حوار بين ياسمين عيد صباغ وعمر القطان
درست ياسمين عيد صبّاغ التّاريخ والتّصوير الفوتوغرافيّ وعلم الإنسان البصريّ في باريس، وعاشت بين العامين 2006 و2011 في مخيّم البرج الشّمالي للّاجئين الفلسطينيّين قرب مدينة صور جنوب لبنان، حيث أجرت بحثاً فوتوغرافيّاً ضمّ مشروعاً حواريّاً مع مجموعة من الشّباب الفلسطينيّين، وأعمال أرشفة لصور الأسر والصّور المأخوذة في استوديوهات التّصوير، وهي عضو في المؤسّسة العربيّة للصّورة (www.fai.org.lb) منذ العام 2008 ومرشّحة لنيل شهادة الدّكتوراه في أكاديميّة الفنون الجميلة في مدينة فيينا.
وأثناء إقامة صباغ الفنيّة في المتحف الفلسطينيّ في رام الله في خريف العام 2014، شاركت العاملين في المتحف تجربتها في مخيّم البرج الشّماليّ، مُساهِمةً بذلك في الإعداد لمعرض المتحف الافتتاحيّ (باسم "أبداً لن أفارق" الذي يُخطّط لعقده العام 2016)، وكانت أيضاً قيّمة مشاركة في معرض "تقديم متاحف فلسطين" الذي عقد ضمن فعاليّات مهرجان قلنديا الدّوليّ الثّاني.
أمّا عمر القطّان، فهو رئيس مجلس أمناء مؤسّسة عبد المحسن القطّان، وعضو في فريق عمل المتحف الفلسطيني في مؤسسة التعاون.
عَمِلَ القطّان منتجاً ومخرج أفلام منذ العام 1991، وتنصّب العام 2005 مركز نائب رئيس مجلس إدارة مجموعة شركات الهاني التي تملكها عائلته في الكويت، وتساهم، إلى حدّ كبير، في دعم عمل المؤسّسة.
يُذكر أنّ المتحف الفلسطينيّ مشروع تابع لمؤسّسة التّعاون.
وسجل هذا الحوار خلال احتفالية قلنديا الدولية في تشرين الأول 2014 في مدينة رام الله.
الحوار:
ياسمين عيد صبّاغ (ي): ما أودّ معرفته في الحقيقة هو رأيك بشأن المبادرات الثّقافيّة المختلفة التي تنفّذ حالياً في فلسطين.
عمر القطان (ع): أتدرين، إنّ جمال الثّقافة –وأعني الثّقافة بأوسع معانيها، لا الفنون البصريّة والموسيقى والأدب وما إلى ذلك فحسب، وإنّما الأمور التي نتشاركها– يكمن في قوّتها التّراكميّة، إذ سُرعان ما يؤدّي الأمر إلى أمر آخر حتّى ينتشر انتشارَ النّار في الهشيم. ولكن عليكِ أن توقدي النّار أوّلاً. وهي نار خلّاقة ليست مدمّرة، لكنها تمس الجميع. فهذه الأمور تبني زخماً على نحو شبه تلقائيّ، وهكذا دواليك! ولكن بالطّبع ينطوي بدء أي شيء جديد على قدر كبير من المخاطرة والسّذاجة، فأنا أذكر مثلاً أن قلّة من النّاس كانوا يدركون حقيقة عملنا حينما أطلقنا برنامج مؤسّسة القطّان للثّقافة والفنون العام 1999.
ي: وماذا عن الأعمال الثّقافيّة التي كانت مؤسّسة التّعاون وغيرها قد نفّذتها قُبيل ذلك؟
ع: مؤسّسة التّعاون مختلفة جداً عن "القطّان". فهي أوّلاً مؤسّسة مبنيّة على العضويّة، وتضمّ عدداً كبيراً ومتنوّعاً من الأشخاص والآراء، حتّى أنّها أكثر تنوّعاً الآن من ذي قبل. وكان لجيل أعضائها الأوائل –الذين شهد العديد منهم النّكبة– فهم تقليديّ جداً للتّنمية الثّقافيّة، فتركّز نشاطهم في المقام الأوّل على ما سمّوه "الحفاظ على الهوّية والتّراث" ... وما إلى ذلك. ولهذا، كان مفهومهم عن الثّقافة محافظاً إلى حدّ ما، فضلاً عن كونه قوميّاً ونخبويّاً جدّاً. وكنت قد انضممت إلى المؤسّسة في أواخر التّسعينيات، وحينما اقتُرِحَت فكرة إنشاء المتحف الفلسطينيّ لأوّل مرّة كان الأستاذ الرّاحل إبراهيم أبو لغد أشدّ مُناصريها، وكان مُصرّاً على أن يكون المتحف متحفاً تذكاريّاً. وفي الحقيقة، كان مَرَدُّ استقالتي من لجنة المتحف –آنذاك- عجزي عن تأييد ذلك المفهوم. واندلعت الانتفاضة الثّانية بعد عام، وعُلّق المشروع لبضع سنوات. وكان منبع قلقي حينها –وكذلك الآن– تشرذم الواقع الاجتماعيّ والسّياسيّ الفلسطينيّ الشّديد، الذي بدأ نحو العام 2000 بالتّفتّت أكثر من ذي قبل على يد قوات الاحتلال الإسرائيليّ، بسبب عزلها القدس وغزّة، وفرضها مئات الحواجز، وسياساتها الوحشيّة مع المواطنين الفلسطينيّين في الدّاخل ... وغير ذلك. فالفلسطينيّون باتوا في المناطق المختلفة عاجزين عن التّلاقي، ناهيك عن العمل سويّاً، بمن فيهم طبعاً الفنّانون والكُتّاب، إذ أخذ نسيجنا الاجتماعيّ يُنتهك ويُمزّق. وهذا ما دفعنا إلى التّفكير في إنشاء المتحف الفلسطينيّ، بحيث يكون مركزاً جامعاً يصل إلى كل مكان بمراكزه العديدة.
ونشأت حينها لديّ فكرة إنشاء متحفٍ "موضوعاتيّ"، بدل تشييد متحف يُبنى ليؤوي مجموعة مقتنيات فحسب. ويُعزى ذلك إلى أنّ تُراثنا هشّ ويقع تحت تهديدات جمّة، فلا يسعنا أن نكتفي بجمعه وحفظه لحمايته (وحتّى لو فعلنا، فإنّ تلك العمليّة تظل محفوفة بالمخاطر، لاسيّما خطر مصادرة السّلطات الإسرائيليّة المقتنيات ... وما إلى ذلك)، وإنّما يتعيّن علينا أن نبثّ في التّراث الحياة؛ بتطبيق برنامج شامل للانخراط مع الجماهير المعاصرة، بحيث يتيح لها التّفكّر في موضوعات التّاريخ والثّقافة الفلسطينيّين، واستكشافها، ومناقشتها. وهذا هو ما يُقصد بمتحفٍ موضوعاتيّ.
