لم يمضِ على المعلمة سهاد السيد سوى ثلاثة أعوام في مهنة التعليم حتى كاد روتين المهنة يقتل طموحها، ويقتل طاقات طلابها، إلى أن أتيحت لها فرصة الانخراط في المدرسة الصيفية؛ فتقول: "بعد مشاركتي في المدرسة الصيفية، وجدت أن الدراما هي أنسب الطرق للتخلص من هذا الروتين؛ كون الأطفال في هذا العمر يمتلكون لعب الأدوار قبل حضورهم إلى المدرسة، وهذا ما تحتاجه الدراما، وهذا يعني أن خلق السياقات التخيلية، واستخدام الرموز؛ لخلق وضع أو حدث يعنيهم، لإيجاد دور لأنفسهم، وسرد حكايات موجودة لديهم؛ يمكنهم من إعادة خلق العالم بسلوك يرونه فيه دون تعريضهم لمخاطر الواقع.
أما المعلمة فاطمة البكري، من عكا، فتصف المدرسة الصيفية، بأنها أضاءت لها الطريق على مستوى التعليم والتعلم، فتقول: "انكشافي على موضوع توظيف الدراما في التعليم أضاء لي الطريق، وجعلني أشعر أنني وجدت الحلقة المفقودة التي كنت أبحث عنها طوال الوقت، والتي تحتاج منا، كمعلمين، بذل الجهد والوقت والطاقة، وعبر الدراما، تمكنت من استكشاف ما وراء المنهاج، والبحث فيه وتطويره، بما يتناسب مع قدرات الأطفال".
هاتان المعلمتان ضمن مجموعة كبيرة من المعلمين والمعلمات الذين سينخرطون اليوم في برنامج "المدرسة الصيفية: الدراما في سياق تعلمي" على مدى أسبوعين التي ينظمها مركز القطان للبحث والتطوير التربوي/مؤسسة عبد المحسن القطان، خلال الفترة الواقعة بين 1-12 تموز 2013، وللسنة السابعة على التوالي، في مدينة جرش الأردنية، وتنطلق فعالياتها بمشاركة 106 معلمين/ات من (فلسطين، ومصر، وسوريا، وتونس، والأردن، وموريتانيا)، إلى جانب أساتذة ومشرفي مساقات من فلسطين، وبريطانيا، واليونان ولبنان.
وتشهد المدرسة الصيفية هذا العام تطوراً ملحوظاً في الرؤية والتوجه، وفي نوعية الموضوعات والمساقات المقدمة، فقد تحولت المدرسة من مساق مكثف على مدار أسبوعين في مجال الدراما في التعليم، إلى برنامج تراكمي، يمر في سياق تعلمي متكامل، فيه يتم خلق بيئة تعلمية تبادلية تساعد المعلمين على التفاعل مع المعلمين المشاركين من الدول والثقافات الأخرى. وسيساهم في تعزيز تجربة المعلمين المشاركين وزيادة اهتمامهم بالدراما في التعليم كسياق وتوجه في التعليم داخل الصف، وتمكينهم من تطوير رؤيتهم وأساليبهم في التعليم بشكل إبداعي ومحفز، ويتقاطع مع متطلبات المنهاج المدرسي من منحى تحليلي مرتبط بالحياة، بحيث يتمكن المشاركون من إنتاج معرفتهم وتجربتهم التعلمية الخاصة، مشركين بها زملاءهم وطلابهم حين يعودون إلى مدارسهم.
