى على وجهها: "كانوا ]الأطفال[ عدداً محدوداً، ارتادوا الروضة وتغيبوا عنها لأي عذر كان، ثم طورت مؤسسة عبد المحسن القطان المكان وتعددت النشاطات فتوافد الأطفال"، وتضيف ضاحكة "لم أكن أعرف أن لدينا هذا الكم من الأطفال في المنطقة".
أصبحت "أم محمد" تعرف كل الأطفال الذين يرتادون المكان، حتى أنها تسألهم عن بعضهم البعض. ذهبت إلى بيوت المتغيبين في أحد الصباحات، وأيقظتهم من النوم ليأتوا إلى المركز، فاليوم هو السبت موعد مجموعة منشطي مركز الطفل من غزة. كان الأطفال متعبون من سهرة عرس طويلة في الليلة الماضية، ومع ذلك أتى الجميع بتشجيع من أهلهم ومن "أم محمد".
الأماكن الصديقة
ويعتبر مركز الطفل في حي المنارة بمنطقة معن واحداً من ستة أماكن صديقة للأطفال طورتها مؤسسة عبد المحسن القطان من خلال مركز الطفل في غزة، بحيث تصل خدمات المركز كلها تقريباً إلى المناطق النائية، وبمنهجية شاملة، من أجل النهوض بالأطفال ثقافياً ومعرفياً ونفسياً وعلمياً وسلوكياً، وبحيث يكونون أفراداً فاعلين في مجتمعهم. "نقوم بإشراك الأهالي في التخطيط وتحديد الاحتياجات" يقول أبو كميل، مضيفاً أن استهداف الأطفال غير مشروط بمستويات معرفية معينة، فنتعامل مع الجميع على قدم المساواة من أجل طفل أكثر معرفة وقدرة". كما أن الأنشطة تستهدف الأهالي، من خلال تأسيس نادٍ للأهالي في المنطقة، بهدف تعزيز دورهم كمعلم أول لأطفالهم، من خلال أنشطة مشتركة تجمع بين الأطفال وذويهم، إضافة إلى الندوات التوعوية.
تجارب ناجحة تتراكم
واللافت في تجربة الأماكن الصديقة التي بادرت إليها مؤسسة عبد المحسن القطان، أنها تحقق العديد من الأهداف في آن. فإضافة إلى إمكانيات التطور الشخصي والاجتماعي والمعرفي للأطفال من خلال هذه الفضاءات، ساهمت أيضاً في دعم انخراط الأهالي إيجابياً في هذه العملية، وتعزيز مشاركتهم لأبنائهم، وتعزيز مكانة المؤسسات المحلية كما هو حال جمعية المرأة الريفية في حي المنارة.
وعن أهمية الأماكن الصديقة التي تقدمها أنشطة الخدمة الممتدة، تقول نهاية أبو نحلة مديرة مركز الطفل في غزة: "كانت تجربتنا التي بدأت في منطقة السموني، منذ العام 2009، نموذجاً نوعياً وملهماً لنا لتوسيع عملنا، ليشمل مناطق أخرى محرومة من الخدمات الثقافية والترفيهية التي تستهدف الطفل بشكل خاص. وقد كان هاجسنا، منذ البداية، ديمومة العمل في هذه المناطق، وسعينا دائماً إلى تعميق الشراكات مع مؤسسات المجتمع المحلي، وإشراكها في العمل، والاستفادة من خبرات طاقم مركز القطان وفرص التدريب المتاحة".
استمرارية ومسؤولية جماعية
أقامت العديد من المؤسسات مشاريع متعددة في المنطقة، ولكن كل تلك المشاريع تقريباً كانت محدودة الوقت، ولم تحمل صفة الاستمرارية، أو التغيير بعيد المدى، بل كانت إغاثية متعلقة بمساعدة المجتمع المحلي في التغلب على صعوبات ظهرت بشكل مفاجئ.
لكن تدخل مؤسسة عبد المحسن القطان جاء مختلفاً تماماً، فقد استهدف الطفل من أجل مستقبل أفضل له وللمجتمع، وأشرك المجتمع في التخطيط والتنفيذ، بحيث منح الناس شعوراً بامتلاك الفكرة، ما ساهم في التفافهم حولها.
تعلم "أم محمد"، السيدة التي احتضن بيتها مركز الطفل في الحي، أن مجتمعها بحاجة إلى تطوير قدراته الذاتية والإسهام بفاعلية في تطوير نفسه. تنظر إلى الأطفال من حولها وتقول: "نحن لدينا الآن مركز للأطفال، ليس مشروعاً مؤقتاً، إنه حقيقة واقعة، واستمراريته تعتمد علينا في الدرجة الأولى".