ي: ولكن هذا موقف سياسيّ –إن كنتُ فهمتُ قصدك– إذ أعتقد أن المتحف بهذا المعنى يُفترض أن يساهم على نحو ما في بناء الدّولة الفلسطينيّة، أليس كذلك؟
ع: لا أفكر في الأمر بهذه الصّيغة المباشرة، وإنّما أعتقد أن ذلك يساهم في الصّمود الفلسطينيّ –أو هذا ما نرجوه– بمعنى أنّه يخلق حراكاً بين النّاس ليدافعوا عن مشروعات مشتركة تهمّهم وتعزّز بقاءهم في وطنهم. وأذكر أنّنا في الأيّام الأولى لبرنامج القطّان الثّقافيّ في العام 1999، كنّا مدركين أن موارد أسرتنا ومجتمعنا محدودة، بسبب ضعف المهارات الثّقافيّة المتاحة، إذ لم يكن ثمّة الكثير ممن يعملون في هذا المجال آنذاك. ولهذا، ارتأينا أن يكون دورنا متركّزاً في المبادرة والتّحفيز، ولهذا أيضاً اخترنا توظيف نموذج قائم على المنافسات والأنشطة التي تحثّ النّاس على العمل سويّاً. وكانت موازنتنا ضئيلة آنذاك، ولم يتوقّع أحد أن تنجح مبادرتنا، مع العلم أنّها، على الرغم من ذلك، امتازت بجاذبيّتها وإشراكها الشّباب ووضوح استراتيجيّاتها. وسُرعان ما بدأ الآخرون يدركون قيمة القطاع البديل؛ هذا الذي أهمِل منذ زمن طويل، ولم يُعمل فيه إلّا تحت رعاية منظّمة التّحرير الفلسطينيّة. وأخذ النّاس يوقنون أن منظّمة التّحرير الفلسطينيّة باتت تتفكّك نتيجة فشل أوسلو، وأنّ هذا، على الرغم من ذلك، لا يعني أن نوقف حياتنا الثّقافيّة، أو أن نتقاعس عن المساهمة الفاعلة في إيجاد مشروع سياسيّ جديد (وعدم حدوث ذلك يمثّل أحد أكثر التّحديات إلحاحاً على الشّعب الفلسطينيّ اليوم).
ونما برنامج القطّان للثّقافة والفنون من موازنته الأوّليّة التي بلغت 70,000 دولار أمريكيّ العام 1999 –وهي موازنة لا تُذكر بمقاييس بلدة صغيرة، ناهيك عن بلد بأكمله– إلى 12 أو 13 ضعفاً اليوم. ولئن سَعِدنا بالعون والموارد التي أمدّتنا بها المؤسّسات الأخرى، فإنّ أهمّ دعم نلناه لم يكن ماديّاً، بل كان إيمان النّاس المتزايد بعملنا. وأقصد بقولي هذا أن عدداً متنامياً –مثلاً– من الشّباب بدأ يتخصّص في المجالات الفنيّة، وها هو الإنتاج الثّقافيّ الفلسطينيّ قد بات ربّما أكثر سفرائنا كفاءة وفاعليّة، وها نحن نرى كيف تمكّنت الثّقافة من جمع النّاس (أحياناً لأوّل مرّة منذ عقود) من كل أنحاء فلسطين التّاريخيّة. وهذا ما عزّز تقدير النّاس المتزايد للقيمة الأساسيّة الكامنة في كل مجالات القطاع الثّقافيّ.
وعلى المرء طبعاً أن يقرّ بأنّ المجتمع الفلسطينيّ أثناء العقد الماضي أصبح محافظاً ومنغلقاً أكثر من ذي قبل، وأن ثمّة خطراً متنامياً يهدّد بقطيعة بين قطاع الثّقافة والمجتمع عموماً. فعندما كنّا في القدس منذ يومين فقط، على سبيل المثال، في جولة ثقافيّة رائعة في البلدة القديمة، ضمن فعالية من فعاليّات مهرجان قلنديا الدّوليّ - احتفالية القدس، أطلقت قوات الاحتلال الإسرائيليّ النّار على طفل في الرّابعة عشرة على بعد كيلومتر واحد من مكان وجودنا. ولكنّني على يقين في الوقت عينه، أنّ وجود ثقافة حيويّة منفتحة خلّاقة يدعّم، لا محالة، وجودنا على أرضنا، ويعزّز الأواصر بين أوساط مجتمعنا المشتّتة.
ي: وأنا أرى هذه المناحي المختلفة التي تتحدّث عنها، وأعتقد أنّها مثيرة جدّاً للاهتمام، ولكن ثمّة أمراً يثير استغرابي فيما يتعلّق بمشروع المتحف أودّ أن أسألك عنه –وقد يكون السؤال مستفزّاً بعض الشّيء– وهو هذا المبنى الكبير جدّاً الذي يُنبئ بأن يتحوّل إلى معلمٍ في حد ذاته. فهل هذه يا تُرى طريقة ليحتل مشروع المتحف مكانة معيّنة في ظل ما يمكن أن نسميه "غياب السّلطة الثّقافيّة" إن صح التّعبير؟ وإلّا لمَ هذا المبنى الضخم ...؟
ع: أتعلمين، من الجيّد أنك تطرحين عليّ هذا السّؤال ... هل زُرتِ غزّة من قبل؟
ي: كلّا.
ع: حسناً ... في غزة، تنفذ مؤسّسة القطّان أحد أكبر مشروعاتها، وهو مركز ثقافيّ للأطفال.[1]
ي: نعم، سمعت عنه.
