منذ البداية، عَرَفتُ أن تجربة الكتابة عن دار قنديل للثقافة والفنون في طولكرم، أحد شركاء مشروع "الفنون البصرية: نماء واستدامة" VAFF في دورته الثانية، لن تكون بالتجربة السهلة، وأن توصيف تلك الحالة الفريدة التي تجتاح المكان مغاير لأي توصيف آخر. ومن الزيارة الأولى للدار، استطاعت أن تسدل علينا شالاً من الشاعرية والحميمية، دون أي جهد إبهار، أو محاولات تمظهر بما ليس من حقيقتها.
في البدء كان المكان
وعلى الرغم من أن الزيارة تمت في أواخر شهر كانون الأول 2019، وقت الانشغال في تهيئة المقر، وإمدادات الكهرباء، إضافة إلى الكركبة جراء الصيانة، فإن المنزل القديم بحديقته الصغيرة استطاع التجلي في مركز المدينة بطابعه العفوي، والمنتمي لفوضى الإبداع البدائية، متجاهلاً العمائر التي تحاصره وتنهش سماءه بنهم، مستكيناً في مساحته الصغيرة، وفارضاً وجوده ونغمته على سرعة وفوضى ورش الحدادة، والسيارات، والسوق.
يحاكي هذا المقر المميز، الذي لا يشبه أي مركز ثقافي آخر في المنطقة، طبيعة الحالة التي تخلقها الدار، لتتكامل بالتوازي مع النشاطات في عملية إعطاء المعنى، فتشكل تجربة المكان جزءاً من عملية البناء العام، واستحضار روابط الذاكرة، وأنماط الفعل الثقافي والفني المدفوع بالرغبة العارمة في التغيير، والمنتمي للفطرة والطبيعة والارتجال، عوضاً عن ما يحمله هذا المنزل الذي أصبح وحيداً الآن في المدينة -بطبيعة بنائه وقدم عمره- من سرديات وتجارب وأفكار كانت هنا، ليظل حتى اللحظة نافذة نطل منها خارج حدود الزمن.
تنقل لنا الدار أفكارها وأحلامها بصور عدة، بدءاً من التصريح بها عبر أغاني فرقة دار قنديل، أو بالتعبير عنها بالألحان؛ بحيث كانت وما زالت مدرسة الفنون تشكل لبنة أساسية في برامج الدار الدائمة، بحيث استطاعت الدار، وفي وقت قصير، أن تصدر مجموعة من الألبومات مثل "نعمان" و"ليش الحرية" وغيرهما الكثير من الألبومات والأغاني التي اجتاحت الوسط الفلسطيني، لتصبح من أشهر التجارب الموسيقية المحلية وأكثرها انتشاراً في السنين الأخيرة، والتي تغنى في المناسبات الوطنية والثقافية، وذلك إلى جانب اتباع الفرقة، في الكثير من العروض الحية، أسلوب الكورال الجماعي، والغناء مع الجمهور، كمحاولة بسيطة لإعادة تعريف مركز الثقل الفني في العمل، ورسماً لمنهج ينظر بأن ما يصنع العمل هو جهد متكامل. وهذا ما زاد من ارتباط الجمهور بهذه الأغاني، وجعلها قريبة منه ومن ذائقته وذاكرته.
إلى جانب الموسيقى والغناء، كانت ورشات ودورات المسرح، التي جابت العديد من المناطق القريبة من المدينة، والمدارس، والمخيمات. هذه الثقافة الفنية التي جعلت من كل متدرب في الدار منصةً لفتح حوارات، وبناء تجارب، من شأنها التأثير بمحيطها.
ليس المكان وحده، فهذا المقر هو حصيلة تنقلات كثيرة عاشتها الدار، لكن ما يفرضه الفريق والمتطوعون من سيطرة على الحيز، وتوظيف له في خدمة اعتقاداتهم وأهدافهم، والقدرة الهائلة على إضفاء صبغتهم الخاصة على كل شيء يمسونه، هو ما بنى الدار حقيقةً. في زيارتي الأولى لفتني، بشيء من الصدمة، انخراط الموظفين الجدد في هذا الكيان، وكيف استطاعوا خلال فترة وجيزة أن يروا في أنفسهم إحدى ركائز الدار، بعيداً عن اعتبارات الأسبقية، أو اختلاف البيئة الاجتماعية.
