رام الله – (مؤسسة عبد المحسن القطان):
قالت الفيلسوفة وأستاذة التحليل النفسيّ ريناتا سالكيل: إن الرأسماليّة المعاصرة قد خلقت مفهوم حريّة الاختيار، الذي يعد قيمة فردانيّة بحتة تحفز الإنسان على الاستهلاك، وتقلب مفاهيم السعادة والنجاح، لتصب جميعاً في هدف واحد، مراكمة الثروة للرأسمالية.
جاء ذلك خلال محاضرةٍ نظّمتها مؤسسة عبد المحسن القطّان بعنوان "سطوة الاختيار"، يوم السبت 14/9 في مبنى المؤسسّة في رام الله.
وتطرقت سالكيل إلى مفهوم الحريّة التي تقدّمها الأيديولوجيّة الرأسماليّة والحيّز الذي تُنفّذ فيه، إذ إنّ هذه الأيديولوجية تطرحُ النجاح والتنافسيّة كنتيجةٍ لهذه الحريّة، وكانت فكرة الرجل "الذي يصنع نفسه" الحجر الأساسيّ للرأسماليّة التي تستلزم بالضرورة اتخاذ قرارات صائبة لتحقيق السعادة، والسعادة تكون بتجميع الأموال والاستعراض فيها، إذ يصبح القرار في صوابه مربوطاً بكميّة الاستهلاك الفرديّ للمال.
وتقول سالكيل إنّ مفهوم "كن سعيداً" هو الذي يحدّد معنى حياة الفرد من عدمها في المجتمع الرأسماليّ، فقد أصبح ضرورة اجتماعيّة، وإن لم تكن سعيداً، فقد فشلت.
وبيّنت سالكيل أن حريّة الاختيار مدعاةٌ للقلق، واتخاذ قرار من القرارات المُتاحة يجب أن يضمن نجاح الفرد ويحمل مفتاح سعادته بحسب النظام السائد، وإلّا كان قراراً فاشلاً، لذلك يحتاج الفردُ لسلطةٍ معيّنة للتخفيف من قلقه، واتخّاذ القرار معه، ووصفت سالكيل هذه السلطة بـ "الآخر الكبير"، وتعّد هذه السلطة نِتاج ما حولنا (المجتمع، المؤسسات ...)، التي تعطي الفرد استقراراً مؤقتاً.
وترى سالكيل أن الأفراد يقلقون من الفشل، وعدم استمرار السعادة -في حال وُجِدت- إضافة إلى الفقدان، كما أنّهم يرون أن النجاح يكمن في الصُدف أو أوراق اليانصيب، وهي فكرة معاكسة للفكر العقلانيّ، الذي يرى أن الحصول على شيءٍ يستلزم بالضرورة خسارة شيء آخر. والتعامل مع الفقدان يعتبر مصدراً للكثير من القلق اليوم، تقول سالكيل "الفقدان الذي يجب علينا جميعاً التعامل معه في خاتمة الأمر هو الموت؛ أي حيث لا يوجد هناك خيار آخر. وعلى الرغم من ذلك، فإننا عندما نحاول السيطرة على الأمر، فإن ما نفعله هو إطالة محاولة السيطرة على الموت".
يرتبط قرار الفرد بكلّ هذه المحدّدات فهو مقيّد بخيارات من حوله ونجاحها، لاتخاذ القرارات التي تُعدّ سليمة، ويحاول الفرد -حسب سالكيل- التماهي مع محيطه الاجتماعيّ، بمعنى أن الفرد يقلّد الناس الناجحين من حوله بهدف الوصول إلى السعادة. لذلك، تُعرف سالكيل حريّة الاختيار بمفهوم "الاختيار القسرّي"، لأن الاختيار مبنيّ على قرارات الآخرين أو منافسةً لهم، فلا يعّد اختياراً عقلانياً، إذ إن مساحة الاختيار ضيّقة بخياراتٍ فرضها "الآخر الكبير".
تجادل سالكيل بأن المجتمع الرأسماليّ يستخدم أيديولوجيّة حرية الاختيار للحفاظ على وجود ذاته، لأنه مجتمع يركّز على الفرد، الذي تسيطر عليه النزعة الاستهلاكيّة، ويشجّعه باستمرار على اختيار حياة أفضل لنفسه.
وتبيّن سالكيل أن أحد أعظم مكاسب الرأسمالية أن "العبد" البروليتاري يشعر وكأنه سيد، إنه يعتقد أن لديه القدرة على تغيير حياته، حيث تقول: "لقد دفعتنا أيديولوجية الإنسان الذي صنع نفسه، حيث نعمل أكثر ونستهلك أكثر، وفي النهاية نستهلك أنفسنا إلى الإرهاق والشره المرضي".
وتُلخّص سالكيل حديثها بأن الفرد لديّه الحريّة فقط في "تشكيل أعراضه"، وقالت "ما يحددّنا هو تجاربنا الصادمة، وكلّ ثقافة تشكّل الناس بطريقتها، ومن هنا ينطلق الفرد في فهم الثقافة ونفسه".
يشار إلى أن سالكيل هي فيلسوفة سلوفينية وعالمة اجتماع. وهي باحثة أولى في معهد علم الجريمة، وحاصلة على درجة أستاذ في كلية بيركبيك بجامعة لندن. كما إنها تدرّس دورات في علم الأعصاب والقانون. وترجم كتابها "سطوة الاختيار" إلى خمس عشرة لغة. في العام 2017، انتخبت عضواً في الأكاديمية السلوفينية للعلوم، وشاركت ريناتا مع الجمعية الملكية لتشجيع الفنون والصناعات والتجارة، في فيلم رسوم متحركة بعنوان "مفارقة الاختيار" في معرض "أمم متعاقدة من الباطن" في مؤسسة عبد المحسن القطان العام 2018.