هنا إرشيد
شكلت الطبقة العاملة الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني منذ أواخر العهد العثماني حتى الوقت الراهن، حيث بدأت تتبلور ملامحها، بشكل جليّ، خلال فترة الانتداب البريطاني، لما شهدته فلسطين من تحول ديموغرافي واجتماعي وتنامٍ لأنماط الإنتاج الرأسماليّ. وبرز دور هذه الطبقة كمحرك لثورات الفلسطينيين ضد الاستعمار البريطاني، ومن ثم الصهيوني، لتكون نواة أساسية لحركة النضال الجماهيري ضد القهر الاستعماري والطبقي. ولذلك، لا بد لأي سرديّة شموليّة مكتوبة أو بصريّة عن فلسطين، تاريخاً وشعباً، أن تسلط الضوء على دور الطبقة العاملة كقوة فاعلة، لها صوتها البارز في هذه السرديات. لعل فترة أوساط ستينيات، وحتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، شهدت أوج حضور الطبقتين الفلاحية والعاملة الفلسطينيتين في المشهد الفنيّ البصريّ الفلسطيني باعتبارهما رمزاً للمقاومة والصمود والتحرر. شكلت هذه الحالة البصريّة المرتبطة بمشروع تحرر وطنيّ -آنذاك- جيلاً ناشطاً من الفنانين كإسماعيل شموط، وسليمان منصور، ونبيل عناني، وبرهان كركوتلي–سوريا، وغيرهم، وتجسدت على شكل لوحات وملصقات كان لها حضور مهول في الفضاءين العام والخاص.
تحضر صورة الطبقة العاملة الفلسطينيّة ضمن تمثلات بصرية أرشيفية وأخرى فنيّة في مجموعة من المعارض المقامة في رام الله العام ٢٠٢١، التي لا تتناول تحديداً الطبقة العاملة موضوعاً لها. تنوعت هذه المعارض بين الفني، والتجريبي، والتاريخي-الفني، وهي: "فلسطين من الأعلى" للجنة القيميّة: زينب شيليك، وزينب أزيرباديجان، وسليم تماري، ويزيد عناني-مؤسسة عبد المحسن القطان، و"بلد وحدُّه البحر: محطات من تاريخ الساحل الفلسطيني ١٧٤٨-١٩٤٨" للقيمة الضيفة: إيناس ياسين والقيم المساعد: أحمد الأقرع-المتحف الفلسطيني، و"لكن هذه الأشياء يجب أن تخترع" للقيمة الضيفة: أديل جرار-مركز خليل السكاكيني الثقافي، ومعرض "هيدرا بيس" للقيمين: بيترا هوسكوفا وحسام أبو سالم-بلدية رام الله. تقدم هذه المعارض نماذجَ لممارسات قيميّة متنوعة، فمعرض "فلسطين من الأعلى" هو نتاج تعاونات بحثية بين مجموعة من الأكاديميين المتمرسين والقيّم المقيم في مؤسسة عبد المحسن القطان، و"بلد وحدُّه البحر" هو نتاج جهد بحثي ضمن رؤية القيّمة الرئيسية، وذلك للخروج بسرديات تنسجها ثلاثة أشكال من المواد بصرية وهي: الأرشيفات الرسمية، و"أرشيف الناس"، والمقاربات الفنية للموضوعات التي يطرحها الأرشيف. أما معرضا "لكن هذه الأشياء يجب أن تخترع" و"هيدرا بيس"، فتمخضا عن ممارسة تجريبية تشكلت فيها الرؤية القيمية ضمن ممارسة أفقية تضمنت سلسلة حوارات مع الفنانين/ات ومجموعات قاعدية، ونتجت عنها أعمال فنية ورؤى طوباوية قيد التطوير.