ع: كان هذا المركز من أوائل مشروعاتنا في أواخر التّسعينيات، إذ كنّا آنذاك نُطوّر فكرته بالتّزامن تقريباً مع الجدال الدائر في مؤسّسة التّعاون بشأن طبيعة المتحف الفلسطينيّ الذي كنّا نعتزم تشييده. وكنت أودّ أن يكون مركز القطّان للطفل على شاكلة النّموذج الذي اقترحته للمتحف تماماً؛ أي –بعبارة أخرى– أن يتألّف المركز من ملتقى رئيسيّ واحد (ليس بالضّرورة أن يكون كبيراً) تتبعه العديد من الفروع التي تتوزّع في جميع أنحاء قطاع غزّة –بل وكل فلسطين إن أمكن– بحيث تتشكّل شبكة من المراكز المتخصّصة التي تتقاسم الموارد، وتتيح للأطفال الوصول إليها بسهولة دون الحاجة إلى الذّهاب إلى المركز الرّئيسيّ. وفي الحقيقة، لم أستطع أن أقنع جميع المعنيّين بفكرتي، فوالدي، على وجه التّحديد، كان يرى أنّ النّاس بحاجة إلى رؤية مشروع كبير جدّاً وملموس ليؤمنوا به. فاقتنعت حينها أنّ نموذجي قد يكون سابقاً لأوانه وقبلت وجهة نظره. وفي الواقع، ينطبق هذان النّموذجان على المتحف، إذ لدينا ملتقى رئيسيّ يستطيع النّاس أن يروه ويؤمنوا به، إضافة إلى العديد من المراكز التّابعة له. أمّا حجم المتحف، فقد يكون كبيراً بالنّسبة لفلسطين، لكن ليس بالنّسبة لمتحف بمعايير عالميّة، وهو تماماً ما ننشده!
ي: ولكن إن نظرت إلى الموضوع على أنّه جزء من ... لنسمِّها حركة تشمل كل المتاحف التي تُشيّد حاليّاً في فلسطين، فترى أن لديك متحف محمود درويش، ومتحف عرفات مثلاً، وكلاهما متحفان مهيبان. وأقصد بذلك أنّها أبنية كبيرة صارخة تلفت الانتباه، ألا تظن ذلك؟ إنّ هذا يحمل المرء على أن يعتقد بوجود سباق لبناء المعالم والنّصُب، بل حتّى سباق على السّلطة. لذا، أتساءل ما موقفك من هذا الوضع؟
ع: أتفهّم القلق النّاجم عن ذلك، فأنا شخصيّاً اعتراني قلق مشابه بشأن مركز الطّفل في غزّة إبّان إنشائه. ولكن أتعلمين؟ إن كان الكثير يستفيدون من المركز ويحبّونه، وإن كان يبذل جهوداً مستمرّة للوصول إلى أوساط المجتمع المختلفة بواسطة برامج فعّالة –وهو ما فعله حقّاً– وإن أنشأ في نهاية المطاف مراكز تابعة له في المناطق الأخرى، فما الضّرر من أن يكون "كبيراً" وظاهراً؟ فأهل غزّة باتوا يتحدّثون عن المركز باعتباره معلماً رئيساً ومكاناً يملكونه ويعتزّون به. وجدير بالذّكر أنّنا عقدنا شراكة أيضاً في السّنوات الأخيرة الماضية مع مركز في مخيم المغازي، وهو مركز أهليّ يديره المجتمع المحليّ، وذلك فضلاً عن شراكات أخرى. وسيكون هناك قريباً مركز مشابه في جنين في الضّفّة الغربيّة حتّى يكون منحى التّشبيك –إن صح التّعبير– جزءاً جوهرياً من عملنا، وهو الذي يساهم في تعزيز اللامركزيّة والديمقراطيّة والتّنظيم الأفقيّ. وأنا أرى أنّ النّاس بحاجة فعلاً إلى هذه المباني الرّمزيّة، علماً بأنّ الفرق بين متحفنا ومتحفيّ عرفات ومحمود درويش أنّنا غير تابعين لسلطة سياسيّة. وأنا على يقين طبعاً أن مؤسّسة التّعاون قويّة اقتصاديّاً، أو أنّ عدداً من أعضائها على الأقل كذلك، غير أنّني لا أعتقد أنّ المتحف الفلسطينيّ سيتبنّى أي أجندة أو أيديولوجيّة معيّنة، وذلك بسبب الطّريقة التي استُحدث بها. وسيمثّل هذا النّموذج اللّامركزي الذي يُبنى حول "سفينة أم" الجزء الأهمّ في هويّة المتحف. ولك أن ترَي ذلك في المعرض الذي شاركتِ فيه،[2] إذ كان عملاً يبيّن بوضوح جهد المتحف لإشراك جميع المتاحف الأخرى العاملة في فلسطين على نحو يكفل شمْل الجميع دون أن يكون مركزيّاً.
ي: في الواقع، لم أرَ ذلك تماماً ... فأنا سمعت العديد من ردود الفعل غير الرّاضية عن كون المتحف ينصّب نفسه منذ الآن "متحفاً أمّاً" جامعاً لكل المتاحف الأخرى الأصغر منه حجماً، وهي التي تعمل منذ سنوات. وبدا لي أن هذا يمثّل إشكالاً للعديد من النّاس، وهو أمر مستوعب، أليس ذلك؟
ع: بالطّبع.
ي: وكشفت لي بعض التّعليقات عن شيء من الحنق تجاه هذا الوضع، وعن أن هذا المبنى يمثّل نوعاً من السّلطة المفروضة على المشروعات الثّقافيّة القائمة الأخرى؛ سواء أكانت متاحف أم مجموعات شخصيّة أم أيّاً كان.
ع: أفضل طريقة للرّد على هذه المخاوف هو التوضيح أن المتحف سيُحكم عليه حسب جودة مشروعاته لا أكثر، فإذا لم تكن أنشطته على المستوى المطلوب، فرجاءً لا تتوانوا عن انتقاده انتقاداً لاذعاً! ولكنّني أؤكّد لك أنّه لم يُنشأ ليكون سلطة على غيره.
ي: كان يهمّني أن أسمع رأيك بهذا الخصوص، فأنا أعتقد أنّه يجب أن تظلّ هذه المسألة في الحسبان أثناء العمل على مشروع المتحف ... ولست أتّهم القائمين على المشروع بأي شيء.
