اختتم برنامج البحث والتطوير التربويّ في مؤسّسة عبد المحسن القطّان برنامج التبادل، الخميس 2018/4/5، بعد خمسةِ أيّامٍ من العملِ المشترك بين معلّمين بريطانيّين وباحثين ومربيّات فلسطينيّات، وذلك في ثلاثِ روضاتٍ في رام الله وعبوين وكفر مالك.
من غير الدقيق القول إنّ برنامج التبادل قد عُقِدَ على مدار خمسةِ أيّام فقط، فتلك الأيّام القليلة هي تجلٍّ لرحلةٍ طويلة من المراسلات لتحضير المخططات الدراميّة، بإشراف الباحثة فيفيان طنوس ومدير مسار اللغات والعلوم الاجتماعيّة مالك الريماوي، سبقتها مشاركة عددٍ من المربيّات في المرحلة الأولى من التبادل ببريطانيا نهاية العام الماضي، ثمّ تحضير المربيّات لروضاتهنّ ولطلبتهنّ لاستقبال التبادل في مرحلته الثانية؛ ليكون كلّ ذلك في سياق مسارات التكوّن المهنيّ الفعّالة على مدار العام في برنامج البحث والتطوير التربويّ.
وهذا العام هو استكمال لسبعِ سنواتٍ من تبادل الخبرات توّجتها "القطان" مع مدرسة وودرو الأساسيّة في بريطانيا في يومٍ دراسيّ، عُقد يوم السبت 2018/3/31 في البيرة، وحضرته 45 مربيّة للمشاركةِ في الحوار حول هذه التجربة التراكميّة بنجاحاتها ودروسها.
وقال وسيم الكردي، مدير البرنامج، في كلمةٍ افتتاحيّة لليوم الدراسيّ إنّ التبادل واحدٌ من المشروعات التربويّة التراكميّة التي لا تبدأ وتنتهي ببساطة، بل يبني عبرها البرنامج تجربة مشتركة بين مجموعاتٍ من الناس، ذات علاقاتٍ وتصوراتٍ متنوّعة، مضيفاً أنّ السؤال الأبرز وراءَ كلّ تلك المشروعات هو سؤال الحريّة، فمهما كان فعلنا صغيراً ومتواضعاً في المجتمع الذي نعيش فيه، سيصبّ الفعل في نهرِ الحريّة الذي يفيض على الناس بالمعنى والأمل.
مُمكن؟
علّق مدير مدرسة وودرو، ريتشارد كيران، في مكتبه لوحة كُتب عليها كلمة "ممكن" باللّغة العربيّة، لأنّه يعتقد أنّ هذه الكلمة ومرادفاتها تصلح لوصفِ برنامج التبادل؛ فيراه كدافعٍ وتحدّ إيجابيّ جماعيّ عبر العمل المشترك، وعبر التأمل والممارسة والإرشاد المتبادل، فهو يجمع بين المعلّمين الملهِمين والمثابرين، ومؤسسة القطّان -التي يعتبرها كيران داعمةً وذات رؤية إيجابية شغوفة- والأطفال الفضوليين المتفرّدين بأفكارهم.
"مُمكن"؛ أي من الجائز تحقيقه، هي أكثر كلمةٍ يسمعها الأطفال من معلّميهم لدى تطبيقهم "عباءة الخبير"، عوضاً عن الأحكام والتقييمات مثل صحيح وخاطئ، فكلّ شيء جائز. اختيرت العباءة لأنّها نهج تربويّ يضمّن أشكال المسرح والدراما في تجارب التعلّم، يرتدي خلالها الأطفال "عباءة" المسؤوليّة، فيكوّنون تارةً فريق بنّاءين وتارةً أخرى خبراء آثار أو مزارعين أو أطباء، يسعون إلى تقديم خدمةٍ لـ"زبون" يفوّضهم لأداءِ مهمّة متخيّلة، ضمن قصّةٍ يعايشونها مع المعلّم/ة. ابتكرت هذا النهج البريطانيّة دوروثي هيثكوت لتخلق تعلّماً ديناميكيّاً، دون افتراضِها أنّ الدراما تعلّم كلّ شيء، بل تُظهر سلوكاً اجتماعيّاً متفاعلاً، وتنمّي الروح النقديّة لدى الأطفال، إضافةً إلى القدرة على الاستماع والاستجابة وصنع القرارات.
الأطفال يتخيّلون ويكملون
تحوّلت غرفُ الصفّ الثلاث -خلال أيّام التبادل- إلى مكانٍ ساحرٍ تحصل فيه أحداث عجيبة، كانت تتغيّر يوماً بعدَ يوم، تتشكّل حسب القصّة التي يحيكها الأطفال مع المربيّات، فاليوم يبني الأطفالُ جداراً قماشيّاً لقصرهم المُتخيّل، وفي الغد يجلسون على ضفّة النهر، وعلى الجدار تقفُ سيّدة تخيّلها الأطفال ورسموها بردائها زاهي الألوان، كما هم يحبّون.
من الأحداث العجيبة في روضةِ مدارس المستقبل في رام الله، أنّ أسد السيرك انضمّ لحيوانات المزرعة، فبعد أن عملَ الأطفالُ على تصنيفِ الحيوانات حسبَ مكان عيشها، ونوع بيوتها، وغذائها؛ استكملوا استكشافهم للحيوانات ببناءِ مزرعتهم الخاصّة، وأسوارٍ لحمايتها، إلى أن وجدوا صورةً للأسد كُتب عليها "مغلق"، ليعلموا أنّ أسد السيرك لم يعد له مكان، ويقرّروا إيواءه في مزرعتهم، وتوقيع اتفاقيّة بين حيوانات المزرعة والأسد، وابتكار أفكارٍ ليكون ملك الغابة ونجم السيرك السابق عضواً فعّالاً في المزرعة.