انعكست هذه الممارسات القيّمية في كيفية تمثيل الطبقة العاملة والخطاب الذي ظهرت ضمنه. تراوحت التمثيلات بين ظهور هذه الطبقة كجماعة مضطهدة ومستغلة من قبل القوى الإمبريالية والكولونيالية، أو كقوة تنظم ذاتها وتخوض نضالات ضد الاستعمار، أو كمحط اهتمام لبعض المصورين الأوروبيين الذين وثّقوا التنوع الإثنوغرافي في فلسطين في عشرينيات القرن الماضي، أو ككينونة معقدة تبرز تناقضات الحالة السياسية والاجتماعية الفلسطينية، أو كجسم ينظم ذاته لخلق أنماط إنتاج جديدة تتحدى ما أفرزه النظام الرأسمالي والاستعمار من طبقات وعمالة، ويمثل ذاته في المعارض عبر وسائط فنية تجريبية.
الطبقة العاملة الفلسطينية قبل النكبة وإشكاليات تناول الأرشيف
يضيء معرض "بلد وحدُّه البحر" على محطات من تاريخ فلسطين، وتحديداً السّاحل الفلسطينيّ، منذ منتصف القرن الثامن عشر وحتى نكبة العام ١٩٤٨، ويفحص عبر مختارات من المواد التاريخيّة، ومجموعة من الأعمال الفنيّة، الكيانات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تشكلت قبل نشوء "الدولة الحديثة"، وقبل وجود الحالة الاستعمارية الراهنة.[1] ينقسم المعرض إلى ٥ محطات رئيسية مرتبة حسب تسلسل تاريخي كرونولوجي ومعنونة وفقاً لأحداث مركزية وكبرى في تاريخ فلسطين في الـ ٢٠٠ عام التي سبقت النكبة.
يقارب المعرض المواد الأرشيفية، التي يرتكز عليها بشكل مكثف، وفق منظور يستند إلى الأرشيف كمصدر للوصول إلى معارف حول أحداث الماضي. تحضر الصور الفوتوغرافيّة لعمال في اقتصادات القطن والبرتقال، وبناء سكة الحديد بشكل مكثف في غالبية أقسام المعرض، ويرجع مصدر معظم هذه الصور إلى المصور الهولندي فرانك شولتن، وهي حالياً مؤرشفة في المعهد الهولندي للشرق الأدنى-لايدن. جاء شولتن إلى فلسطين العام ١٩٢١، وبقي فيها لأكثر من عامين، وثق خلالهما التنوع الإثني-الطائفي في فلسطين، والتقطت عدسته التركيبة المجتمعية الفلسطينية خلال بدايات فترة الانتداب البريطانيّ، فأنتج آلاف البورتريهات التي تصور نخب فلسطين وعمالها وفلاحيها. ولفهم النظرة والمنظور اللذين صور عبرهما شولتن فلسطين، يجب الرجوع إلى المنهجية التي صنف عبرها هذه الصور والخطاب الذي موضعها ضمنه، والذي يغيب عن وصف صوره في المعرض، ولكنه يشكل في الوقت ذاته سياقاً مهماً لفهم مركب لها.
اتخذ شولتن منهجية تدمج بين المقاربة التوراتية والمقاربة العلمية الأوروبية الحديثة في تصنيف صوره عن فلسطين، فتظهر مع اقتباسات من الكتب المقدسة المسيحية واليهودية والإسلامية، مع انحياز واضح لتلك المسيحية، في مجلدات الصور التي نشرها باللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية والهولندية.[2] وعلى الرغم من ظهور الصور نفسه في جميع النسخ، فإن الخطاب في الاقتباسات التي تظهر الصور ضمنها يتبدل بحسب اللغة والجمهور الذي يتوجه له في مجلداته، والذي يعكس فهم شولتن المركب للاعتبارات الجيوسياسية الكولونياليّة، وللعلاقات التي تربط المجتمعات الغربية التي يخاطبها بالمجتمعات التي صورها في فلسطين. فعلى الرغم من حميمية صور شولتن التي يظهر فيها العمال في معرض "بلد وحدّه البحر"، وتركيزه على وجوههم، فإنه لا يراهم كقوة فاعلة، بل كموضوع لمشروعه التوثيقي الذي يهدف إلى جمع معلومات إثنوغرافية عن فلسطين وتداولها في الأوساط الأوروبيّة، وبالتحديد في البلدان المستعمِرة.