ع: بالطّبع لا. وفي ظلّ غياب سلطة رسميّة صاحبة سيادة، فإنّ البعض لا يكون حسّاساّ تجاه الآخرين الذين لا يملكون الشّرعيّة فحسب –وهذا من حقهم– وإنّما يحاولون بأنفسهم أيضاً أن يسدُّوا الفجوات التي يسبّبها هذا الغياب، وهو أمر فيه مفارقة. فالجميع -على سبيل المثال- أراد منذ البداية أن يكون المتحف في القدس، ولكنّنا بالطبع نواجه واقعاً يعيق ذلك بسبب منع الإسرائيليّين أوّلاً، وعجز الكثير من الفلسطينيّين عن دخول القدس ثانياً. ولهذا، لم يكن بإمكاننا أن ننشئ المتحف هناك في ظلّ هذه الظّروف، وهو ما دعاني إلى اقتراح النّموذج الذي تقدّم وصفه، وإن كان يبدو أجوفَ بعض الشّيء بسبب الواقع الذي يُرجّح كفة القوى على حساب المجتمع الفلسطينيّ. ولكن هذه "الخدعة" التي قضت ببناء المتحف في بيرزيت، قرب جامعة، وفي مكان غير متوقّع بعض الشّيء، لا العاصمة، ولا حتّى العاصمة المؤقّتة رام الله، من شأنها أن تساعد على تكريس حقيقة أنّ المتحف مؤسّسة "أفقيّة التنظيم" وديمقراطيّة. وإذا تسبّب ذلك في امتعاض البعض في بداية الأمر، أو في اعتبارهم المتحف مصدر "سلطة"، فعليهم الحكم عليه بناءً على برامجه. وليس ثمّة من هو مجبر على ما لا يريد فعله، فإن لم تُرد المتاحف الأصغر حجماً أن تكون جزءاً من شبكة كبيرة، لها ذلك. بيد أنّني أرى أنّ ذلك يجب ألا يكون عذراً للتردد عن القيام بدورنا كمؤسّسة حاشدة.
ي: لا، على العكس. أنا أتّفق معك، وأرى أنّ هذا النّموذج المُكَوّن من مركز جامع رئيسي وفروع عدّة، كما وصفته، يمثّل الجانب الأكثر تشويقاً في المشروع، ولو كان الأمر لي لأبرزته أكثر. فباستطاعتي تخيّل كل الأنواع المختلفة من الأنشطة المستقلّة والمستمرة التي تنفّذ هنا وهناك، والتي تترك أثراً ملموساً ومُقنعاً. وأظنّ أنّه ينبغي أن ينصبّ التّركيز على البرامج والمعارض التي تحدث في الفروع؛ أي أنّها ينبغي أن تجذب جُلّ الاهتمام بدل المبنى الرئيسيّ. وأحسب أنّ إحدى المشكلات القائمة حالياً بالذّات، تكمن في أن الانتباه يُولى لموقع المبنى حيث يَنشأ شيء جديد.
ع: نعم، فالحقّ يقال، إنّه سيكون مبنى جميلاً!
ي: أنا على يقين من ذلك، ولكن تعتريني مثلاً شكوك بشأن فكرة عقد معرض افتتاحيّ في المبنى عند اكتماله، إذ برأيي سيكون هذا حدثاً مبالغاً فيه، وقد يعبر عن نوع من الغرور. لذا، آمل أن يتمتّع القائمون على المتحف بنظرة ناقدة تجاه المبنى، ودوره، وحجمه.
ع: سأضرب لك مثلاً آخرَ –وإن كان مختلفاً– عن قوّة التّعاون الثّقافيّ "الأفقي" متمثّلاً في شبكة الفنون الأدائيّة الفلسطينيّة. فقبل بضع سنوات، لم تكن العديد من مؤسّسات الفنون الأدائيّة والفرق العاملة في الموسيقى والمسرح والرّقص، تستغل مواردها بنجاعة في مجالات التّعاون بينها، وكان البعض –ومنهم موظّفونا– يطالبون بإنشاء شبكة. وكانت عمليّة إنشاء هذه الشّبكة مثيرة، إذ بدأت بفرق مجزّأة اجتمعت في شبكة واحدة أصبحنا نديرها الآن، واستطاعت أن تحشد دعماً مهنيّاً وماليّاً كبيراً. وقد يقال إنّ هذا يمنح مؤسّسة القطّان نفوذاً كبيراً، غير أنّ العمليّة التي أنشئت بواسطتها الشّبكة كانت ديمقراطيّة بالكامل، وهي لا تزال تُدار على نحو ديمقراطيّ. واعتقادي أنّه مهما حدث في أي مشروع، فإنك بحاجة، في مرحلة معيّنة، إلى جهة قيادة مركزيّة؛ سواء أكانت فكريّة أم ماليّة، وهذا ما يدعونا، برأيي إذا انتقدنا مركزيّة بعض معالم الحياة الثّقافيّة الفلسطينيّة في رام الله، إلى أن نتذكّر أنْ لولا المدينة بمعناها الحديث المدنيّ والمركزي، لما كان هناك تنمية ثقافيّة. لذا نحن بحاجة إلى المراكز وإن كانت مؤقّتة.
ي: ذكرتَ سابقاً أنّك لم تقتنع في البداية بمقترح والدك بشأن مركز الطّفل في غزّة، أي فكرة المَعلم الصارخ الذي يراه النّاس ليؤمنوا به، وتشكّل لدي انطباع أنّك لربما اعتقدت شيئاً آخر. فما هو اعتقادك؟ وما هي الإمكانيات والتّحدّيات الكامنة في المشاريع "المتواضعة" في العمل الثّقافيّ؟ وهل تظنّ أنّ "التواضع" قد يكون فعّالاً أيضاً؟ فأنا أتساءل أحياناً عن ذلك عندما أفكّر –مثلاً- في تجربتي الشّخصيّة في مخيّم البرج الشّماليّ في لبنان، حيث عملت مدّة 10 سنوات. فهناك شاهدت الجمعيّات ومنظّمات المجتمع المحليّ تتسابق على لقب أكبر بناية وأكبر برنامج، وكانت كل منها تسارع دوماً لإشراك 200 طفل بدل 10 أطفال مثلاً في أنشطتها. وعانيت هناك شخصيّاً لسنوات عدّة قبل أن أستطيع أخيراً الحصول على حيّز صغير ألتقي فيه بالشّباب الذين كنت أعمل معهم، وأحوّل فيه مجموعات المقتنيات التي كان النّاس يعهدونها إليّ إلى ملفات رقميّة. وكانت إحدى المشكلات قول البعض إنّني لم أكن أشرِك عدداً كافياً من النّاس في عملي، ولكنّني ارتأيت أنّ الوقت والحضور الفاعل كانا أهمّ من أي شيء آخر، إذ كنت أفضّل أن يكون عملي مع الأفراد المشاركين فيه مُستقلّاً وفعّالاً في الوقت عينه.
