الطفل والمربية: في سياقات للتساؤل والتحول

الرئيسية الطفل والمربية: في سياقات للتساؤل والتحول

إن المعنى المنتج في مسيرة البرنامج[1] ليس دخيلاً على التجربة ولا منعزلاً عن الأجساد التي نراها هنا، الأجساد التي تفاعلت مع المعنى وجسدته في أثناء مساقات البرنامج وحلقاته الحوارية في التخطيط والتأمل، لقاءات متسلسلة منهجياً في إعادة صياغة العلاقة (طفل/مربية) من علاقة مؤسسة على الثبات والأحادية والشكلية النظامية، إلى علاقة قائمة على التحول، والتعدد، والتنوع، علاقة مفتوحة على صيرورات وتحولات وقطائع في الفهم والممارسة.

تلك الرؤيا التي قامت على إنتاج تحولات عميقة في خرائط العمل التربوي بدءاً من عادات المربية (الهابتوس) حتى بنية الفضاء الصفي وطبيعة المجتمع فيه، لأجل تعليم وتعلّم يمثل نوعاً من إعادة الصياغة للتوجهات والهندسات والممارسات (الثقافية والتربوية) وما يرتبط بها من قناعات ورؤى ومشاعر.

في هذه اللحظة يجتمع ما كان رغبة وأصبح أجساداً مع التجارب التربوية لأطفال ومربيات تُعرض كسيرة حية لبرنامج كان فكرة، نظرية، تصوراً، وأصبح ممارسات مرئية وخبرة مستحقة متضمنة في الأجساد والفضاءات والنصوص والصور والفيديوهات، ستكون هذه المداخلة سيرة مختصرة للبرنامج، ووقفة تأمل حول المعاني التي أُنتجت فيه.

 

تأتي هذ القراءة كمحاولة لتكون بمستوى الحدث؛ الحدث اليوم هو تخريج ثلاثة أفواج من مربيات الطفولة، تخريج المعلمات اللواتي انتمين لبرنامج التكون المهني الذاتي المستمر، وهو مسار في البناء المعرفي والتطور الفلسفي، معرفة وفلسفة تجسدت في الأجساد، وتجسدت في الرياض على شكل أفعال وممارسات حولت الصف إلى:

  • مدينة ألعاب؛
  • مصنع للمعرفة؛
  • معرض لعرض الأشياء وتبادلها؛
  • ورشة للتجريب والاختبار؛
  • مسرح لأداء الأدوار وعرضها؛
  • مكان للتأمل والطمأنينة.

 

إنه الصف بمعناه الاجتماعي: يتضمن شيئاً من البحث وشيئاً من التأمل والتجريب ولعب الأدوار، ومناقشة القيم، وبناء الأسئلة، والكثير الكثير من المتعة والتخيل.

سلسلة من الأفعال؛ أفعال المربية وأفعال أطفالها، حلقة من الفعل والنمو تبدأ من معلمة ترفع الستارة عن الخيال والشغف من خلال غرض أو صورة أو دور تلعبه بجسمها، وتحلّق مع أطفالها في عالم من الحب والبحث والتساؤل، مسار لولبي من النمو والاستكشاف يغتني وينمو بخيال الأطفال وتدخلات المعلمة، في مجتمع للتساؤل والبحث والاستكشاف، أناس يقودهم الشغف والسؤال، سؤال ماذا يعني ذلك؟ ما هذا الشيء؟ وما هي دلالته؟ ما الذي يحدث؟ وماذا نفهم منه؟ وكيف يمكننا أن نساعد؟ ما الخبرة التي علينا إيجادها وتطويرها لنعالج القضية؟ وكيف نجعل العالم أكثر عدلاً وأكثر معنى وأكثر إنسانيةً؟

لم يعمل البرنامج على تكوين معلمة خاضعة لروتين أو تقليد مدرسي متقادم، بل حررها؛ حرر جسدها من كرسي المعلمة، وحرر روحها من بوتقة النظام، فعمل على خلق مجموعة من المعلمات المؤمنات بالثورة؛ الثورة القائمة على السؤال والتساؤل، معلمة تقف دوماً أمام طلابها لتقول أتساءل حول ما الذي يحدث، أفكر ماذا يعني ذلك؟ علينا أن نتخيل الحل معاً.  أحب أن أعرف ماذا تتخيلون، وكيف يمكننا تجاوز المشكلة.  يجب أن نبحث كيف نواجه الموقف، وكيف نزيد الإنتاج، أو كيف نقلل الاستهلاك، كيف نجعل الماء الذي بحوزتنا يكفينا لمدة أطول، كيف نعالج الجريح، ما الأدوات التي نحتاجها؟ كيف نعبر المنطقة الخطيرة؟ تعالوا ننظر في الخريطة لنحدد المخاطر ونأخذ أدوات تحمينا... .  إنها الأسئلة، لكنها ليست أسئلة محددة بإجابات، بل هي دعوة للتفكير والتأمل، دعوة للتخيل والإنتاج، دعوة للعمل.  إنها الأسئلة عندما تصبح أدوات بحث ومحفزات تخيل ومنهجية عمل وآلية إنتاج.