من ناحية أخرى، يخصص المعرض قسماً كاملاً بعنوان "العمال" يسرد فيه دور الطبقة العاملة في تشكيل ملامح الحياة السياسية والاجتماعية على امتداد الساحل الفلسطينيّ خلال فترة الانتداب البريطاني، وتزايد الهجرة اليهودية بنسب كبيرة إلى فلسطين، وما تبعه من تصاعد لعمليات استملاك الأراضي من قبل المؤسسات الصهيونية. يركز هذا القسم على انبثاق أول أشكال التنظيم النقابيّ في فلسطين، وتشكل جمعية العمّال العربيّة الفلسطينيّة العام ١٩٢٥، التي خط بيانها الأول المناضل عز الدين القسام، لتقود فيما بعد سلسلة من الإضرابات لتحسين شروط العمل، وتفجر الثورة الفلسطينية الكبرى (١٩٣٦-١٩٣٩). تستند هذه السردية إلى الأدبيات الرسميّة لهذه الأجسام العمّالية مثل بطاقة عضويّة في نقابة دائرة أشغال يافا-جمعية العمّال العربيّة الفلسطينيّة من أرشيف عائلة عبد السلام هنيّة، وعرض لمواد أرشيفية تتضمن صحفاً ووثائق وصوراً فوتوغرافيّة عن الحركة العماليّة للمخرج الفلسطيني رائد دزدار، الذي تستند ممارسته الفنيّة، بشكل عام، على إعادة إنتاج وتأويل مواد الأرشيف لتكوين سرديات مغايرة، إضافة إلى مقالة لتوفيق طوبي في جريدة الاتحاد التي أسستها عصبة التحرر الوطني العام ١٩٤٤، حيث كان طوبي أحد أعضائها. وبما أن المعرض يركز، بشكل رئيسي، على التفاعلات ضمن الحيز المديني للساحل، وعلى الرغم من أنه يشير إلى حركة الهجرة الداخلية من نابلس وغزّة والقدس والخليل إلى يافا، فإن قسم "العمّال" لم يتطرق إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية في المناطق الريفية المحيطة في فترة الانتداب البريطاني، الذي "أدى إلى هجرة الفلاحين غير الملّاك إلى المدن الساحلية المزدهرة اقتصادياً، لينخرطوا في العمل المأجور"،[3] الذي، بدوره، ساهم في نشوء الطبقة العاملة، وولادة أشكال التنظيم النقابي التي يتحدث عنها هذا القسم.
قسم "العمال"، معرض "بلد وحدُّه البحر: محطات من تاريخ الساحل الفلسطيني ١٧٤٨ – ١٩٤٨"، المتحف الفلسطيني، 2021.