تشير المساعدة الإدارية التي انضمت إلى عائلة دار قنديل حديثاً مع بداية العام 2020، سندس شريم إلى ذلك قائلة: "هي عائلة واحدة، تسودها روح التعاون، وتقدير الظروف، يلتزم الجميع هنا من موظفين ومتطوعين وزوار، وبشكل تلقائي، بالحرية المنظمة، وهذا ما تختلف فيه عن المؤسسات الروتينية؛ شكل العلاقات. هذه الحالة جعلت الجميع يؤدون أعمالهم بولاء وإخلاص. وهذا يظهر في أعداد المتطوعين التي تتزايد باستمرار، وكل ذلك بذرته الثقة".
ثانياً، ثلاث ركائز مفاهيمية
المتطوعون والعمل المجتمعي: بنيت دار قنديل منذ البدايات الأولى على جهود شبابية تطوعية، جمعت أناساً من أجيال وخلفيات ثقافية وأكاديمية متنوعة من الناشطين في العمل المجتمعي والفنون، تحت راية تشكيل كيان فاعل له يؤثر على المحيط، ويتأثر به، واستمرت بالثقافة نفسها حتى الآن، وهذا ما حرص الفريق مع مستشارة التخطيط الاستراتيجي فادية سلفيتي على مراعاته في بنائهم للخطة الاستراتيجية للدار للسنوات الثلاث القادمة، بحيث شارك في هذه العملية أكثر من 50 متطوعاً/ة، إلى جانب طاقم الدار الإداري.
تذكر سلفيتي في مقدمة الخطة المنجزة أهمية عملية التخطيط للدار، قائلة: "إن الفضاء الواسع غير التقليدي والمبدع في آلية بناء وتعزيز العلاقة مع المجتمع، والتركيز على العمل التطوعي كقيمة مهمة في حياة ومسيرة الدار على مدار الأعوام الماضية، ساعد إدارتها على تركيز جل عملها على فعالية ونشاطية مجموعة من المتطوعين والمتطوعات الذين يرون أنفسهم جزءاً لا يتجزأ من الدار التي تحاكي في الكثير من أنشطتها رغباتهم وطموحاتهم الفردية الثقافية والفنية والوطنية، وبدورها تراهم دار قنديل كادرها الرئيسي المتمكن بأكثر من مجال والحاضر لنقل التجربة لآخرين كثر".
ينطبع هذا التوجه على الحالة العامة التي يعيشها المتطوعون، فباختلاف النشاطات التي يشاركون فيها، يجمع الكل على أن الدار هي عائلتهم الثانية، والمساحة الحرة التي يكتشفون فيها أنفسهم، ويستطيعون عبرها التعلم والتعبير، تقول المتطوعة فداء جراد: "كنت متطوعة في الدار منذ العام 2009، بدأت معهم في نادي صيفي "الشرطي الصغير"، وبقيت لشعوري بأنه مكان مريح وآمن ومستقر، ولأني أرى فيه مساحة للاختلاف والتفريغ، الدار تقودك للتمسك بها، وتعطيك الأرضية الصلبة لتنطلق، أولاً في صلب ذاتك، وثانياً في الخروج إلى العالم بثقة".رفض الهامش: إلى جانب كون دار قنديل واحدة من المؤسسات الثقافية الفنية القليلة جداً العاملة في منطقة شمال الضفة، وفي مدينة طولكرم بالتحديد، كان فهم الهامش والمهمش عندها نقطة انطلاق أساسية في العمل، لتنفتح بدورها وتثابر في الوصول إلى مناطق بعيدة عن مركز المدينة، مقدمةً أنشطتها الفنية والثقافية للجمهور العريض، الذي جذبه الفكر غير التقليدي، والاندفاع الشغوف والأسلوب الإبداعي. فاستطاعت الدار عبر السنين أن تصبح مؤسسة ذات وزن، وشهرة، وأن تشكل جسماً له اسمه يقوم، بدوره، الثقافي والمجتمعي، إضافة إلى لفت الانتباه إلى فنانين ومبدعين في هذه الجغرافيا والإضاءة عليهم، ممن أثروا المشهد الثقافي العام في فلسطين، عبر خلق وطرح أساليب جديدة ومميزة في الإنتاج.
ولأثر أوسع وأكثر فاعلية، شكّلت الدار تقاطعات وشراكات عديدة مع مؤسسات ونوادٍ ومراكز ومكتبات وجمعيات وغيرها الكثير في المدينة نفسها، وفي عنبتا، ودير الغصون، ونابلس، وجنين، وذلك بهدف كسر حالة التهميش التي تتعرض لها المنطقة، ومحدودية الموازنات المرصودة للفعل الثقافي والفني، التي انعكست على محدودية النشاطات الرسمية.