ع: يتحتّم علينا أن ندعم هذه المبادرات المستقلّة، فبدونها لا وجود لمشروعات أكبر. ويكمن التّحدّي في إيجاد الأفراد والجماعات التي تقوم بمثل هذه المبادرات –أو تودّ ذلك– وإظهارها للعلن. وأثبتت المسابقات العامّة جدواها البالغة في تحقيق ذلك، إذ حقّق برنامج مؤسّسة القطّان الثّقافيّ نجاحاً كبيراً في هذا المجال. فكي نستطيع حشد القدرات، علينا أن نكون قادرين على التّعرّف على مبادرات صغيرة عدّة من هذا القبيل والاستثمار فيها.
ي: وهذه تماماً النّقطة التي أودّ الوصول إليها. إذ أتساءل أحياناً: ماذا لو سخّرتم كل الجهد والوقت وحتّى المال الذي بذلتموه في بناء "المعالم الرّمزيّة"، وركزّتم بدل ذلك على المشروعات غير الظّاهرة والأعمال التي تترك أثراً ملموساً بالغاً وعلى المشروعات الصّغيرة وما إلى ذلك، هل ستظلّ الرّموز حينها ضروريّة؟
ع: ينبغي عمل الأمرين معاً؛ أي الاستثمار في الأعمال غير الظّاهرة والأفقيّة والعضويّة طبعاً، وفي كل ما هو رمزيّ وبارز وملموس أيضاً. فعِلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) والتّاريخ يبيّنان الحاجة إلى الأمرين، والتّوتر الجدلي القائم بينهما شيّق جدّاً. والأمر الوحيد الذي أودّ إضافته هو أنكِ لا تستطيعين الإنشاء دون التّفكير أوّلاً في عمليّة كاملة، ولا يعني ذلك معرفة استخدامات الأماكن المنشأة فحسب، وإنّما معرفة طبيعة العلاقة بين المبنى ومحيطه عموماً، وهو ما تبحّرنا فيه. فبالنّظر إلى خطّة المتحف الاستراتيجيّة تجدين أنّ كتاباتنا تؤكّد على أنّ هدفنا هو أن نكون مؤسّسة تمتدّ إلى خارج حدود الوطن –وإن لم يكن ذلك مبيّناً بعبارات صريحة كما أبيّنه أنا هنا– كما تؤكّد على أنّنا سنصل إلى الفلسطينيّين حيثما كانوا في فلسطين التّاريخية والشّتات. فسبق وقمنا –مثلاً- ببحوث في دولة تشيلي، وها نحن نعتزم عقد أحد عروض المتحف الافتتاحيّة في بيروت. ويشكّل الحراك الأفقي جزءاً كامناً في استراتيجيّة المتحف، لا أمراً فكّرنا فيه لاحقاً. وكذلك الأمر بالنسبة إلى مركز القطّان في غزّة، فالجانب المعني بالخدمة الممتدّة في عملنا استُحدِث منذ عمليّة التّخطيط، لذا تمّ الاستعداد له في مرحلة مبكرة. ونحن نملك اليوم تقنيّات التكنولوجيا الافتراضيّة الرّائعة والإنترنت التي تفتح مجالات جديدة وواسعة للخدمة الممتدّة. وتعدّ منصّة المتحف الإلكترونية على الإنترنت جزءاً مركزياً من برامجه، لا مجرّد أداة للتّسويق والاتّصال.
وحريّ بي القول إنّ المتحف لا يزال يطمح إلى المزيد، فالمبنى الحالي المخطّط افتتاحه العام 2016، يمثّل المرحلة الأولى فقط من المشروع. أمّا المرحلة الثّانية، فقد بات تصميمها جاهزاً، ويُعزى إحجامنا عن بدئها الآن إلى عدم توفّر التّمويل في الوقت الرّاهن. فإن كان المبنى الذي يُنشأ حالياً كبيراً برأيك، فإنّه سيكون أكبر في المستقبل!
ي: أعلم ذلك، ولكن أرى أنّ الأمر ينبغي أن يظل محل تساؤل وتشكيك. هي مسألة ظهور أليس كذلك؟
ع: هلّا أوضحتِ؟
ي: ألا يسعنا القول إنّ هذا المبنى الكبير قد يغطّي نوعاً ما الأعمال المستقلّة الأخرى والأصغر حجماً التي وصفتها؟ فإلى أي حدّ ستقومون بهدم عملكم بأيديكم؟ أظنّ أنّه من الضّرورة بمكان إعادة التّفكّر في هذه الأسئلة، فبالإمكان أن تغرقوا في العمل في اتجاه معيّن، يغدو لاحقاً قوّة تدّمر باقي أعمالكم. وأظنّ أيضاً أنّ من السّهل القول من النّاحية النّظريّة، إنّ عليكم فعل الأمرين معاً، ولكنّه قول يصعُب جداً تطبيقه على أرض الواقع.
ع: لنتحدث قليلاً عن مبنى مؤسّسة القطّان الجديد الذي سيكون كبيراً أيضاً –بل حتّى أكبر من المتحف– علماً أنّه سيُفتتح هو الآخر العام 2016. فنحن نقوم حالياً بعمليّة التّخطيط الخمسيّ كما ذكرتُ لكِ سابقاً، ولا أخفيكِ أنّ أكبر مخاوفي هي أن نتحوّل إلى مؤسّسة بيروقراطيّة رتيبة، حيث تنضب الأفكار، ويكرّر العاملون ما يقومون به دون أي تطوير أو ابتكار، وهم يجلسون في مبنى جديد خلّاب. فالمؤسّسة تعمل في الوقت الرّاهن على محورين؛ هما الثّقافة والتّربية في أربع مناطق مختلفة هي الضّفّة الغربيّة ومناطق من فلسطين المحتلة العام 1948، وغزّة، ولبنان، والمملكة المتّحدة. واستطعنا لسنوات أن نتّبع بُنية تنظيميّة لا مركزيّة بالغة النّجاعة، وهو أمر لا يزال يمثّل موطن قوّة بالنّسبة إلينا. وعلى الرغم من أنّ هذه البنية لا مركزيّة نسبيّاً، فإنّ محوريّ العمل الرئيسَين –ومن يرأسهما وبالطّبع أعني نفسي بذلك أيضاً– مسيطران على فحوى البرامج إلى حدّ بعيد. ولئن كان هذا موطن قوّة من نواحٍ عدة لأنّه يحفظ اتّساق العمل، فإنّه يعني أيضاً أنّنا نواجه خطر التّحوّل إلى بيروقراطيّة رتيبة بدل أن نكون مؤسّسة خلّاقة كما نطمح. ولقد أصِبنا بشيء من الإحباط لإدراكنا أنّ الهيكل الحاليّ لا يحثّ على التّعاون بين محاور المؤسّسة المختلفة وبرامجها.