ضمن قسم بعنوان "اقتصاد البرتقال"، وعمل تركيبي متعدد الوسائط من إنتاج المتحف الفلسطيني، ٢٠٢١ بعنوان "شمّوطي"، يقدم المعرض موادَّ أرشيفية بصرية، إضافة إلى تسجيلات صوتيّة لإعلانات صحف، تتناول دورة إنتاج البرتقال وتغليفه وتصديره، والمهن التي ارتبطت به، والتحديات التي واجهته، وذلك للدلالة على الازدهار الاقتصادي، وارتباط اقتصاد الساحل الفلسطيني بالسوق العالمي. ما لا يقوله المعرض حول اقتصاد البرتقال، ولكن تبرزه وجوه العمال المتعبة في الصور، وانهماكهم كالآلات في قطف البرتقال، وتغليفه، وتعبئته في صناديق، ونقله إلى البواخر التجارية، هو أن نمو هذه الزراعة، وارتباطها بأنماط الإنتاج الرأسمالي، أدّيا إلى تحول العديد من الفلاحين من زراعة الكفاف الأسريّة إلى العمل المأجور في البيارات، الأمر الذي قاد إلى تحولات بارزة في النسيج الاجتماعي-الاقتصادي الفلسطينيّ. ساهم في تكثيف إنتاجية العمل في هذا الاقتصاد ارتفاعُ الطلب البريطاني على البرتقال الفلسطيني، اعتباراً من العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، ما أدى إلى الحاجة للتوسع في استخدام قوة العمل المأجور.[4]
تأملات في مشهد العمل الآنيّ: هل يقوض الفن سلطة الأرشيف؟
يضم المعرض التاريخيّ-الفنيّ، "فلسطين من الأعلى"، ٥٨ مادة أرشيفية وأفلاماً، وأعمالاً فنيّة، ويقدم قراءة غنيّة في دور التصوير الفوتوغرافي الجوي، ورسم الخرائط، والاستشعار عن بعد، والرصد، في خدمة الاستعمار وسيطرته، حيث يرصد فلسطين من الأعلى منذ كانت تحت الحكم العثماني، مروراً بالانتداب البريطاني، وصولاً إلى حالة الاستعمار الصهيوني الراهنة. ويوظف المعرض مجموعة من التدخلات الفنيّة، باعتبارها ممارسات مقاومة، وذلك بغية المساهمة في تقويض وهدم البنى الكولونيالية المعاصرة.[5] يقارب المعرض الأرشيف الكولونيالي ضمن توجه لا يقتصر على النظر إلى المعلومات التي يوفرها، بل يتجاوز ذلك عبر تحليل السياق الأيديولوجي الذي أنتج الأرشيف ضمنه، وآليات تصنيفه وخصائصه. في الوقت ذاته، يقسم المعرض التاريخ إلى ثنائيات، الأعلى في مجابهة الأسفل، دون إظهار العلاقة الديالكتيكية بينهما.
لتكوين فهم أعمق لبنى السلطة التي تشتغل ضمنها مقولات الاستعمار وأدوات هيمنته على الشعوب المستَعمرة، واستغلالها لخدمة مطامعه، ينبغي التركيز على الأرشيفات الكولونياليّة "كسيرورة، وليس كمنتج نهائي، وكتجربة أبستمولوجية أكثر منها كمصدر للمعرفة".[6] إضافة إلى توثيق المواد الأرشيفية حسبما وردت في الأرشيفات الرسمية الكولونيالية، يضيف المعرض طبقة أخرى من التصنيف المغاير/المضاد، فيستخدم ترميزات لونية تصاحبها مسميات مرتبطة بالسياق والأيديولوجيا التي تشتغل ضمنها المواد الأرشيفية والفنية، فالأحمر يرمز إلى قوة الدولة والاستعمار والدين، والأزرق إلى التصوير من الأعلى، والأسود إلى الحرب العالمية الأولى، والأخضر إلى ممارسات المقاومة، والأصفر إلى المواد المعاصرة. تساعد هذه الترميزات ونصوص الحائط المكملة للخطاب البصري للمعرض الزائر على فهم طبقات المعنى في الصور المأخوذة من الأعلى، وتموضعات الأشخاص ضمنها وفقاً لتصنيفاتهم الإثنية والطبقيّة.