وقال وسيم الكردي، المدير الأكاديمي للمدرسة الصيفية، مدير مركز القطان للبحث والتطوير التربوي: "باتت المدرسة منطلقاً للتجريب والاختبار التعليمي الذي يتقاطع مباشرة مع متطلبات المنهاج المدرسي، ولم تعد الدراما في التعليم مجرد وسيط أو أداة تعليمية، بل باتت سياقاً تعليمياً تكاملياً يتضمن كل مكونات العملية التعليمية التي يباشرها المعلم مع طلابه، ابتداء بالتخطيط، والتطبيق، والتقييم، كعمليات متداخلة طوال الوقت. إن الدراما هنا ليست مجرد وسيلة ترفيهية أو تشويقية للتعليم، بل باتت تضع الطلاب أمام تحديات تعليمية ينبغي اجتيازها، وبالتالي فقد بات المعلمون والطلاب يتحملون مسؤولية أكبر تجاه تعلمهم وتعليمهم، لأنهم باتوا يرون المعنى الشخصي والاجتماعي لتعلمهم عبر الدراما، لأن الدراما ببساطة واختصار تتيح للمتعلمين أن يختبروا الحياة الواقعية عبر سياق متخيل، وهناك يقرأون الحياة ومفاعيلها وعلاقاتها ومنظوراتها، ويحللون كل ذلك ويعبرون عنه، ويبنون موقفهم الشخصي اتجاهها؛ سواء في مستواها المحلي الوطني، أو مستواها الإنساني الكوني.
من جانبه، قال مالك الريماوي، عضو الهيئة الأكاديمية في المدرسة؛ مدير مسار اللغات والعلوم الاجتماعية في مركز القطان: "تأتي المدرسة هذا العام، ونحن في خضم اشتباكات مكثفة وعنيفة بين رؤى متعددة وسيناريوهات متضاربة ترسم أو يراد رسمها في الواقع العربي، سيناريوهات تعيد إنتاج حدود الجغرافيا والسياسة والحلم معاً. وفي هذا الإطار تأتي المدرسة وهي بكامل انحيازها للإنسان والحرية والحلم، حلم كبير بمساحة الجغرافيا العربية، حلم بفضاء معرفي مقاوم يرسم حدود المستقبل من التحديد الواضح لتحديات الزمن الراهن".
وأضاف الريماوي: "في المدرسة يبدأ التغيير من الإنسان، تغيير القناعات والممارسات، والتخلي عن النزعات اللاإنسانية، عبر قبول الآخر ضمن سياق الأمة القائم على الوحدة والتنوع، وقبول الحوار قاعدة تحدد هويتنا، والبحث عن الأمل وإنتاج آليات الحلم والتغيير، تغيير نحو سلم الأهداف الكبرى، التي تبدأ بالإنسان وتنتهي في حقه في الحياة والحرية. كما تسعى المدرسة الصيفية بكل ممكناتها إلى "مساءلة" حالة التعليم لفتح آفاق نحو تعليم يخلق الممكنات ويستثمرها، تعليم فاعل يكرس فاعلية المتعلمين، ويهتم بكينونتهم بوصفها النواة الخالقة للفعل والمتعة والخيال. فالمدرسة سياق للقاء الفلسطيني بالفلسطيني الذي حرم من أن يلقاه في وطنه، يلتقيان مع بعضهما (ابن فلسطين 48 مع ابن غزة والضفة والشتات)، ويلتقيان مع أشقائهم العرب لنتعلم معاً، كيف نفكر معاً، وكيف نعمل معاً، وكيف نحلم معاً، وهذا هو مفهوم الأمة والوطن بالنسبة إلينا، جماعة يملكون القدرة على التفكير والحلم والعمل معاً".
وفيما يتعلق بمستوى مشاركة المعلمين في المدرسة هذا العام، فالعدد قد ازداد إلى 106 معلمين/ات، بعد أن كان في العام 2007 في سنته الأولى 60 معلماً ومعلمة. كما وصل إلى إدارة المدرسة هذا العام، 624 طلباً للالتحاق بها (الضفة الغربية بما فيها القدس 580، فلسطين 48: 7، قطاع غزة: 27، العالم العربي 10)، تم اختيار 60 معلماً ومعلمة، موزعين على ثلاثة مستويات تعليمية.