إنها المعلمة التي تصنع ثورة، فثورة الزاباتيستا في المكسيك عندما اختارت شعارها: لم تختر شعار: لنسير حاملين البنادق، بل اختارت "لنسير دوماً متسائلين"، لأنهم أدركوا أن التغير يحدث ويتحقق بالأسئلة، وليس بالبنادق.

 

فرح لأجل الذات وإنجاز في حقلي المهنة والهوية

أسس البرنامج ومعلماته لتعليم مبني على الفعل؛ فعل المربية وفعل طلابها، معلمة تؤسس التعليم وتبنيه على شكل مشروع، توفر له صفة الجذب، "تخلق لنفسها ولطلابها ارتباطاً عاطفياً وذاتياً مع الموضوع"، وتحضر المصادر والمهام، تطلق اللعبة؛ اللعبة التي تصبح مشروعاً، والمشروع الذي يصبح لعباً للأدوار، أدوار خبراء في الحياة: مصممو منازل ومدن وأحياء، مهندسو شوارع وأنظمة مرور، رجال إطفاء وشرطة، معتنو حيوانات وحراس غابات ومحميات طبيعية، مصممو برامج ضد الجوع والفقر والظلم، أخصائيون في تصميم الألعاب والملابس والأحذية والدمي.

معلمة تلعب دوراً من وجهة نظر، والطلاب يلعبون أدواراً من وجهة نظر أخرى، لينفتح الصف على حوارات ووجهات نظر واختلافات، صف حواري كرنفالي غني بوجهات نظر وآراء وأفراد متساوين متحاورين في مجتمع لا مَلِكَ فيه ولا قاضٍ.

ثم يظهر طرف من المجتمع؛ مؤسسة أو هيئة تخاطب الطلاب من داخل الدور كخبراء، وتطلب منهم خدمة اجتماعية إنسانية، وتفوضهم في القيام بها، ويتعهدون بذلك، ليتعلموا الخبرة عندما تقترن بالمسؤولية؛ رسالة من طرف متخيل تطلب تنفيذ مشروع على شكل منتج، خطة، تصميم أو خريطة أو نماذج مصنعة، أو بروشور أو كتالوج أو كتيب أو ألبوم صور: حماية المزروعات بطرق عضوية، تصميم نظام وأطباق غذائية صحية لأطفال في مدرسة، أو تصميم بيوت آمنة لأطفال لاجئين، إنقاذ جرحى في منطقة جبلية، تنظيم رحلة للفضاء لمساعدة فضائيين احتجزوا في الفضاء في مركبة معطلة.

إن هذا الشكل من التعلم القائم على عملية بنائية تحدث داخل سياقات حية ومحددة وبشكل فاعل، يحقق للعقل والجسد حياة إبداعية تفكرية متسائلة ومتوثبة ويقظة، تتجسد في المواد الخام على شكل منتجات مرئية ومحسوسة.  إن هذا الشكل لا يتعلق فقط بتعلم حقائق جديدة، بل يتعلق بالتوسع المستمر لمخطط الرؤيا، أو التصور المفاهيمي، الذي من خلاله نفهم العالم؛ فكل معلومة جديدة، كل دور نلعبه، كل مصدر نشتبك معه، يساهم في تطور مفاهيمنا وفي تغيير نظرتنا إلى العالم.

هذا التوجه الذي جعل طفلة في روضة المستقبل تقول لمعلمتها أثناء مشروع حول الديناصورات تخلله بحث عن أثر النفايات البشرية على الكوكب والحياة فيه: معلمتي! أنا لا أريد أن أشارك في خراب الأرض وقتل الحيوانات.

ما تقوله الطفلة يقول الكثير عن هذا الشكل في التعليم.  هذا الشكل الذي جمع المعرفة والفلسفة والقيم والتساؤل ضمن منهجية للخبرة والمسؤولية معاً في أسلوب تربوي واحد، قائم على الفعل والبحث والتخيل والإنتاج معاً.

ما قالته الطفلة يلخص أن هذا الشكل ليس مجرد حصة في التعليم المعرفي، بل هو حصة في بناء إنسانية طفلة، طفلة تبني نفسها بشكل واع ومسؤول في إطار فهم علاقتها بالعالم.  إنها ترى العالم بيتاً، وترى نفسها مسؤولة، وأن مسؤوليتها اتجاه العالم هي معنى كونها إنسانة.

إنه تعليم مبني على المفاهيم؛ مفاهيم الحياة والتكامل والبيئة والتنمية، ولكنها ليست مفاهيم مجردة، بل هي مفاهيم داخل علاقات؛ علاقات جديدة تعيد للعالم التوازن.  أطفال زائد أغراض زائد كائنات، إنه تعليم ما بعد العصر الرأسمالي؛ عصر الربح واستغلال البيئة ونهب خيارات الحياة، تعليم قائم على تكامل علاقة إنسان وحيوان وغرض، تعليم يسعى إلى إعادة وضع الإنسان في الكون كمسؤول لا كمستغل.