يضيء المعرض، في أكثر من قسم، على استغلال القوى السياسية والاستعمارية المتوالية على فلسطين، الأيدي العاملة الفلسطينية في القرى والتجمعات البدويّة في حفرياتها الأثريّة، وبناء خطوط مواصلاتها التي تخدم أهدافها العسكرية. ويعرض، في الوقت ذاته، أشرطة تسجيلية تسرد تاريخ مطارات وسكك حديد فلسطين المندثرة من وجهة نظر إنسانية حميمية. فمثلاً، يروي الشريط الوثائقي "٥ دقائق عن بيتي (٢٠٠٧)" للمخرج ناهد عواد، قصة مطار القدس الدولي، الذي شيد في أوائل فترة الانتداب البريطاني، وأغلقه الاستعمار الصهيوني نهائياً العام ٢٠٠٠، على لسان العاملين فيه. في قسم "موانئ الذاكرة"، يستند عمل "خط سكة حديد الحجاز في فلسطين - رحلة تصويرية/فوتوغرافية (٢٠٢٠)" للفنان جاك برسكيان، والمكلف من قبل مؤسسة عبد المحسن القطان، إلى الألبوم الإمبراطوري المعد من قبل المصور الملكي علي سامي للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني، عن مشروع سكة حديد الحجاز العام ١٩٠٥، والموجود ضمن مجموعة عمر كوك. في هذا الأرشيف، يظهر العمال في خلفية الصور الفوتوغرافية كهامش للحدث المركزي وهو بناء السكة، وكجزء من ممتلكات الموظفين العثمانيين الذين يظهرون في مقدمة الصورة كعنصر سيادة على المشهد. يقارب برسكيان هذا الألبوم ويعلق عليه بصرياً عبر رحلة فوتوغرافية حميمية توظف، بشكل مضاد، مفهوم الرحلات الاستكشافية التصويرية الاستشراقية والاستعمارية، التي أنتجت صور بانورامية للمشهد الطبيعي تتلاءم مع المخيال التوراتي والاستعماري للقوى الكولونيالية وتُظهِر فلسطين كأرض خالية من الناس. تأخذ صور برسكيان طابعاً فنيّاً تأملياً للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الفلسطيني الحالي في مناطق تواجدت فيها محطات القطار، وتوثق صوره البانورامية ولقطاته الواسعة الفقدان أو المحو التدريجي لبعض محطات هذا الخط والتحولات التي شهدتها الجغرافيا التي امتد فيها، وذلك ليكوّن صورة تفصيلية عن الحاضر.
عمل "خط سكة حديد الحجاز في فلسطين - رحلة تصويرية/فوتوغرافية"، 2020، جاك برسكيان، معرض "فلسطين من الأعلى"، مؤسسة عبد المحسن القطان 2021.
يتأمل برسكيان في مقالته الفوتوغرافية مشهد العمل الراهن، الذي لا يمكن تجاهل رؤيته عند زيارة بعض محطات الخط. فمثلاً، كمحطة طولكرم المحاصرة على الجانب الآخر من الجدار في منطقة صناعية إسرائيلية، تجد الطبقة العاملة في الضفة الغربية نفسها محاصرة بخيارات كسب العيش المحدودة نتيجة لسياسات الاحتلال التي تكبل الاقتصاد الفلسطيني، فيضطرون إلى اللجوء إلى سوق العمل الإسرائيلي، وقبول ظروف عمل اضطهادية ومذلة لتأمين قوت يومهم. يلتقط برسكيان السخرية في هذا المشهد، فيحدثنا كيف يضطر العمال الفلسطينيون إلى تكبد معاناة العبور يومياً من وإلى عملهم في المنطقة الصناعية الإسرائيلية المسماة بـ"شالوم (سلام)" عبر فتحة عسكريّة في جدار التوسع والضم. يوظف هذا المصنع العمال الفلسطينيين من مختلف مناطق الضفة الغربية مقابل أجور متدنية.
يلعب هذا النوع من التدخلات الفنيّة المستندة إلى الأرشيف دوراً مهماً في مساءلة الروايات التاريخية والتمثيلات الإشكالية التي يقدمها الأرشيف الرسمي، كما أنها تساهم في تبديد أوهام مصداقيته واكتماله. في الوقت ذاته، تتخذ هذه الأعمال الأرشيف مرجعيتها، ما يجعلها مرهونة بمنطقه وجمالياته.