مزرعة أخرى بناها أطفال روضة كفر مالك، احتفظت سيّدة بمحاصيلها الزراعيّة الوفيرة داخلها، واحتاجت فريقاً ليساعد في نقل المحاصيل وتوزيعها. فتساءل الأطفالُ عمّا يجدر بهم فعله في حال توفّر فائض في المصادر، وفوجئوا لاحقاً بوجود عقاربَ في المزرعة، لم تكن صاحبة المزرعة مستعدّةً لخسارتها، فكان عليهم التفكير بحلّ.
وفي روضةِ عبوين؛ بنى الأطفال قرية ببيوتٍ ورقيّة وأشجار وبركة سباحة كبيرة، ثم صار صفّهم قصراً، وكانوا فريق تصليحٍ محترفاً، لأنّ زائراً زار قريتهم وقال إنّ القصر القديم سيكون مكاناً ملائماً لإنشاء متحفٍ جميل لو تمّ ترميمه. تمّ تحذير الأطفال من وجود ثعابين في القصرِ المتخيّل، فرسموها، ووضعوها على البلاط المزخرفِ بأقلامهم الملونة، تخيل أحدهم أفعى كهربائيّة تطلق تياراً كهربائياً يصيب الأطفال، فصنعوا أدواتٍ آمنة لنقلها بعيداً عن القصر دون إلحاق الأذية بها أو بأنفسهم، وصنعَ واحدٌ منهم أفعى تطلق لهباً من فمها معتقداً أنّ النار تبطل مفعول الصعقات الكهربائيّة، واقترح آخر أن يقصّوا سلك الكهرباء الموصول بالأفعى الكهربائية لينقطع التيار. كلّ شيء ممكن.
انتهتْ الخمسة أيّام في عبوين بطفلةٍ وجدتْ في القصرِ -الصفّ- قطعاً نقديّة، تشبه عُقدَ سيّدةٍ قابلها الأطفال في الدراما حين كانت مربيّةٌ صوتاً لصورة تلك السيدة التي عاشت في القصرِ قديماً، وفقدت فيها غرضاً ثميناً، فقالت الطفلة: "سنعيد القطع النقدية للسيّدة، لكي لا تكون حزينة".
قال الريماوي: إنّ عباءة الخبير تبني الأطفال كبشر، فهي لا تهدفُ لتغطية المنهاج، بل لتعميق القيم وتوسيعها.
واستكملَ مدير استوديو العلوم في "القطان"، د. نادر وهبة، الحوار بقوله إنّ الباحثين والمعلّمين والمربيات خططوا لمهمات بسيطة لتطبيقها مع الأطفال، لكنّهم تركوا الثقة للأطفال للبناء عليها، فالمنهاج يُبنى في تلك المساحةِ ما بين تصميم المعلّم وتدخلات الأطفال؛ المعلّمون يبنون الأعمدة، والأطفال يكملون.
لماذا الطفولة المبكرة؟
قال الباحثُ في برنامج البحث والتطوير التربويّ، معتصم الأطرش، إنّ صفّ الروضة في عبوين كان مجاوراً للصفّ الأوّل الابتدائيّ، بينما كان أطفال الروضةِ مشغولين باستكشافِ القصّة ويجرّبون الحياة ويعبّرون عن أنفسهم، كان طلبة الصفّ الأوّل يلتزمون الصمت التام على مقاعدهم؛ مؤكداً ضرورة تصدير البيئة التفاعليّة التي تخلقها الدراما في الرياض إلى رؤيةٍ أوسع، تشمل التعليم بأكمله.
بدأ سعي برنامج البحث والتطوير التربويّ إلى تحقيق تغييرٍ في تعليم مرحلة الطفولة المبكّرة العام 2010، ولم يكن ذلك السعي سوى وليد الضرورة، فقال وهبة: إنّ البدء كان ضمن معطياتٍ بحثيّة، أشارت حينها إلى تراجعٍ في جودةِ التعليم، وإلى تدنّي نسبة المربيّات المؤهلات في الرياض الفلسطينيّة. وقد يكون عدمُ وجود مناهج رسميّة للروضات فرصةً ذهبيّة لبناءِ تعلّم مرنٍ وتفاعليّ، استثمرها فريق من البرنامج لبناءِ مساقاتٍ للمربيّات، موظّفاً تخصصاتِ باحثيه المتنوعة بدءاً بالبيداغوجيا والعلوم واللغات والفنّ والوسائط المتعددة، وصولاً إلى صعوبات التعلّم.
وكان برنامج التبادل لهذا العام بتنفيذٍ فريقٍ من برنامج البحث يشمل باحثين ومنسّقين وموثّقين ومترجمين، إضافةً إلى المعلّمين البريطانيين ليزا هاتون وسيباستيان بيني وريتشارد كيران، بينما استقبلته المربيات هبة المالكي وآية بدران وهند عاروري في رياضهنّ، بالتعاون مع 15 مربيّة منخرطاتٍ في برنامج التكون المهنيّ للطفولة المبكرة.