وهذا ما دفعني إلى اقتراح نموذج تنظيميّ آخر خاضع للدّراسة حالياً، يقضي بأن نستبدل بالتّنظيم "الهرميّ" الرّاهن دائرة مركزيّة تمثّل خدماتنا الأساسيّة –وهي الأماكن العامّة ومستودعات المعدّات (لدينا على سبيل المثال معدات إضاءة للسينما) والإدارة والماليّة والدّعم التّقنيّ– تتّصل بها دوائر أصغر تمثّل المشروعات الحاليّة والمستقبليّة. ويعني هذا أنّه سيكون بوسع "المشروعات المستقلّة" –كما سميتِها– أن تتواصل معنا، وأن "تلتصق" بالدّائرة المركزيّة في حال انضمامها إلينا (وأن تتقاطع أيضاً مع البرامج –أو الدّوائر– الأخرى)، وأن تنفصل عن هذه البُنية حين انتهائها، تقريباً كما قد تفعل كوكبة من النّجوم!
ولا شكّ أنّ كل هذا جميلٌ ولكنّه نظريّ، ونحن لا نزال نتفكّر في كيفيّة تطبيقه عمليّاً. ومهما كانت النّتيجة، فإنّ النّقطة المحوريّة هنا أن تصبح المؤسّسة أكثر شبهاً بمحفلٍ تجريبيّ، ولا أعني بذلك أن تفتقر إلى التّنظيم، بل أن تكون حيّزاً قادراً على استقبال "المشروعات المستقلّة" التي ستغادره في نهاية المطاف دون أن يكون القائمون عليها قد شعروا بأنّنا مصدر "سلطة" بل –على العكس– مصدر إلهام لهم، وبأنّ مؤسّستنا مساحة مضيافة للابتكار والتّفاعل تدعوهم إلى استغلالها كمنصّة للانطلاق، لا كمكان للكسل والتّقاعس والإحجام عن التّفكير. وأودّ أن أشدّد على أنّ تطويرنا هذا المفهوم حالياً لا يؤثّر على عمل المؤسّسة الرّاهن، كما أتمنى أنّك تعلمين عن القدر الكبير من العمل الجيد الذي نقوم به.
ي: بالطّبع أدرك ذلك، وأعتقد أن ثمّة عنصراً جوهرياً في عمل المؤسّسة، وهو أن محفّزها هو العطاء، وهو ما يعطيها دَفعة بداية مهمّة ومثيرة للاهتمام.
ع: صحيح، وإن كان ذلك برأيي إشكاليّاً في حد ذاته، إذ إنّ مجتمعنا تقليديّ ونخبويّ في المقام الأوّل، ولكنّه يشهد حالياً تغيّراً سريعاً، الأمر الذي يحتّم علينا نحن أيضاً أن نتغيّر. فحتّى زمن قريب –على سبيل المثال– كانت المؤسّسة تتمحور حول شخص رجل واحد هو والدي، إلّا أنّ هذا النّموذج لم يعد صالحاً على الرّغم من أهميّة شخصه البالغة بالنّسبة لها. وأنا على قناعة بأنّ والدي سيكون أوّل من يصرّ على التّجديد والتّغيير بما يتوافق واحتياجات العصر، إذ لن يعيش أيّ منّا أبد الدّهر، كما أنّ مجتمعنا آخذ في التّحوّل. ولهذا، لم يعد النّموذج القديم القائم على شخص المُحسِن الثّريّ المِعطاء مستداماً، ولم يعد بوسعنا إلّا أن نستحدث نموذجاً بديلاً. وأنا أرى أنّ هذا ينطبق على المجتمع عموماً، إذ لم يعد من المقبول أن ينتظر النّاس عطاء الآخرين؛ سواء أكانوا مؤسّسات أم أفراداً، بل عليهم أن يحملوا هذا النهج معهم إلى أماكن أخرى وأن يبدأوا "مشروعات مستقلّة" اجتماعيّة وجماعيّة قادرة على البقاء، بحيث يتخطّى تأثيرها لاحقاً حدودها الفرديّة، كما يتحتّم أيضاً على مؤسّستنا أن تطوّر مشروعات مستدامة لا تحتاج إلى الاتّكال عليها لاحقاً.
وسبق أن بدأ هذا النّهج بالانتشار على نطاق ضيّق. فعلى سبيل المثال، حين غادرت أول مديرة لمركز الطّفل في غزّة المؤسّسة قبل عامين بعد أن قضت فيها 14 عاماً من العمل المضني، قضت إجازة في فرنسا لمدّة عام، وعادت لتبدأ مشروع رياض أطفال خاصّ بها في دير البلح في قطاع غزّة –وهي مسقط رأسها– مستعينة بموارد محليّة وبعض الدّعم الخارجيّ. وهذا ما أطمح إلى أن يفعله الجميع مع المؤسّسة، أي أن يستغلّوا مواردها أوّلاً، ثم ينطلقوا لإنشاء مشروعاتهم المستقلّة الخاصّة في أماكن أخرى. وآخر ما أرغب في تبيينه بشأن فكرة العطاء التي أتيتِ على ذكرها، هو أنّنا في المؤسّسة نؤمن بأنّ عملنا يعود بالنّفع على الجميع، ولهذا فإنّ عليهم المساهمة فيه على نحو ما. وأكيد أنّنا لا نتوقّع من الأوساط الشّديدة العوَز أن تدفع المال مقابل الخدمات التي تتلقّاها، ولكن ليس ثمّة ما يمنع أفرادها من القيام بأعمال تطوّعيّة مثلاً. أمّا في الأوساط الأكثر رخاءً التي تنفق المال لإلحاق أطفالها في رياض الأطفال الخاصة، أو على الكماليات، فلماذا لا ينفقون جزءاً من هذا المال على مدارسهم أو أنشطتهم الثّقافيّة المحليّة، فيستفيد منها كل من أطفالهم وأطفال الآخرين؟ نحن نؤمن بأنّه يتعيّن عليهم المبادرة بمشروعات النفع العام، والمساهمة فيها، وليس انتظار مبادرات الجمعيات والمؤسسات الدولية المانحة! وإذا طُبّق هذا النّموذج على مستوى أوسع وأعلى، فإنّ ذلك اليوم، الذي لطالما حلمت به، سيكون حقيقة، وهو اليوم الذي تصبح فيه مؤسّستنا مَزيدة على الحياة الثّقافيّة، وحيث يطبّق نظام ضرائب فعّال وتُخصّص موارد كافية للثّقافة والتّربية من خلال آليّة ديمقراطيّة، وهو ما من شأنه أن يجعل عملنا زائداً لا حاجة له – حينها سنذهب ببساطة لعمل شيء آخر!