في معرض "هايدرا بيس" الذي نتج عن إقامات فنية اتّخذت من فلسطين وسلوفاكيا وسلوفينيا مكاناً، وأقيمت وجاهياً ورقمياً للتفاكر حول المستقبل، عبر النظر في التجربة المعيشية المشتركة للفنانين المقيمين،[7] يعرض الفنان الغزّي محمد الحواجري عملاً فنياً بعنوان "فيا بحر، هل أنت أبي؟ (٢٠٢١)" ويتخذ من صور شريحة من الطبقة العاملة، وهم الباعة المتجولون، موضوعاً أساسياً لخلق مشهدٍ بانوراميٍ خياليّ للبحر. يتكون العمل من ٦ أعمال فنية رقمية طبعت على ورق، وهو شكل فنيّ لجأ إليه الفنان بسبب صعوبة شحن الأعمال من غزة إلى رام الله وسلوفاكيا، بعد العدوان الأخير على غزة. يقول الحواجري في مقابلة أجريت معه، "البحر هو رئتا غزة المحاصرة منذ ١٤ عاماً، وهو متنفس للغزيين، وبخاصة الباعة المتجولين الذين يعتمدون عليه كمصدر للرزق. معظم سكان غزة هم من الطبقة العاملة، حيث بدأ عدد الباعة المتجولين بالازدياد بعد الانتفاضة الثانية، وبعدما تم منع إصدار التصاريح للكثير من العمال الذين كانوا يعتاشون من العمل في دولة الاحتلال الإسرائيلي. على الرغم من ظروفهم الاقتصادية الصعبة، وانعدام الأمان الوظيفي، فإن الباعة المتجولين يخطفون الفرح من اللحظات الصعبة، ويحاولون نشره في محيطهم وبين الأطفال. يتجلى هذا في المساحة اللونية التي يضيفونها على مشهد البحر، فأصبح من غير الممكن تخيل البحر من دونهم".[8]
يتضمن العمل صوراً التقطها الفنان للحياة اليومية في غزة حديثاً، وأخرى مأخوذة من أرشيفه وأرشيف عائلته الذي يحتوي صوراً توثيقية للحياة في غزة منذ العام ٢٠٠٥. على الرغم من تلاشي أجساد ووجوه الباعة بين الأغراض التي يبيعونها، فإن الفنان يتعمد تكرار صورتهم ليملأوا المشهد، ويظهروا كعنصر سيادة على البحر. وفي الوقت ذاته، يشير هذا التكرار إلى التنبؤ باستمرار نمو هذه الشريحة من الطبقة العاملة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، وحالة الحصار التي تعيشها غزة.
السيادة على أنماط العمل، السيادة على الإنتاج الفنيّ
يبحث معرض "لكن هذه الأشياء يجب أن تخترع" في أشكال التنظيم الذاتي، ويعرض أعمالاً وأبحاثاً وتدخلات فنيّة منجزة أو قيد الإنجاز لـ ١٨ مجموعة مستقلة ومنظمة ذاتياً، تتضمن المجموعات الفنيّة والتعاونيات الإنتاجيّة والزراعية والهندسيّة. يوفر المعرض، أيضاً، حيزاً تجريبياً لهذه المجموعات، عادة ما يكون مكلفاً لها.[9] معظم الأعمال المعروضة تتخذ شكلاً تجريبياً، وتسعى إلى خلق أشكال جديدة من الإنتاج مبنية على التعاون الأفقي والنهج التشاركي المجتمعيّ، فينعكس هذا في الأساليب الفنية والجماليات الموظفة في الأعمال، والمختلفة كلياً عن تلك التي نراها في الجاليريهات والمعارض التي ترتكز على الممارسات الفنية لأفراد، ويكون فيها الفنان هو المحور. وما يجعلها مختلفة، أيضاً، هو أنها أقرب للحياة اليومية والقضايا المجتمعيّة الراهنة. تؤكد الأعمال المعروضة على قدرة الخيال وأهميته في تحدي الهيمنة الرأسمالية على أنماط الإنتاج، وتنطوي بعضها على محاولات لتقويض شكل العمالة والطبقات القائم. نمط الإنتاج الذي تطمح له هذه المجموعات، كما نمط إنتاج أعمالهم المعروضة، غير محكوم بإملاءات خارجيّة تنظم فيه الجماعات بشكل غير عضوي وشبه قسري لإنتاج منتوجات، سواءً أكانت سلعاً أم منتجاً ثقافياً، تحقق رغبات وتطلعات ومصالح الفئات الأقوى.