هذا التعليم قائم على فهم عميق لطبيعة العلاقة بين الإنسان والعالم، فالعالم لا يقدم نفسه لنا على طبق من ذهب، بل على شكل مهمة، وهذا ما يفعله التعليم اليوم، يقدم العالم للأطفال على شكل أسئلة تحتاج لبحث ونقاش، يقدم على شكل تحديات وقضايا بحاجة لحلول ومبادرات، يقدم على شكل مواد بحاجة لإعادة تشكيل، ما يجعل هؤلاء الأطفال يتعرفون على العالم وهم منخرطون في تشكيله.

 

ضمن برنامج لأجل أطفال بمائة لغة وألف يد

هو التعليم القائم على توظيف المائة لغة بتعبير لوريس مالجوزي والمائة قدم، تعليم يزحف مثل كائن بمائة قدم يلامس الأرض كلها، وينقش عليها خطواته، هو تعليم يجمع بين مائة فعل ومائة لغة معاً، تعليم لا يقتصر على إثارة العقول، بل يعمل على دمج الأجساد في عملية التعلّم، تعليم ينتج مواده ومنتجاته وينتج التعبير، يعبر عنها بلغات متعددة، يزوّد الأطفال والبالغين بالعديد من الإمكانيات الإبداعية والتواصلية، لأنه قائم على فهم ثقافي اجتماعي للأطفال، ليس كأطفال مجردين (في هذا التعليم لا توجد أنا مجردة أو متعالية أو معزولة) بل ما يوجد هو أطفال في سياق حقيقي اجتماعي ثقافي (أنا الطفل، وأنا الجماعة، نحن الصف) أنا المشاهد وأنا اللاعب للدور، وأنا الصانع للأشياء، وأنا المعبر عنها.  إنه الطفل التعددي، الطفل الصيرورة، الطفل المتحول، الطفل الذي يصير بالغاً رويداً رويداً.  إنها أيضاً المعلمة، أنا البالغ الذي يحافظ على طفولته، فكلنا أطفال وبالغون معاً، مسؤولون أحياناً، ومتطفلون أو اتكاليون أحياناً أخرى.  إننا أبناء السياق الذي نعيشه، وأبناء الثقافة التي تحملنا ونحملها، وأبناء الحياة والخبرة التي دفعنا ثمن امتلاكها.

ليس هو التعليم الذي يحدّث الأطفال عن المجتمع وعن القيم، وليس هو التعليم المبني على الموعظة أو النصيحة، بل هو التعليم القائم على الخبرة والمسؤولية، لا يرسم للأطفال صورة عن مجتمع منشود، مجتمع النظافة والتعاطف والتضامن، مجتمع الخير والإيمان والفضيلة، بالعكس هو تعليم يبني الأطفال في الصف على شكل مجتمع، ليتعلموا التضامن بمعناه العميق؛ أي التشارك في صنع الأشياء، نصنع صفنا ونجعله مجتمعاً، نعيش فيه معاً، نفكر فيه معاً، نختلف ونبني هوياتنا المختلفة، لكن نستمر معاً، هو التعليم الذي يبني الصف كمجتمع لنتعلم أن نعمل معاً، ونفكر معاً ونكون مسؤولين معاً، نصنع القيم والفضيلة كحقيقة، لا نتحدث عن الخير بل نفعله، لا نربط القيم بعالم مثالي أو بقانون دولة أو سلطة غيبية، بل نقدم القيم بمعناها الحقيقي؛ إنها الإنسان ومسؤوليته في بناء العالم، في بناء إنسانيته فيه، وإنه التعليم الذي يعيد للإنسانية أهم ما تفتقده اليوم؛ ألا وهو الحكمة.

في هذه القاعة معلمات، وتجارب وقصص، في هذه القاعة برنامج كان رؤيا وصار أجساداً محملةً بالوعد، هنا معلمة بدأت البرنامج قبل سنوات، وقالت لنفسها في اليوم الأول ما الذي أتي بي إلى هنا؟ ما هذا الذي يطرح؟ وبقيت لسنوات تحضر كل لقاء تأتي محملة بالشغف والمخططات، وتعود لروضتها محملة بالأدوات والأسئلة.  سنوات لم تفقد الشغف ولم تغب، عن لقاء، والأهم أنها ترفض أن تتخرج وما زالت تسأل، ما الذي أتي بي إلى هنا؟

مبروك ليس التخرج فحسب، بل الخروج إلى الميدان، لنحدث فرقاً صغيراً، لكن له معنى ودلالة.

وشكراً لكن على ما بذلتن من جهد وروح وإصرار.

مالك الريماوي.

 

[1] برنامج التكون المهني لمربيات الطفولة المبكرة الذي تنفذه وحدة التكون التربوي في برنامج الثقافة والتربية في مؤسسة عبد المحسن القطَّان.