ي: ولكن أين ينطبق هذا؟ هل ينطبق برأيك ذلك على هذا المجتمع وهذه السّلطة بالذات؟
ع: ولمَ لا؟ علينا أن نبلغ مرحلة نتخطّى فيها النّموذج التّقليدي القائم على العلاقة بين الأعلى والأدنى و"الإحسان" ... فأنا أشعر بأنّ النّظام القديم بدأ يتداعى. ولكن لا يعني ذلك أنْ بات لدينا نظام جديد، إذ هو النّظام الجَمعيّ القمعيّ والقَبَليّ عينه الذي أخذ في التّهاوي. ولا نملك نموذجاً بديلاً حقيقياً حتّى اللّحظة، وأحسب أنّ ذلك حال الوطن العربيّ عموماً. فلمَ لا نشارك بمثابتنا مؤسّسة تقدّميّة في النّقاش الدّائر بشأن المستقبل؟ يتحتّم علينا ذلك!
ي: لا ينبغي أن ينحصر دوركم في المشاركة في النّقاش، بل حقيق بكم أن تكونوا نموذجاً يُحتذى به من حيث النّقد الذّاتيّ.
ع: علينا أن نقدّم النّماذج، فلمَ لا نؤمن بأن باستطاعتنا أن نصبح مجتمعاً يدرك الجميع فيه المشروع المشترك ويدعمه؟ مجتمع تكون فيه علاقتنا بالسّلطة ذات طابع مختلف، وغير مبنيّة على الخوف، حيث ندير شؤوننا بحريّة دون تدخّل من "الأعلى". فما الغرض من تقرير المصير والاستقلال دون ذلك؟
ي: بالضّبط. ويُفاجئني قولك هذا لأنّه يبدو مثاليّاً جداً أو ...
ع: أنا طوباوي جداً!
ي: (تضحك) طوباوي! تلك هي الكلمة الأدقّ ... .
ع: كيف لنا دون ذلك أن نفكّر بذهن صافٍ في غمار الفوضى؟ لا أرى سبيلاً آخر لذلك. ولكنّنا سنبلغ تلك المرحلة المنشودة برأيي، وقد لا يعاصرها جيلنا، وإنّما الجيل الذي يليه أو الذي يليه.
ي: أعتقد أنّ من الصّعب التّمسّك برؤية من هذا النّوع، وأنّ على المرء التّعلّق بأفكار طوباويّة من أجل المضيّ قدماً، فلولا ذلك لما استطعتُ مثلاً إنجاز عملي مع الشّباب في المخيّم طوال خمس سنوات، وإن كان نطاق نشاطي ضيّقاً.
ع: ولكنّ التّحديّ الذي واجهك كان، في الغالب، على القدر نفسه من الصّعوبة.
ي: بل كان مشابهاً بالأحرى، إذ كان من الصّعب على البعض مواكبة الأسلوب التّربويّ النّاقد والجذريّ الذي اقترحته أداةً للتّعاون والبحث. ولا شكّ أنّ النّاس كانوا يشعرون بالرّيبة حيالي شخصيّاً، فضلاً عن بحثي وعن اهتمامي بعلاقتهم بالصّور. وتطلّب الأمر وقتاً طويلاً ليدرك النّاس معنى التفكير في وجود صورهم الفوتوغرافيّة، وأحسب –كما قلت آنفاً– أنّ وقتي وحضوري الكافيَيْن كانا السّبب في جلاء العمليّة. وأظنّ أنّ تلك العمليّة بالذّات هي التي أتاحت استيعاب العديد من وجهات النّظر المختلفة لكلّ المعنيّين.
ولكن دعني أختم بالقول أنّ هذه الفكرة الطوباويّة ومشاهدتي لك أثناء كلمتك الافتتاحيّة في مهرجان قلنديا الدّوليّ، فضلاً عن معرض المتحف وغيرها من الفعاليّات العامّة، تحملنا كلّها على العودة إلى ما قلتُه في بداية هذا الحوار، وهو أنّك برأيي تحتل منصب أحد النّاطقين الرّسميّين باسم الثّقافة في فلسطين. فكيف يتطوّر برأيك دورك هذا؟ وما الأسئلة التي تطرحها على نفسك من موقع مكانتك هذا وإلى ماذا تهدف؟
ع: في الواقع كنت قد بدأت حياتي العمليّة مخرجاً ومنتجاً، غير أنّني لا أطلق على نفسي أبداً مسمّى "فنّان"، وإن كنت على الأرجح "فنّاناً" متقاعداً بمصطلحات اليوم! هذا هو شغفي، وأنا أغبط الفنّانين على الحريّة التي يتمتّعون بها للقيام، بكل رُعونة، بما يريدون! (يضحك)
ي: ولكن هذا ما تفعله أنت!
ع: كلّا في الحقيقة، إذ تقع على كاهلي مسؤوليّات جمّة؛ منها شركة العائلة التي تموّل المؤسّسة تمويلاً جزئيّاً. فأنا لا أنعم بالحريّة على النّحو الذي وصفتُه، وأغار بشدّة من أولئك الذين يتمتّعون بها، كما أسعد أشدّ السّعادة لهم لامتلاكهم مشروعات يستطيعون السّعي إليها. إنّه أمر جِدّ رائع، وآمل أن أتمكّن في نهاية المطاف من العمل أكثر على مشروعات فنّيّة –ربّما حتّى مشروعاتي الخاصّة– بعدما أشيخ! وقد سبق أن قمت بشيء من هذا القبيل في قاعات الموزاييك،[3] ولكنّها كانت محض صدفة نشأت من عجزي عن السّفر لمدّة تسعة شهور لأسباب صحّيّة. وكانت قاعات الموزاييك حينها نوعاً من التّحدي الفنّيّ الذي استطعت إنجاحه – على ما أظنّ. ولكنّني -كما سبق أن قلت- لا أعتبر نفسي ناطقاً رسميّاً، بل قوّة حافزة، وهو ما يعني أيضاً أنّ الزّخم والأفكار –وفق ما تقضيه سُنن الطّبيعة– ستنفد منّي يوماً!