ثالثاً وليس أخيراً، الشراكة مع الدار
في الأول من تشرين الأول العام الماضي (2019)، تعاقدت مؤسسة عبد المحسن القطان، مع دار قنديل، ضمن الدورة الثانية من مشروع "الفنون البصرية: نماء واستدامة"/VAFF. هذه الشراكة كان لها اثرها الفريد على المشروع، تشير مديرة VAFF يارا عودة إلى ذلك قائلة: "إن شراكة دار قنديل هي شراكة مميزة وثرية، وتنطوي على الكثير من التعلم للمشروع، وذلك لعدم خضوعها للسلوك المؤسساتي المعهود كما في تجربة المشروع خلال دورتيه الأولى والحالية، وهو الأمر ذاته الذي شكل تخوفاً بسيطاً عند اختيار لجنة تحكيم المشروع لها ضمن القائمة القصيرة لشركاء الدورة الثانية، ليس لشك في كفاءتها وأهميتها، إنما خوف من التأثير على روحها، وفرض قيود العمل البيروقراطي عليها. هذا ما أعطى الشراكة جانباً من الحذر والحماس في الوقت نفسه".
تدعم هذه الشراكة الدار في بناء أساسيات الاستقرار، وضمان استدامتها، بما يتوافق مع الأهداف التي أنشئت الدار من أجلها، وذلك عبر دعم تشكيل فريق متفرغ بشكل كامل أو جزئي للعمل، إلى جانب تطوير أدلة الدار المالية والإدارية، وتطوير خطة استراتيجية للعمل، كمحطات ضرورية لانطلاقة واضحة المعالم، وهذا ما تم العمل عليه بشكل حواري وجهود بحثية عالية، ليناسب المُخرج الحاجة والهدف، وتغطية النفقات الإدارية والتشغيلية والتطويرية الأساسية، والمساهمة في دعم برنامج تطوير الموارد لدار قنديل.
وتسعى المنحة إلى دعم تأسيس وتنفيذ برنامج الفنون البصرية في دار قنديل للثقافة والفنون، وما يشتمل عليه من منح إنتاجية ستتوزع على 15 فناناً/ة، إلى جانب المساهمة في دعم برنامج بناء القدرات المعرفية للفنانين البصريين في منطقة طولكرم ومحيطها، عبر إقامة 10 لقاءات معرفية خلال فترة المشروع، وتوفير 4 فرص لإقامات فنية، إضافة إلى تغطية المنحة تنفيذ سلسلة من تدريبات تقنية في التصوير وتنفيذ مشاريع فنية مجتمعية عدة، وتطوير برنامج تعليمي للأطفال في مجال الفنون البصرية.
هذه الشراكة تعتبر فرصة لدعم الفنون في مناطق شمال الضفة، وفرصة لدعم هذه التجربة الصادقة ذات الجهد العالي، ودفعها نحو فضاء أوسع وحالة أكثر تأثيراً وتأثراً بالمشهد الثقافي عامةً.
ربما لم يتوقع مجموعة الأصحاب المجتمعين في ممر إحدى العيادات في طولكرم لإتمام تدريبهم المسرحي -الذي اعتادوا إجراءه في هذا الممر ليلاً بعد انتهاء ساعات عمل العيادة الرسمية، لافتقار المدينة لأي مساحات أخرى- أنّ حلمهم الذي حملوه في حقيبة سفر، في العام 2003، سيشكل النواة الأولى لدار قنديل، بجهود تطوعية من شباب وشابات فاعلين في المجتمع المحلي، كاستجابة لحاجة هذا الوسط إلى مساحة يجتمع فيها الفنانون والمهتمون بالفن والثقافة، بدأت بمجموعة أوراق وختم في حقيبة، يقول مدير الدار، علاء أبو صاع، ويضيف: "الحافز كان حاجتنا للتعبير عن أنفسنا، في ظل عدم وجود أي مقومات أو مساحات لهذا الغرض في طولكرم. وحينما شعرنا أن هذه الحاجة لا تخصنا وحدنا، وأنّ هناك الكثير منا في المنطقة -شمال الضفة- وأن هناك الكثير من المواهب والقدرات المدفونة والمكبوتة، قررنا أن ما سنقدم عليه سيكون مفتوحاً لكل الناس، وبدأنا بتخيل دار قنديل بتفاصيلها، من المرسم، والألوان، وحتى ستائر المسرح، والحديقة".
جميع الصور مأخذوة من أرشيف دار قنديل
لـ ترتيل معمر؛ منسقة مساعدة في مشروع "الفنون البصرية: نماء واستدامة"/ VAFF