ويقول غسان أبو لبدة، سنة ثالثة في المدرسة الصيفية من قطاع غزة: "في السابق، كان أسلوب التعليم يعتمد بشكل كبير على المرسل وهو المعلم، والمستقبل الطالب". أما بعد مشاركته في المدرسة الصيفية، فيقول: "أصبحت أعتقد أن العملية التعليمية هي عملية تشاركية بين المعلم والطالب، فلا يوجد مرسل ولا مستقبل في العملية، وإنما يعملان معاً على تطوير العملية التربوية.
ويضيف أبو لبدة: "من خلال مشاركتي في المدرسة الصيفية استطعت أن أخوض فيما هو أعمق ... من خلال انخراطي بالدور وإنتاجي معاني مختلفة، ومن خلال المساقات التي تعلمتها استطعت، أخيراً، أن استقصي القضية والمشكلة والتعامل معها وانتظر المزيد لاستكشف ما لا أعلمه لكي أعمله".
وتعتمد المدرسة على ثلاثة مستويات تعليمية مترابطة ومتكاملة بحيث يؤدي كل مستوى إلى المستوى الذي يليه بعد أن ينجز المعلم/الطالب جميع متطلبات البرنامج. وتتضمن المستويات الثلاثة مساقات قصيرة وتراكمية تأهيلية تطويرية للمعلمين؛ نظرية وعملية. وينخرط المعلمون في المستويات الثلاثة؛ السنة الأولى والثانية والثالثة. وقد تخرجت الدفعتان الأولى والثانية من المعلمين بعد أن استكملت جميع المتطلبات.
وتتضمن المدرسة خمسة مساقات تراكمية صيفية موزعة على ثلاثة مستويات تعليمية على مدار ثلاث سنوات، ويضم فريق الأساتذة وسيم الكردي، ومالك الريماوي، وسوسن مرعي من فلسطين/مركز القطان، و"كوستاس أمويروبولس من اليونان، و"لوك أبووت"، و"ريتشارد كيرن"، و"كريس كوبر" من بريطانيا، ومها موسى من لبنان.
وقال كفاح فني، الباحث في مركز القطان: "كل سنة في المدرسة الصيفية تنمو تجربتنا، وتتعمق الأشياء، ونقيمها ونخرج بمجموعة من التوصيات، هذه العملية في إطارها العام، هي عملية تطوير، ولا أقصد هنا تطوير خطي لفهمنا للأشياء؛ كزيادة عدد المشتركين في المدرسة الصيفية مثلاً، أو عدد الأساتذة والطاقم، وإنما تطوير حلزوني، تطوير في المنهاج المدرَّس، وفي متطلبات المدرسة الصيفية، وتطوير في الرؤية والتوجه، وهذا تطوير نوعي في العملية التعليمية في المدرسة الصيفية، وفي بنيتها التراكمية بمستوياتها الثلاثة، ليست مجرد تزويد المعلمين متطلبات ومساقات، وتقنيات تعليمية، وإنما تعزيز وتطوير توجيهات لفهم حياتهم ولفهم تعليمهم، فالدراما ليست مجرد تقنية في التعليم، وإنما فلسفة حياة، وجهة نظر نحو الحياة، وأول هم من هموم الدراما: هي العدالة، وكم يحتاج السياق الفلسطيني للعدالة في كل شيء؟".
وأشارت سوسن مرعي، خريجة المدرسة الصيفية، ومن طاقم الأساتذة في المدرسة الصيفية إلى أن تجربة أن تكون طالباً في المدرسة الصيفية، هي بحد ذاتها تجربة نوعية للتعليم، مشيرة أيضاً إلى أنها تشعر بمسؤولية كبيرة أثناء التدريس في المدرسة الصيفية، كون المعلمين ينتظرون الأفضل لهم على مستوى الانخراط والتعلم".