في فصل "ماذا عن الخراف؟"، يعرض الفنان بنجي بوياجيان وصديقه حسن زواهرة عملاً فنياً تركيبياً مكوناً من رسومات، وأجبان، ونصوص، وأدوات زراعة قديمة بعنوان "حلمٌ من أرضٍ وخرافٍ". يقدم العمل تجربة بنجي وحسن في التنظيم الذاتي، التي، عبر التخيّل، تخرج من أسوار النظام الاستعماري الرأسمالي النيوليبرالي القائم في فلسطين لخلق يوتوبيا تتجاوز نقيضها، وتطرح أدوات تفكير وإنتاج قائمة على عملياتها الداخلية، وحلماً بمستقبل أفضل للطبيعة والبشر. تقع هذه اليوتوبيا في قرية المعصرة التي يقطنها حسن (مزارع ومعلم تاريخ)، الذي جمعه ببنجي قبل ٧ سنوات اهتمامهما المشترك بالزراعة، وحلم حسن بأن يمتلك قطيع خراف، وذلك لتحقيق الاكتفاء الذاتي والسيادة الغذائية. يأخذ الفن في هذا الشكل من التنظيم دوراً عضوياً مشتبكاً مع فعل الزراعة ليخلق نموذجاً مغايراً للعمل الزراعي، ولأدوار من يشتغلون فيه، وليكون منفتحاً على المجتمع، وعلى قابلية تطويره ضمن عملية تخيل تشاركية مع المستخدمين والمستخدمات. يعرض العمل، أيضاً، آثاراً لهذه اليوتوبيا وهي المطرقة والمنجل.
جزء من عمل "حلمٌ من أرضٍ وخرافٍ"، 2021، بنجي بوياجيان وحسن زواهرة، معرض "لكن هذ الأشياء يجب أن تخترع"، مركز خليل السكاكيني الثقافي، 2021.
بشكل عام، يوظف بوياجيان الأركيولوجيا وجمع آثار المشهد الطبيعي في فلسطين في مجموعة من أعماله، ولكن في هذا العمل يقلب مفهوم الفعل الأركيولوجي المرتبط بدراسة الماضي، أو ما هو قيد الاختفاء. تغدو المطرقة والمنجل ذوا اللون الشاحب، اللذان اندثرا كغيرهما من أدوات العمل اليدوي، وأصبحا غير مستخدمين حالياً في نمط الإنتاج الرأسمالي، أدوات بناء يوتوبيا حسن وبنجي. يحيل وجود المطرقة والمنجل، أيضاً، إلى الرمز الشيوعي الذي تم ابتكاره خلال الثورة الروسية، والذي يعبر عن التحالف بين المزارعين والعمال الصناعيين نحو نظام اشتراكي يسعى إلى تغيير أشكال الإنتاج وأنماطه.
قدم المعرض كذلك التمويل اللازم لحسن وبنجي لشراء خاروفين إضافيين ليحققا الاكتفاء الذاتي المنشود، الذي يتجسد في مرطبانات المنتوجات الحيوانية والنباتية المعروضة ضمن العمل. ستمكن هذه اليوتوبيا حسن من تأمين مستقبله ومستقبل عائلته خارج محددات العمل المأجور.