ولكنّني لا أزال في الوقت الرّاهن أتطلّع بشغف إلى الخطوة الكبيرة المقبلة في مجال التّنمية الثّقافيّة في فلسطين، وهي التي تحتاج باعتقادي إلى مزيد من المأسسة، لاسيّما في ميدان التّربية والتّدريب الثّقافيّ، وهذا أمر لا مفرّ منه نظراً إلى مشكلة افتقارنا الشّديد إلى المهارات في فلسطين، بل وغالبية الدّول العربيّة أيضاً. وقد يكون بوسع فلسطين أن تطمح إلى أن تكون مركزاً مرجعيّاً لتلقّي التّعليم العالي الجودة في مجال الفنون، إذ سيكون ذلك رائعاً. فعلى سبيل المثال، قدّمنا دورة تدريب أساسيّ لمدّة عام في مجال صناعة الأفلام مع المخرج الفلسطينيّ البارز ميشيل خليفي، إذ كان بمثابة برنامج تجريبيّ في 2004 – 2006. وكان التّدريب ناجحاً جدّاً من نواحٍ عدّة، لأنّ عدداً كبيراً من الطّلاب عملوا بعدها في مجال السينما. وراودتنا بعدها فكرة استحداث برنامج ماجستير متعدّد التّخصّصات في مجال صناعة الأفلام، وقد قمنا بنقاش الفكرة، مؤخراً، مع جاك برسكيان[4] أيضاً. ولكنّني بِتّ اليوم مقتنعاً أكثر من أي وقت مضى أنّ علينا البدء من الصّفر، والرّجوع إلى الأساسيّات. وقد تكون لدينا اليوم موارد مؤهّلة كافية في المجالات الثّقافيّة في بلدنا والشّتات، بحيث نستطيع البدء بالتّخطيط لمزيد من الاستثمارات في التّعليم الثّقافيّ. وقد نجح المعهد الوطنيّ للموسيقى في تحقيق ذلك، وأحسب أنّنا قادرون على فعل الأمر عينه في مجالات الفنون البصريّة، أو الأفلام، أو التّصميم، أو الهندسة المعماريّة، فهناك حاجة ماسّة إلى ذلك. ولكن هذا للمستقبل!
ي: ومجال الحرف أيضاً.
ع: وكذلك الحرف، فالفكرة هي أن يقوم ذلك على الحرف.
ي: هذا أمر لاحظته بالفعل أثناء عملي على معرض متاحف فلسطين، إذ كان علينا أن نبحث طويلاً لنجد حرفيّين مهرة يتقنون صنعتهم، كأن يعرفوا كل ما يلزم عن الورق، أو يتقنوا التّعامل مع المعادن والخشب، حين يتجاوز الأمر مجرد فرش منزل، ويتخطّاه إلى التّفكير في المواد وطبيعتها على نحو يخدم غرضك ويعينك على التّعبير عن نفسك بأفضل الطّرق. ولم يكن إيجاد هؤلاء أمراً سهلاً!
ع: لا أستغرب ذلك أبداً.
ي: أودّ العودة إلى ما قلتَه عن المسؤوليّة (وإن كنت أرغب جدّاً باعتبارك فنّاناً بعد هذا النّقاش!)، وما يعنيه ذلك حينما أفكّر في البحث الذي قمتُ به في مخيّم البرج الشّماليّ وما نجم عنه، وفي إجباريَ نفسي على متابعة أنماط الحراك العديدة التي نشأت بفعل بحثي ووجودي في المخيّم. فأنا كذلك في الحقيقة لم أعد حرّة، وإنّما مثقلة بالمسؤوليّات، فمن السّهل أن أقول "سأصب انتباهي على الصّور فقط، فأفكّر فيها وفي أساليب عرضها، أو عدم عرضها، أو جعلها خفيّة، أو منح خفائها وجوداً من نوع ما، ... وما إلى ذلك". ولكن الحقيقة أنّني انخرطت في العمل مع الكبار والصّغار، وبفضل ذلك العمل تشجّع هؤلاء على النّظر إلى أنفسهم على نحو مختلف، وعلى تجربة أشياء جديدة، والسّعي إلى تحقيق أحلامهم. فقرّر بعضهم استكمال دراسته وذهب بعضهم الآخر ليتعلّم اللّغات الأجنبيّة والسّفر إلى الخارج. ولهذا بات تحمّلي محلّ اختبار اليوم، إذ أصبحت، نوعاً ما، مؤسّسة صغرى قائمة بذاتي، أحاول أن أسهّل حياة هؤلاء في منظومة ترفض وجودهم فيها، حتّى إنّي أتساءل أحياناً عن الحدّ الفاصل بين قوّة التّحمّل وتدمير الذّات! وأصبحت الآن أفكّر في الجوانب الماليّة على الدّوام، مع أنّني لا أطيق ذلك، ولكنّ الأمر -كما قلتَ- مسألة مسؤوليّة. وقصدي هنا أنّني لا أظنّ الفصل بين "المسؤوليّة" وكون المرء فنّاناً أمراً ممكناً، بل على العكس أحسب أنّ الفنّان مُلزم بابتكار الأساليب ليضطلع بالمسؤوليّات التي لا يريد أحدٌ آخر الالتفات إليها.
ع: نعم، لا بدّ من القيام بذلك. وبرأيّي أنك كفنّانة بالذّات يتعيّن عليكِ دوماً كما تعلمين بالتّأكيد إدارة الموارد المتاحة لك. وكنت شخصيّاً قد اتّخذت قراراً قبل عشر سنوات بأن أجرّب العمل في مجال شركة عائلتي على الرغم من افتقاري تماماً للخبرة في هذا المجال، وأدركت حينها أنّه لم يكن من الممكن أن تفعل المؤسسة المزيد بالموارد التي لدينا. فكان الأمر تحدّياً لي، وأنا من برج الثّور لذا أعشق التّحدّيات! ونجح الأمر حمداً لله ... وها أنا اليوم لا أعرف كيف أخرج من هذه الدّائرة ... .
ي: أعتقد أنّه من الجيّد أنّنا لا نخرج منها، فهي تبقينا في تقدّم وبحث مستمرّيْن عن نماذج جديدة ... شكراً لك على هذا الحوار.
ع: العفو!
[1] http://www.qattanfoundation.org/ar/qcc
[2] http://www.qalandiyainternational.org/exhibitions/introduction-palestinian-museums
[3] http://mosaicrooms.org/
[4] مدير عام المتحف الفلسطينيّ.