البرنامج المسائي للمدرسة الصيفية
وفي الفترة المسائية، وبعد الانتهاء من المساقات الصيفية، سيتضمن برنامج المدرسة الصيفية فعاليات ثقافية إثرائية مسائية، منها ورشة عمل لمعلمي التاريخ حول توظيف التاريخ في بناء مشروعات للتعلم، وعلى مدار يومين، وبإشراف الباحث رامي سلامة، وعرض فيلم "ميناء الذاكرة" للمخرج الفلسطيني كمال الجعبري، وكذلك ورشة حول أوجه التشابه والاختلاف بين الدراما في التعليم والمسرح في التعليم يقدمها كريس كوبر؛ وهو مخرج في فرقة بيج برم من برمنجهام التي تعمل في حقل المسرح في التعليم، وسبق لها أن قدمت مسرحية تفاعلية مع طلبة المدارس في فلسطين قبل ثلاث سنوات.
إثراء قراءات المدرسة الصيفية
تم العمل وفق آلية جديدة للتدريس خلال المدرسة الصيفية لهذا العام، تقوم على تعدد المحاضرين "الأساتذة" لكل مساق. كما تم تطوير محتوى البرنامج، وإعادة بناء محتوياته في ضوء تجربة السنوات السابقة. وفي ضوء تطوير برنامج القراءات في برنامج الدراما في سياق تعلّمي، وإتاحة المصادر الأساسية والضرورية لنمو المعرفة وتقديمها لدى المعلمين في حقل "الدراما في التعليم"، تم إصدار كتابين الأول بعنوان: "تدريس الدراما- عقل لتساؤلات كثيرة"، من تأليف نورا مورغان وجوليانا ساكستن، وترجمه عن الإنجليزية عيسى بشارة، وهذا الكتاب من القراءات الأساسية لمتطلبات المستوى الأول في المدرسة الصيفية، والثاني بعنوان "مختارات في الدراما والتعلم" لدوروثي هيثكوت وغيفن بولتون.
الحلقة البحثية
في ضوء تخريج فوجين من المعلمات والمعلمين في المدرسة الصيفية، شرع المركز بتأسيس حلقة بحثية دائمة في مجال الفنون والتعليم، من أجل توافق رؤية بحثية ترى التعليم في صورته المتكاملة والتكاملية في توظيف الدراما كسياق تعليم نوعي. وينخرط فيه 5 معلمات ومعلمين، فقد بني على هذه التجربة مشروع بحثي لمدة سنتين (2012-2013)، وسيفضي في نهايته إلى إنتاج دراسة نظرية/تطبيقية في حقل توظيف الدراما في سياق تعليمي عبر المنهاج. كما شاركت الحلقة البحثية في السنة الماضية بالمدرسة الصيفية في مساق السنة الثالثة مع لوك أبووت. يذكر أن الحلقة البحثية تنعقد بإشراف البروفيسور ديفيد ديفيز.
منتدى الدراما
المنتدى لقاء يجمع معلمات ومعلمين من طلاب المدرسة الصيفية، مع معلمين مشاركين في برامج المركز. ويعقد بمعدل 3-4 لقاءات سنوياً، بمعدل يومين لكل لقاء. ويشرف على المنتدى لجنة من المعلمات والمعلمين المشاركين يتم انتخابها بشكل دوري، وتعمل على التواصل مع جميع المعلمين.
ويعمل المنتدى على عرض تجارب للمعلمين وتطويرها، وتمرير ورش عمل تركز على مناطق تعليمية يحتاجها المعلمون. ويستضيف المنتدى شخصيات فنية وأدبية وتربوية وخبرات في مجالات متعددة مثل المسرح، وسرد القصة، والتصوير الفوتوغرافي، وتصنيع الدمى، وغيرها.
وخلال هذا العام، تم عقد منتدى معلمي الدراما الثاني والعشرين الذي انخرط فيه 47 معلماً ومعلمة من رام الله، والخليل، ونابلس، وجنين، والناصرة، وحيفا. وتضمن المنتدى العرض المسرحي "ذياب" للممثل المسرحي عامر حليحل. كما ناقش منتدى الدراما في لقائه العشرين، بمشاركة 55 معلماً ومعلمة من طلبة المدرسة الصيفية، مسرحية "في انتظار جودو" للكاتب "صمويل بيكيت".