ترتهن تمثلات الطبقة العاملة في المعارض الأربعة بالمنهجية والمقاربات التاريخية-الفنية التي يتخذها كل معرض، فمعرض "بلد وحده البحر" يعرض المواد الأرشيفية والأعمال الفنية ضمن رواية خطيّة-أحادية هدفها إثبات وجود كيان فلسطيني مزدهر اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً قبل النكبة، ويكتفي بتقديم المعروضات ضمن سرد وصفي لأحداث تاريخية كبرى، بلا إضافة سياقات تُسائل هذه السرديات وتفككها. فتظهر الطبقة العاملة الفلسطينية من منظور القوى الاستعمارية-الاستشراقية دون موضعتها في خطاب نقدي، أو ضمن مواد أرشيفية محلية، وأعمال فنية لا تعكس الدور المركب لهذه الطبقة في تاريخ الساحل الفلسطيني، فعلى سبيل المثال، يتم تشييؤها عند الحديث عن ازدهار اقتصاد البرتقال. أما معرض "فلسطين من الأعلى"، فيشتغل ضمن نظرة ثنائية، يجابه فيها تاريخ فلسطين من منظور أهلها (المنظور السفلي) تاريخ الاستعمار في فلسطين (المنظور العلوي)، فتظهر الطبقة العاملة الفلسطينية ضمن المشهد الاستعماري الحالي كرد على مواد أرشيفية تصور هذه الطبقة ضمن سياق استعماري مضى.
في معرض"هايدرا بيس"، تظهر شريحة من الطبقة العاملة، وهم الباعة المتجولون، ضمن منظور حميمي يعرف فيه الفنان محمد الحواجري علاقته الشخصية بالبحر ومخياله حوله بوجود هذه الطبقة، ودورها الإنساني المرتبط بإدخال الفرح إلى قلوب الناس، وإضافة عنصر البهجة إلى مشهد البحر المحاصر، مقدماً الجانب الإنساني على الجانب الاقتصادي، دون أن يتجاهل دور الحالة الاقتصادية التي خلقها الاستعمار في تنامي هذه الطبقة. أما معرض "لكن هذه الأشياء يجب أن تخترع"، فتمثل الطبقة العاملة نفسها كقوة فاعلة ضمن خطاب تحرري يتجاوز الشخصي، ويطرح أشكال انعتاق جمعيّة.
[1] بحسب المقولة القيّمية لمعرض "بلد وحدُّه البحر"، القيمة الضيفة: إيناس ياسين، القيم المساعد: أحمد الأقرع، المتحف الفلسطينيّ، رام الله، فلسطين.
[2] Zananiri, Sary. “Documenting the Social: Frank Scholten Taxonomising Identity in British Mandate Palestine”. In Imaging and Imagining Palestine: Photography, Modernity and the Biblical Lens, 1918–1948, edited by Sary Zananiri and Karène Sanchez Summerer, Leiden: Brill, 2021, pp. 283.
[3] Taqqu, Rachelle. "Chapter 8. Peasants into Workmen: Internal Labor Migration and the Arab Village Community under the Mandate.” Palestinian Society and Politics, Princeton: Princeton University Press, 2014, pp. 270.
[4] د. جاك قبنجي. "التوسع الرأسمالي الغربي وأثره في تكون العمل المأجور في فلسطين حتى عشية الحرب العالمية" صامد الاقتصادي، عدد. ٢٦، (شباط ١٩٨١): ص ٣١.
[5] بحسب المقولة القيّمية لمعرض "فلسطين من الأعلى"، اللجنة القيميّة: زينب شيليك، وزينب أزيرباديجان، وسليم تماري، ويزيد عناني، مؤسسة عبد المحسن القطان، رام الله، فلسطين.
[6] Stoler, Ann Laura, "Colonial Archives and the Arts of Governance." Archival Science 2 (1-2), (2002): pp. 87.
[7] بحسب المقولة القيّمية لمعرض "هيدرا بيس"، القيمين: بيترا هوسكوفا وحسام أبو سالم، بلدية رام الله، رام الله، فلسطين.
[8] محمد الحواجري (مولود العام ١٩٧٦)، فنان فلسطيني من قطاع غزة شارك في معرض "هيدرا بيس"، في مقابلة أجريت معه هاتفياً بتاريخ ٧ تشرين الثاني ٢٠٢١.
[9] بحسب المقولة القيّمية لمعرض "لكن هذه الأشياء يجب أن تخترع"، القيمة الضيفة: أديل جرار، مركز خليل السكاكيني الثقافي، رام الله، فلسطين.